الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غارسيا فونس.. راحتان مثقلتان بالسّراب

غارسيا فونس.. راحتان مثقلتان بالسّراب
13 ابريل 2016 21:42
ترجمة - أحمد حميدة مترحّل بين الأزمنة والأمكنة، يصِلُ غارسيا فونس بإحساسه الوارف بين دروب الحياة، متموقعا عند مفترق القارّات والعوالم.. يأتيك كآخر الملوك المتيّمين بالجمال، بموسيقى مخمليّة ملفوفة ومضمّخة بعطر الأقاصي، وحيثما تتقاطع طريقه مع مترحّلين مثله، فإنّه لا يتردّد في الإقبال بشغف على تقاسم رغيف الموسيقى معهم.. لا شكّ أنّ الأزمنة أضحت خشنة، ولا تسمح لرونو بجعل جميع أصدقائه على قيد السّفر، فالكرم غدا بائسا، وأرجل الثقافة باتت غائرة في الرّمل، ومع ذلك فإنه وبرفقة لفيف من الأصدقاء الأثيرين، لا ينفكّ يمعن في الرّحيل، لتومض النّار، وليلتئم حولها المدعوّون لأعراس الجمال، فحميميّة الصّداقة ونفحات المحبّة المتبادلة وحدها تصنع الأعاجيب، ويبقى كيكو رويز، نيغرنيتو تراسنت وكيفان شميرامي.. هم رفقاء الرّوح.. إنّ الرّيح لخبيرة بتهويمات غارسيا فونس.. كما أنّ غارسيا فونس خبير بحكاية الرّيح. حوذيّ الألحان أحيانا ما ينتاب الظّمأ آلته الأثيرة، فيطفئ ظمأها بنقرات على عنقها، فترتجف وتزمجر، لتحاكي قرع الطّبول في الأصقاع الرّمليّة، وقد تلمح نجمة الجنوب، فتغلق حينها مداخلها وترخي أوتارها، وتبقى على قيد الانتظار، مستسلمة للرّقاد قرب قدميه، معشّشة داخل حلمه، منتظرة عودة حوذيّ الألحان من أسفاره الدّاخليّة. هي تدرك إذن، تدرك بأنّها الرّحم التي بداخلها تتلوّن الأحاسيس والمشاعر والانفعالات. هكذا ستتحوّل بوحي من اللّحظة، من ربابة هنديّة، أزيزها فائح بروائح البخور، إلى آلة سيتار، يسري رنينها في الضّباب، إلى قيثارة عاشقة، إلى آلة إيقاع شرقيّة، إلى شلاّل من الأصوات الغليظة، أو إلى عود خارج من أودية الموسيقى، وحالات زمرّديّة.. كثيرة أخرى، إنّها تموء، ثمّ تبكي للقمر، فيتصاعد البكاء ترتيلا في الفضاء. وأحيانا ما تغوص في سراديبه الدّاخليّة لينفلت منها نشيد عميق. ويتعاقب هذا الهمس والفيضان، في إبحار يتمّ بعيدا عن كلّ المرافئ، شيئا فشيئا تنبعث ارتجافة خفيّة لتوقظ ألحانا مدفونة في الأعماق، وينساب ماء نافورات غرناطة نحو البحر، مأخوذ بهذا الفيض يستحثّ القوس الكنترباص على الإسراع ثم الرّكض، فتصهل وتثب لتسابق الرّيح حتّى انحباس النّفس.. على مركبة الإيقاع هذه، تصعد خميلة رونو نحو النّجمة ذات النّغم المتوهّج، ولا يبدو رونو عائدا من نزال، ولكنّه يبدو توّاقا إلى حشدنا في سلامه الدّاخليّ، ومن التّناغم المفاجئ، يفرش البساط الأرجواني لأنغامه الغامضة.. النّابضة على إيقاع الزّمن الرّاهن، ولكن أيضا على إيقاع تلك الأنغام المسافرة منذ فجر البدايات، وكالسّفينة الشّراعيّة يقتحم أماكن لا تفصح عن أسرارها من النّظرة الأولى.. فمتى كانت النّدفة الأولى من الشهد المصفّى، فإنّ على الأذن الإمعان في الاستغراق وفي إصاخة السّمع، حتّى تتيه في المتعة، عند منعطفات المهارة والحذق، ومنعرجات شاعريّة مربكة وموجعة، وكم يشبه أسلوبه في نقر الأوتار بالقوس بنقر العصافير للحبّ عند انتهاء مواسم الهجرة، إنّه أسلوب متفرّد، نادر وغير عادي.. و فجأة تنفلت «الجدّة» من أسر الخشب، ويخفت صوت الباص في البيت المغلق للمرافقة الموسيقيّة، ليسري الغناء في أوصال هذه العجوز، فتهتزّ وتسخن، ليومئ صوتها إلى وجهة السّفر.. مروّض الأنغام كمروّض الأفاعي، يجعل غارسيا فونس الأنغام تتمايل قبل أن تنتصب أمامه، وأحيانا ما تصبح الكنترباص قبّرة معلّقة في الهواء في غمرة خفقان الأصوات، وبمجرّد أن ترتاض النّغمة الحادّة، تتوارى آلات الكمان مهزومة.. ما بين عالمين وعند تقاطع قارّتين، وحيث توحّد «أخوّة التوابل» الجميع، يقتفي رونو، انعطافات موسيقاه.. «على الموسيقى أن تحتفي بهذا العالم الذي يتجاوز معارفنا.. هذا العالم الذي ينبغي أن يلتقي فيه البشر وموسيقاهم في مناخ من الألفة والودّ والمحبّة.. هذا العالم الرّحب الذي يتّسع لأمل الجميع في رقيّ الإنسان حيثما كان..