الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي بن تميم.. وهموم المثقف العربي

علي بن تميم.. وهموم المثقف العربي
13 ابريل 2016 21:42
د. حسان فلاح أوغلي تابعت في الأسبوعين الفائتين حلقتين من برنامج «روافد» على قناة العربية، حيث استضاف البرنامج وجهاً ثقافياً بارزاً من وجوه الثقافة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو الدكتور علي بن تميم. وقد لفت نظري تشعب الحوار في البرنامج، وتطرقه إلى قضايا فكرية وثقافية مهمة تتصل بمجتمعاتنا العربية كافة. «يا لها لذة تنزهت الأرواح فيها»... هكذا يبدأ الدكتور علي بن تميم بصوته «القصبي»، حسب تعبير مستضيفه الإعلامي أحمد علي الزين، وقد كانت نزهة مختلفة في تحليلها ومراميها وعمقها، فالدكتور علي مثقف مهموم بقضايا مجتمعه، وواحد من أصحاب المشروعات الفكرية التنويرية، ومن قبل هو ناقد يفكك القضايا التي تعرض له، ومن هنا، جاءت أهمية هذا الحديث الذي امتدّ على حلقتين، وغلبت عليه الرؤية النقدية التأصيلية التي عادت إلى كل أمر في جذوره ومنابته، وفرّعت كل قضية إلى مجمل قضايا، ولم تشأ هذه الرؤية أن تقدم قوالب جاهزة تصدمنا عادة في حوارات المثقفين، بل حرص صاحبها على أن يقدمها بسلاسة وبساطة وعمق، فلم يُغرب، وهو الذي يرفض الإغراب، ولم يسطح أمراً، وهو الغائص في العمق. لقد أحسن محاوره حين جاء به إلى الراهن، وعاد معه إلى الغوص في الماضي والتراث، وفي كل ذلك كان علي بن تميم مختمراً من المعري إلى محمود درويش، ومن الفقه ومسائله إلى ما يسمى «الربيع العربي»، وأنا هنا، لأقف عند بعض القضايا التي أثارها، والتي أعطى فيها جواباً فصلاً لا يحتمل أي نوع من التأويل، ولعلّ بنيته النقدية كانت وراء هذا الوضوح والعمق، إضافة إلى شخصه الهادئ والعميق، التنويري والجريء. مع الآخر ففي وقفته مع الآخر، وقف الدكتور علي مع الاستعمار، وما نتج عن هذه المرحلة، ورواسب المرحلة الاستعمارية، لكنه لم يشأ أن يريح ذاته -مجتمعه- من المسؤولية، فتلك مرحلة انتهت، لكن المرحلة التالية شابتها تشوهات أخطر من تشوهات المرحلة الاستعمارية، ويتمثل أهمها في الأمية التي تعيق حركة التقدم، وغياب التعبير الحر على كل صعيد، مما أدى إلى خسارة مزدوجة ومتوازية للإبداع والنقد، وذلك في علاقة جدلية ألقى عليها الضوء ببراعة، فالنص الأدبي وقع تحت وطأة الاستسهال، بسبب غياب النقد والروح النقدية؛ فالنقد نفسه غيّب نفسه.. يقول الدكتور علي: «أسرفت النقدية في الغموض فأعرض القارئ عنها»! كلاهما غائب: الإبداع «للأسف نجد غياباً للإبداع الكبير برغم بعض الأصوات» والنقد لغموضه وزهده بالإبداع المقدّم، ولغياب ما عبّر عنه بالتعبير الحرّ... وهذا بدوره أثر في الشباب واهتماماتهم، ولنا أن نتخيل أهمية هذه الإشارة عندما يبتعد الشباب عن الإبداع والنقد، لتصبح اهتماماتهم في مكان آخر... والمرأة ليست شعاراً لديه، والمناداة بدورها ليست منشوراً أيديولوجياً، فبعد أن بيّن أهمية أن تقوم المرأة بدورها، ومن دون أن يدافع عن دورها التاريخي وممارستها له، ومن دون أن يختلق الذرائع لدحض الرأي القائل إن المرأة أخذت دورها، أعطى خلاصة مهمة، وأكد أن ما نراه اليوم من مشاركات للمرأة في كثير من البلدان يقع تحت مسمّى حصة المرأة، وأوجز «هناك أنظمة استعملت المرأة كواجهة، وليس اعترافاً بدورها». وفي هذا نقد، لكون المرأة من المكملات لإعطاء صورة برّاقة عن الأنظمة في الوقت الذي لا تؤدي فيه المرأة دورها الذي يجب أن تؤديه. مع التراث وفي وقفته مع التراث، ظهر الهاجس التنويري عند د. علي، فهو على تواصل مع التراث، ولا يمارس قطيعة معه، كما يفعل الحداثيون، ولكنه يقارب التراث لفهمه بغير استسلام، ومن منارات التراث اختار المعري المتأمل والمفكر، والمتواصل مع المجتمع: «يقدم المعري نموذجاً للمثقف الأصيل.. مرجع في فهم التراث.. لم يكن ناقلاً... نزع إلى التأمل.. أدخل الفلسفي والفكري في شعريته... أضاف نصوصاً مؤثرة في الثقافة العالمية، رسالة الغفران، يعلم السكينة الصاخبة، علاقتي بالمعري قراءة