الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صندوق العتاد الذي صار مكتبة

صندوق العتاد الذي صار مكتبة
13 ابريل 2016 21:42
لؤي حمزة عباس 1 منذ أكثر من عشرين عاماً وأنا أنام في غرفة المكتبة، أستلقي إلى جوار الكتب وأُغمض عيني على مشهد الرفوف الممتدة على الجدران وأراها شاخصة بانتظاري فور أن أنزل في مياه النوم، تتحرّك أمامي بالأحرف المذهّبة على جلود بعض أغلفتها والحواف الورقيّة المتآكلة لبعضها الآخر. كتب يُعاد ترتيبها في المنام لتحكي حكاية حلم جديد. أحياناً لا تكون الكتب بانتظاري، أرى مؤلفين أحبُّهم في أماكن غريبة مفاجئة بدلاً منها، يختبئون خلف شجرة عالية عجفاء أو جدار محفّر قديم أو باب مرصّع موصود، ما أنْ أعبر الشجرة أو أتجاوز الجدار أو أفتح الباب ولو على سبيل الخطأ، حتى يمدّ المؤلفون ألسنتهم نحوي ويتضاحكون بشعور طويلة مهوّشة مثل اينشتين في صورته الشهيرة، حتى أكثرهم كآبة ومأساوية، يمدّ لسانه ويتضاحك وقد حضر بديلاً عن مؤلفاته، عندها تكون أحلامي متاحف للسعادات. 2 فوق الكتب المرتّبة على الرفوف، أدسُّ كتباً رهن القراءة وملفات وصحفاً أحياناً، أقرب الكتب إلى منامي، دسست فوقها كتباً أنيقة بحجم الكف تزيّنها خرائط ملونة تصلح أن تكون أدلةً للسائحين، إنها كتب المدن البعيدة الحافلة بالمسرة والنور، كلما ضاقت الحياة من حولي، وما أكثر ما تضيق، زادت كتب المدن كتاباً أو كتابين. علّمني النوم إلى جوار الكتب أن أحدّث نفسي، متصنعاً الحكمة، عن الحياة في أكثر من مدينة في وقت واحد، كلّما تصفّحت كتاب إحدى مدن العالم الجميلة، في طريقي إلى النوم، رأيتني، فور أن أنام، أسير في شوارعها، أمرّ تحت بواباتها العتيقة الشاهقة، وآكل في مطاعمها، وأصرخ في مراقصها الضاجة شبه المظلمة، أصرخ وسط ضجيج الراقصين الذين تكشفهم لطخات ضوء سريعة لكي لا يسمعني أحد، فلا قدرة لي على أن أبوح بأحزاني في صرخة واحدة، لكنني مع المكتبة يمكن أن أتحدّث عن الجانب الأوسع من سيرتي ككاتب حزين. 3 ليست سيرة الكاتب، على ما أظن، سوى رحلته مع الكتب من الولادة إلى الممات. قبل الكتابة وبعدها يحضر كتاب وحيد في حياة الكاتب مثل نجم باهر في ليل الرغبة، كتاب واسع ينادي الكاتب في كلِّ وقت، صفحاته تبدأ ولا تنتهي، لا يبحث في العادة في موضوع واحد ولا يحمل اسم مؤلف بعينه، مثل هذا الكتاب يكون تمثيلاً لكل الكتب، مثلما تكون الكتب كلها تمثيلاً لكتاب الحياة على النحو الذي شاء له مؤلفه أن يكون. لو كان لي، بالمقابل، أن أختار كاتباً واحداً لتمثيل جميع الكتّاب على مرّ العصور لما ترددت في اختيار أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ الذي لم ينشد، بتصوري، حضوراً شخصياً مع أي كتاب ألّفه مهما علت قيمته أو ندر موضوعه، بل على العكس من ذلك كان يسعى مع كلِّ كتاب يكتبه لتأكيد رغبته بالاختفاء، وإذا كان الكُتّاب جميعاً يكتبون طمعاً في الخلود، فإن الجاحظ لم يكتب إلا من أجل أن يُنسى. يقودني مثل هذا التصوّر لفكرة أن الرجل لم يكن أبا عثمان عمر بن بحر، الجاحظَ المنقرسَ المفلوجَ، الذي قتلته الكتب في أخبار مصائر الكتّاب، حقيقةً لا مجازاً، إنما هو المؤلف خفي الذكر الذي لا نؤكد إلا نسيانه كلِّ مرّة نتحدث فيها عنه أو نعيد النظر في مؤلفاته العظيمة. هو الكاتب الفريد بين نخبة نادرة من الكتّاب على امتداد تاريخ التأليف، رأوا أهدافهم بوضوح وعملوا على تحقيقها بدقة لا تُجارى. لم يكن ثمة جاحظ، إنما هو العبقري الذي كتب ليُنسى وقد لبس الجاحظَ رداءً والبصرةَ منزلاً والبلاغةَ حجةً وآلة. أحياناً قبل أن أنام أحدّث نفسي بأن الكاتب الخفي خلف كلِّ كتاب هو المعنى نفسه، معنى التأليف الذي يظلّ قائماً وراء كلِّ معنى، أراه في سراب المنام يترجح بين تذكّر ونسيان. 