ما بين العوالم هو احتفال ودعوة إلى الأمل.. الأمل في أن تنفتح قلوبنا جميعا إلى النّور.. يقول رونو غارسيا فونس. احتفاء بالسّفر، لقاء وتواصل، فموسيقى رونو غارسيا فونس هي لوحدها عبور نحو الذّات، فكم من قافلة مرّت عبر آلته، مخلّفة لفائف من الحرير، أكداسا من الملح، وأطيافا من المسافرين وروائحهم، فقد عقد غارسيا فونس مع آلته اتّفاقا سريّا، على أن تكون هي قلبه، أن تُبقي على الحرارة مرتفعة داخل بيته، وأن تبقى طيّعة كالأنثى بين أنامله.. ثمّ أن تنتحب وتنوح وتضحك، أمّا هو، فعليه في ساعة متأخّرة من اللّيل، مداعبتها بعيدا عن الأنظار.. تنفتح الضّفاف، وكلّ الأشياء تتدانى، فلا تبقيك هذه الموسيقى الموهوبة في الخلف، وإنّما تمشي أمامك مترعة بأشعّة الشّمس وراحتاها مثقلتان بالتّمر والحليب.. سيقصّ عليك بعضهم حكاية رونو، أمّا أنا فلا أعرف عنه إلاّ ما حكته لي الرّيح، لقاء بآلة الكنترباص في سنّ السّادسة عشرة، المعلّم فرانسوا رباث، اكتشاف موسيقى الجاز وتحرير الآلة عن طريق الارتجال، القوس الذي يقفز ويمتطي صهوة الكنترباص ليستحثّها على الرّكض، استخدامه للوتر الخامس والجرس الحادّ المجلجل كمركبة سادرة نحو السّماء، وكخيميائيّ، بحثه الدّائب عن تلك الذرّة الصّوتيّة التي تحيل رتابة الرّصاص إلى ذهب يتوهّج رنينه في الفضاء، ثمّ قدرته العجيبة على رمي الصّوت حتّى يأتيك على مهل ودونما افتعال.. فجوهر فنّه هو موسيقى الغرفة التي جعل منها رونو فنّا حميما، ينهل من معين الباطن، ليطلّ دائما على ما هو كونيّ في هذا الوجود، هاجسه؟.. أن يكون صائغا للتّوازنات بين الأجراس والألوان، وأن يستجمع ما يكفي من القوّة لاختراق جدار الصّوت. مبحرا بطلاقة في مدى الأصوات والأنغام، فإنّه عليم بكلّ مرفأ وبكلّ حوريّة ماء.. موسيقى الأجرام رونو غارسيا فونس لا يعبأ بالحدود، إذ لا يستوقفه غير السّراب وحميميّة العلاقات بين البشر. لقد أقرّ الحكماء بأنّ كلّ شيء في هذا الوجود نبض وذبذبة، وموسيقى رونو هي كذلك، نبض وذبذبة وانخراط في موسيقى الأجرام.. تستحيل الكونترباص معه إلى واحة للإنسانيّة جمعاء، بها يتجدّد نسغ الموسيقى العالميّة. ففي بوتقته تتمازج وتتداخل الرّوائح والأحلام والتّرانيم والرّقصات التي تصنع الحياة، فتتلوّن الحياة بتلوّن الزّمان المتغيّر على الدّوام.. لا ينبغي لمن شاهد رونو أن يقول «كنت من الحاضرين في حفل رونو غارسيا فونس»، بل يجب أن يقول، كنت أمام شجرة الفصاحة والبلاغة، جاثما على ركبتيّ، أتنشّق هواء مفعما بروائح كلمات آتية من الأقاصي، إنّه السفر المتحرّر من جاذبيّة الأرض، سفر نرافق فيه الأرض وهي تسيح عبر دروب الموسيقى. يجب أن نقول بكلّ بساطة إنّ رونو يعزف بطريقة متفرّدة على آلة الكنترباص، وإنّه يمتطي هذه الآلة على طريقة دون كيشوت، حتّى أضحت هذه الآلة مولّدة للأنغام والألحان، تتصرّف في الأصوات العالية والباسقة كما لا تقدر على ذلك آلة الكمان، فموسيقاه سواء لامست الجاز، الفلامنكو، الموسيقى الكلاسيكيّة أو الجاز- المزيج، فإنّها وقبل كلّ شيء مغامرة إنسانيّة رائعة.. إنّ رجل الانعطافات هذا، هذا المنشد للكمال، يترك الباب مشرعا لجنيّة الارتجال، المهووسة بهذه الخميلة المعبودة.. يقول المتيّمون به إنّ عزفه رهيب، وقد يقول من لا يعرفه إنّ عزفه ساحر وعميق.. موسيقى بلا أقفاص في إسبانيا التي نشأ فيها والديّ جُبلت على الإنصات للفلامنكو منذ الصّبا الباكر.. فتربّت أذني على إيقاعات هذه الموسيقى التي امتلأت بها، فملكت عليّ حسّي وأنا في سنّ الثامنة عشرة.. أمّا الموسيقى الشّرقيّة التي لها علاقة بموسيقى الفلامنكو فقد شغفت بها أيضا وأدمنت سماعها وخاصّة منها الهنديّة وموسيقى الشّرق الأوسط.. فكان من الطّبيعيّ والحال تلك، أن تتملّكني الرّغبة في إيجاد جسور تواصل بين هذه الأجناس جميعها. لا أعتقد في وجود موسيقا مقفّصة .. هناك.. الموسيقى.. وبعدها.. سطوح وملامح.. أي اختلافات في التّقنية لها أهمّيتها.. ولكن جميع الأجناس ينتظمها خيط واحد.. (غارسيا فونس)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©