الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لعبة المكتبة.. السحريَّة

لعبة المكتبة.. السحريَّة
13 ابريل 2016 21:42
إسماعيل غزالي كلّ مكتبة تقود إلى أخرى، في تعاقب لا ينتهي. في دوائر تتضاعف مداراً، مداراً، الواحد تلو الآخر. يبدو الأمر شبيهاً بالصناديق التي يضم أحدها الآخر، علبة داخل علبة، بتواتر متناسل ومتماوج في امتداد هائل، لا حدود له. اللعبة تبدأ من كتاب يستدعي صنوه، وهذا يستضيف نده أو غريمه وهكذا يستدرج الواحد الآخر في ولع واحتدام، تتخلق معه الكثافة التي تصنع شكلها وتختار هندستها، وفجأة تغزو الكتب البيت، وتستفحل في كل حيز، فتعتمر الفضاء وتؤثثه ليمسي غابة داغلة. المكتبة محض غابة، والغابة محض متاهة. لا يفترض التيه أن تكون المكتبة ذات بناء هائل، تشغل حيّز مكان شاسع لكي يتحقق شرطه أو مغامرته أو تجربته. يمكن للمكتبة أن تكون مجرد خزانة صغيرة، تعتمرها عشرات الكتب، لكي يتحقق التيه العظيم فيها، والتيه لا يحتكم بالضرورة إلى العيش بجوار المكتبة أو في داخلها ضمن مكان مشترك، فالمكتبة تقيم في الداخل أيضا، وتتشعب وتتداغل في منطقتها العجيبة اللامعلومة في المخيلة والذاكرة. نحملها معنا ونتنقل بها أنّى حللنا وارتحلنا. المكتبة الخاصة التي يشيدها الكاتب أو القارئ في أمكنته الحميمة، هي بيته المضاعف وأثره الذي يدل عليه بصور من الصور الاستيهامية. قد تلعب المكتبة دوراً شائعاً في تأثيث المكان كحلقة ضمن نسق الديكور الجمالي للبيت. غير أن هذه الحلقة تشبه ثقباً أسود لمن يعي خطورتها، إذ تبتلع كل الوجود في المكان، وتستأثر بالغواية والانتباه والقيمة الغريبة. فالمكتبة لا تقف على طرف حياد، إذ تمكر بوظيفة نسق الديكور التي أريد لها أن تلعبه، بل تتخطاه وتتعداه، لتمهر كينونتها بأثر جمالها الخاص الخارج عن منظومة البيت، إذ تحتفظ بقوة أسرارها التي لا تتكشف لأي كان وتدخر ألغاز وجودها من خلال ما تكتنزه رمزيا بشكل باذخ. هكذا تثوّر المكتبة جمودها كشيء أو صمتها المزعوم (الموهوم)، إذ هي تحكي باستمرار، بأصوات مهموسة أو مهسهسة، عبر إيقاع هذيانيّ شبيه بخرير نهر. كأن الكتب ترتل متونها السردية والحكائية والشعرية. قد تختار المكتبة وقتاً أثيراً لطقس تلاوتها، فتنتظم أصواتها كموسيقى هارمونية، وأحيانا يشبه الأمر انفجاراً صاعقاً، إذ تندلع الأصوات قاطبة، بمختلف درجات رنينها وصيحاتها، هينمةً أو صراخاً، فيغدو سيل الضجة المنهمرة صخباً مرعباً، يصدع الدماغ ويوخز الذّهن بصعقات شبيهة بالصرع. الأمر ليس سحرياً ولا فانتازيا، فالصورة لا تقف عند هذه الحدود، إذ إن صوت المكتبة قد ينقطع لفترة، وبدله يحدث شيء آخر مريب، هو تسلل الأشباح والأطياف من عتمات رفوفها. أشباح لمؤلفين وكتاب وشعراء وفنانين...