4 بعد انقضاء العطلة الصيفية، سألنا مدرّس العربية عن الكتب التي قرأناها خلالها، كنّا في المرحلة الأخيرة من الدراسة المتوسطة نهاية سبعينيات القرن الماضي، لم يرفع سوى عدد قليل من الطلبة أصابعهم، وكنت واحداً منهم. اقترب وسألني كما سأل الطلاب من قبلي عما قرأت، كنت قد قرأت كتباً بقي في ذهني منها بعض روايات جبران ونجيب محفوظ ورواية صغيرة واحدة لأرنست همنغواي. سألني مرّة أخرى: ماذا قرأت لهمنغواي؟ الشيخ والبحر، بترجمة منير البعلبكي. حاولت أن أجيب بسرعة وتهذيب كما يجيب الطلاب الأذكياء، وكنت، وقتها، أحفظ أسماء المترجمين وأفرح بها، كما أحفظ أسماء المؤلفين وأفرح بها. لكنها رواية صعبة عن صراع الإنسان في مواجهة الوجود. لم أفهم جملته على نحو دقيق، لكنني انتبهت لواحد من أهم دروس القراءة في حياتي: إن وراء ما نقرأ ثمة معاني خفية يصعب أن نفهمها أحياناً، وهي المعاني التي تلوّح لنا، تدعونا للمضي إلى ما يقع في المنطقة العجيبة خلف الكلمات، حيث تنشأ، على الدوام، عوالم غريبة فاتنة. المكتبة نفسها صورة تفصيلية للمعاني الخفية وراء كل كتاب من كتبها، جنة المعاني البعيدة وفردوس الأحلام. 5 يحدث أن تولد المكتبة في اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت، وتنمو في ملاجئ الحروب المطلّة على الأرض الحرام. ليس ثمة ما هو أروع من نشدان الحياة في أيام الحروب، والمكتبة، بهذا المعنى، هي الحياة التي تولد في ركن ملجأ تحت الأرض، تأوي كتبها إلى صندوق عتاد برفوف خشب اعتاد الجنود أن يرتبوا فوقها الكتب التي يأتون بها بعد الالتحاق من إجازاتهم الدورية. سيكون ماركيز وهرمان هيسه وكازنتزاكيس ومحفوظ ونيتشه بعض رفاق الملاجئ ورسل الحياة الذين أتذكّرهم الساعة، كما لو كانت كتبهم لا تزال على رفوف الصندوق بعد ثلاثين عاماً على انتهاء الحرب، يواصلون وجودهم في المنطقة العجيبة خلف الحرب التي تضجُّ وتخبو، ينسجون عوالمهم على مهل وأناة بعيداً عن الأرض التي حُملوا إليها، ينصتون لصوت الإنسان يتصاعد وسط النار والضجيج، إنهم يهبون أرواح الجنود المجهدة أوقات سلام عميقة، يمنحونهم فرصة أن يحكي كلّ منهم حكايته الشخصية، حكاية منامه إلى جوار صندوق العتاد الذي صار مكتبة. كتب متخيَّلة ثمة كتب غير مرئية، مجهولة، تنتصب كأعشاب سحرية بين الكتب المرصوصة والمصطفة، خاصة في الفجوات والكوات والفراغات العاتمة. كتب متخيلة تتلصص عليّ وتغوي نظرتي باكتشاف وجودها الموهوم. أما الكتب التي تغيب عن عشيرة المكتبة وتفقدها أمة أو امبراطورية الكتب، فتترك أثر حزن ما، يومئ به شكل المكتبة المتغير والمتحوّل، أي نعم، فقدان كتاب واحد، يحدث تغييراً لافتاً في معمار المكتبة الآيلة إلى التغوّل. يحدث أن أسقط الكتب من الرفوف وأبعثرها في كثافات كيفما اتفق في البيت. ليس لأحررها من سطوة النظام في نمط تصفيف المكتبة، وهذا يهاجسني بالتأكيد، بل لأرى هل ستختار الكتب أمكنتها السابقة في الرفوف عندما أعيدها إلى الخزانة كيفما اتفق. ثمة احتمال ممكن التحقق، لرجوع كتاب ما إلى مكانه السابق، دونما وعي مسبق مني بجزيئة وجوده السالف على الرف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©