غير مستسلمة، لأنني تعلمت من منهجه». تعلم من المعري الحوار والنقاش لا الاستسلام، وهو المبدأ الذي يسير عليه حتى وهو يقرأ المعري نفسه. وقد كان سؤال محاوره عن مرموزية تحطيم تمثال المعري باباً للانطلاق إلى قضايا فكرية غاية في الأهمية، فرأى أن هذا التحطيم يعبّر عن رحلة «الربيع العربي»، المخيبة الآمال، هذا «الربيع» الذي لم يعترف بحرية التعبير والفكر والتنوع، وكشف عن «تحديات تواجه الثقافة تحتاج حروباً للعقل والقلب والفكر». إن ما يحتاجه مجتمعنا هو حروب عدة، وحرب واحدة لن تكفي. مع المثقف لا يحمّل علي بن تميم المسؤولية في هذا المجال لجانب واحد، ولم يبرئ طرفاً على حساب آخر، بل فرّع المسؤولية ما بين فرد ومؤسسات وأنظمة وعوامل خارجية، ويلفت الانتباه هذا القدر من النظرة العميقة والموضوعية في استجلاء الأسباب والعوامل، ونحن في قلب الأزمة التي تعصف بنا. فالمثقف مسؤول ومقصر، والعلاقة بين المثقف والناس شبه منقطعة، وتقصير المثقف لا يتحمل مسؤوليته وحده، بل هو ناتج عن وقوعه ضحية أحزاب لم تكتمل مشروعاتها الثقافية، إضافة إلى وقوع المثقفين ضحايا لتجارب غير ناضجة أدخلتها في الفوضى والغياب..! والأنظمة العربية تتحمل مسؤولية نمذجة المثقف بين مثقف السلطة والمثقف المهادن، فأغلب هذه الأنظمة «لم نجد فيها المؤسسات القوية أو الدولة الوطنية القوية، التي تمنحه تقديم التنوير وتسليط الضوء على التراث الميت». فكان، حسب تعبيره، المثقف الضحية، لأنه لا يملك الحرية في قراءة التراث... ويعزز رأيه بدور المثقف بتركيزه على دوره في قراءة التراث، فكما فعل هو في قراءة المعري قراءة غير مستسلمة، يفترض في المثقفين عدم الارتهان، والعودة إلى قراءة فاعلة في التراث أطلق عليها مصطلحاً مميزاً: القراءة النابضة.. «من الأسباب الجوهرية في تسويغ المرتهن للعصابات الإرهابية غياب القراءة النابضة للفقه، مما أدى إلى الفوضى العارمة، فغاب صوت الثقافة المنفتحة وبرزت الفتاوى الضيقة». وبين الهوية والهوى والتنوع والاعتراف بالآخر تنقّل الدكتور علي من محمود درويش إلى إدوارد سعيد وبورخيس، لتظهر لنا أهمية المثقف الحقيقي القادر على الخروج مما نحن فيه، معرجاً على جائزة الشيخ زايد للكتاب، وهو أمينها العام، قائلاً: إنها لم تلتفت للمبدعين فحسب، بل لصناع التنمية والثقافة، وجعلت من يستحق على قدم المساواة في قمة التكريم». الإسلام السياسي وفيما يسمى «الربيع العربي»، لم يغفل د. علي بن تميم- في إلماحة قوية- دور القوى العالمية فيما يجري: «القوى العالمية استغلت الإسلام السياسي الذي لا يمتلك مشروعاً». فقد لاحظنا أن «الإخوان المسلمين» الذين وصلوا إلى السلطة في مصر أسقط في أيديهم، لأنهم وجدوا أنهم لا يملكون مشروعاً لبناء دولة. وبدا الدكتور علي مرتاحاً لـ «الحصانة» التي اكتسبها المجتمع الإماراتي لمواجهة أخطبوط الإسلام السياسي، وذلك بفضل الالتفات المبكر إلى خطر هذا الخطاب، والعمل على إيجاد خطاب بديل يمثل الوجه الحضاري للإسلام، انطلاقاً من إعادة قراءة المناهج الدراسية، ولا سيما في مادة التربية الإسلامية، حيث عزلت النصوص الفوضوية التي تريد أن تجعل «الجهاد» شعاراً مغرياً، وتشوه رسالة الإسلام السمحاء التي جاء بها، بوصفه دين محبة وسلام وصفاء، هذه الرسالة التي يجب أن تصل للجميع، ولهذا يقول الدكتور علي: إن اختيار اللون الأبيض لمسجد الشيخ زايد الكبير لم يكن عبثاً، فهو بهذا اللون الذي يرمز للصفاء، كأنما يلوّح لك للدخول في صلب الحضارة الإسلامية. قراءة واعية ما قدمه الدكتور علي في «روافد» أحمد علي الزين، يمثل قراءة نقدية واعية، تقرأ الواقع قراءة حقيقية، بغية الحفاظ على التراث، ولكن بفهم غير استسلامي، والانفتاح على الحضارة الحديثة من دون هوىً، بالحفاظ على الهوية، وابتعاد عن الغموض، لعلّ سيلاً من الإبداع الكبير الذي تفتقده الساحة العربية ينهمر، فيحدث تفاعل ما بين النقد والإبداع للوصول إلى تعبير حر يعترف بالآخر ولا يقصيه، ينصفه ولا ينتقصه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©