إلخ، باختلاف أجناسهم وهوياتهم وأزمنتهم وأمكنتهم، موتى وأحياء، يتجولون في البيت ليلا، ويتحلقون حول مائدة الطعام والسمر، كأنما يشاركون طينة من الضيوف حواراتهم، معترضين أو موافقين. أطياف لشخوص تخييلية تنهمر من القصص والروايات والحكايات والقصائد، تتنزه في غرفة النوم، توقظني من منامي، أو تتسلل إلى داخل أحلامي وتشاركني مادة الحلم أو الرؤيا. لا تخشى أطياف هذه الشخوص - التخييلية - الخروج من البيت، إذ تمضي معي مرّات وكرّات، خارج إقامتها في المكتبة، وتشاركني نزهة الليل، أو سفر المدن والبلدان. هي أطياف لا تشترط الليل مناخا للتسلل والبزوغ، بل تغامر بالانسلاخ عن المكتبة حتى في عزّ النهار. هكذا أتحاشى الاصطدام بها في الذهاب والمجيء بين الغرف، وأحكي معها بصوت جهوريّ في أغلب الأحيان. كيفما توهمت الإحاطة بيقين عناوين ومعرفة الكتب التي تترف بها مكتبتي الخاصة، دائماً تفاجئني بكتاب غريب، لا أعلم متى عزّزت به معمارها ولا أين ظفرت به، أو متى تسلل هو إلى بستان الرّفوف. ثمة كتب غير مرئية، مجهولة، تنتصب كأعشاب سحرية بين الكتب المرصوصة والمصطفة، خاصة في الفجوات والكوات والفراغات العاتمة. كتب متخيلة تتلصص عليّ وتغوي نظرتي باكتشاف وجودها الموهوم. أما الكتب التي تغيب عن عشيرة المكتبة وتفقدها أمة أو امبراطورية الكتب، فتترك أثر حزن ما، يومئ به شكل المكتبة المتغير والمتحوّل، أي نعم، فقدان كتاب واحد، يحدث تغييراً لافتاً في معمار المكتبة الآيلة إلى التغوّل. يحدث أن أسقط الكتب من الرفوف وأبعثرها في كثافات كيفما اتفق في البيت. ليس لأحررها من سطوة النظام في نمط تصفيف المكتبة، وهذا يهاجسني بالتأكيد، بل لأرى هل ستختار الكتب أمكنتها السابقة في الرفوف عندما أعيدها إلى الخزانة كيفما اتفق. ثمة احتمال ممكن التحقق، لرجوع كتاب ما إلى مكانه السابق، دونما وعي مسبق مني بجزيئة وجوده السالف على الرف. ليس هناك من صرامة أو مهنية رتيبة تمهر علاقتي بالمكتبة وتشييدها، ثمة لعب لا غير، يجمعني بالكتب. حيث المكتبة محض لعبة سحرية. ثمة مدن يرسخ أثرها الجميل في ذاكرتي من خلال مكتباتها العمومية. تبدو المكتبات العمومية كمجرات فضائية، ما أن أرتادها، وأكتشف هندستها المختلفة وغرابة عناوينها، حتى يبطل يقين علمي بمنظومة الكون كما هي مرسومة في مخيلتي وذهني. غالباً ما أتخيل أشخاصاً يقرؤون الكتاب نفسه، في الآن نفسه، في أكثر من مكتبة في العالم. من كثرة ارتيادي مكتبات البلدان والمدن التي ظفرت بالسفر إليها، طالما حلمت بعاصمة للمكتبات، مدينة ضخمة هي ذاتها مكتبة، تتواشج فيها كل مكتبات العالم. ذات مرة حلمت بمكتبتي شجرة، وبالكتب طيورا مهاجرة، هكذا تأتي الكتب محلقة من مكتبة في صقع من أصقاع العالم لتحل في مكتبتي، وما أن أطلع على بعضها تحلق بعد حين إلى مكتبة شخص آخر في صقع ناء من أصقاع الكون وهكذا دواليك. عندما أنظر إلى مكتبتي، فإنني أطل من باب عجائبي على مكتبات العالم قاطبة، ليس المكتبات الخالدة والمعاصرة، بل تلك التي كان مصيرها التلف عبر الإحراق والتدمير في تاريخ الإنسانية، هذه المكتبات التي تتمرأى لي من بوابة مكتبتي الخاصة، أحاول أن أرسم لها خريطة بخيالي. هل هي خريطة جنّة سرّية؟ أم خريطة جسد امرأة خرافية؟ يستعصي عليّ شكل الخارطة من فرط الاشتباكات الداغلة الشبيهة بموجز تاريخ أحلامي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©