الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كتب مبعثرة.. حياة مبعثرة

كتب مبعثرة.. حياة مبعثرة
13 ابريل 2016 21:42
سعيد حمدان أين هي الكتب في حياتك، سألتني؟ إنها حياة - يا سيدتي- في الحياة. لا أتخيل مكاناً من غير كتب، تتناثر في كل زوايا البيت وغرفه، لها ركن في المكتب وفي السيارة تجلس مثل أي راكب، وفي بعض الحالات تستقر على جميع المقاعد، أتحرك معها تصاحبني كرفقة صالحة، بعضها مرتب ومصنَّف في الغرفة الرئيسية الأكبر في البيت، والتي نسميها المكتبة، والتي ضاقت جميع جوانبها بما تحمل، وكثيرها مبعثر أينما تكون أكون، أشعر في حالات أنها تحرسنا وأطمئن للمكان الذي توجد فيه. أهمية الكتب في البيت أنها تكبر مع أهله، ويتعلق بها الصغار دون تخطيط في حالات، فقط لأنهم ألفوا وجودها ومقابلتها في الساعات التي يكونون فيها بالمنزل، ومع الزمن تصبح لهم ضرورة، كيف؟! سيحتاجون للرجوع لها أثناء الدراسة كلما تقدم تعليمهم كلما زادت الحاجة لها. أكثر من ذلك أنها تصبح من خلال وجودها في البيت جزءاً من الصورة، ومع سير العمر بهم تصير ضرورة تلازمهم عناوينها وشكلها، فعندها ذكريات وحنين للمكان ولوالديهم ولسنوات أعمارهم الجميلة. والدي أخذني إلى الكتاب قالت: ما قصة أول كتاب معك، هل تذكره؟ أنسى أشياء كثيرة، إلا قصة الكتب الأولى – يا سيدتي- فما تزال أطراف في هذه الذاكرة المتعبة المرهقة تنبض وتقبض على تفاصيل التفاصيل عندما يذكرون لها القراءة والكتب. ياسيدتي- والدي، حفظه الله، هو السبب، سبب تعلقي وحياتي مع الكتب، رغم أنه أميّ أو بوصف أدق لم يتجاوز حظه من التعليم سوى فصلين دراسيين في محو الأمية وفرتها له وظيفته العسكرية في قوات ساحل عمان خلال فترة الستينيات، الضباط الإنجليز أعطوه تلك الفرصة، وتمنى هو أن يكمل ويقرأ أكثر و(لكن).. وهذه طويلة بحجم مشاغل العمر وطلب العيش وطبيعة عمله الذي يتطلب الحركة والتنقل كل ساعة، فلم تتحقق له تلك الأمنية، فسعى أن يعوضها في أبنائه، لهذا سعى مثل كل الآباء الأوفياء أن يكون أولاده وبناته أفضل منه تعليماً وصحة وراحة واستقراراً، أن يشقى هو طويلاً حتى يبنى لهم مستقبلاً أجمل. والدك، الذي كان يعيش في الساحل طوال الشهر حيث مقر شغله وبيته الثاني، في معسكر الشارقة، هو من أدخلك إلى المكتبة، كان اسمها «الآداب» ما عاد لها وجود، ولا تعرف ملمَّاً بتلك المرحلة يمكنه أن يدلك على اسم صاحبها، لماذا أسسها في تلك المرحلة، ولماذا أغلق دكان الكتب الأشهر في زمنه، وأين ذهبت بضاعته؟ اشترى لك أبوك: سيرة عنترة، والزير أبو ليلى المهلهل، وتغريبة بني هلال، مازلت تحتفظ بهذه الكتب الثلاثة حتى اليوم رغم أن أوراقها تقصفت ومالت إلى الاصفرار بحكم العمر، عمرك وعمرها. تذكر أنك سمعت هذه القصص وبطولات الفرسان وأشعارهم منه وهو يرويها لك في القيظ تحديداً، عندما لاتكون هناك مدرسة ويكون هو في إجازة، يسردها لك ولإخوانك الصغار قبل النوم في ليال لا صوت فيها يشوه العتمة وسكون المكان، لا تلوث سمعي ولا بصري. مجرد سكون وسماء صافية لها قبة بها نجوم لامعة، هذه كنتم تنامون تحتها في عراء «حوي» البيت بطمأنينة وأمان، وأنك مرة تمنيت أن تقرأها من كتاب. وهل تصدق أنه حقق لكن هذه الأمنية؟ لقد ذهب ذات مساء ليستعيرها من رفيق له اسمه محمد، كان يعمل معه في الجيش ويقتني هذه السير تحديداً، جاء بها لك حتى تقرأها لك وله، وأنه اشتراها لك في المرة الثانية، حتى تحتفظ بها وتؤسس مكتبتك. وتذكر، أنه في أول رحلة له للحج في السبعينيات، أحضر لك هدايا كثيرة وغالية الثمن، منها كتاب في حجم الجيب له تجليد فاخر لم تعرف شكله في تلك المرحلة العمرية اسمه «كلمات القران» ماتزال تحتفظ به. أول كتاب بالتأكيد، أنت تذكر كذلك أن أوّل كتاب اشتريته أنت، كان خلال رحلة مدرسية، نظمتها لكم المدرسة لزيارة مركز «الغرير»، كان المركز في زمنه حدثاً مهماً، كان بالنسبة لنا عالماً جميلاً ندخله لأول مرة، نحن الذين لم نعرف في حياتنا السابقة سوى بقالة الفريج والأسواق الشعبية نزورها قبل العيدين فقط. في الغرير المركز، كان يقام معرضاً للكتاب، دخلتموه وشاهدتم كتباً كثيرة وضخمة شدتكم ألوانها وعناوينها، اكتشفت أنت أن هناك عالماً أكبر من مكتبة مدرستك التي تقع في غرفة واحدة فيها خزائن مغلقة وطاولة صغيرة للقراءة مسموح الدخول لها وقت الفسحة والفراغ، ستكون أمينها من الطلاب بعد سنوات وسيمنحونك شرف حمل مفتاحها، والدخول لها متى ما رغبت وعليك مهمة تصنيف ما فيها، مجرد سجل عناوينها في دفتر طويل يختلف مقاسه عن دفاتر الطلبة. شدّك في المعرض ديوان «المتنبي»، لم يكن مجلداً كان لونه أخضر مزخرفاً وضخماً، تتذكر أن سعره كان 25 درهماً، كان غالي الثمن وقتها، ولم تكن تملك هذا المبلغ، لكنك استلفت من صاحبك حتى تشتريه، واشتريته. أما الكتاب الوحيد الذي اقتنيته من معرض الكتاب الذي نظمته مدرستك بعد هذه الزيارة بسنوات، فهو «ديوان تراثنا من الشعر الشعبي» في جزأين من جمع وإعداد حمد خليفة بوشهاب – رحمه الله، كان في طبعته الأولى التي صدرت عن مؤسسة الاتحاد للطباعة والنشر، مجلدان ضخمان من الحجم الكبير وكتب العنوان بالذهب، كان سعرهما 100 درهم، ولم يكن أمامك سوى أن تختار أغلى كتاب يومها وتدفع فيه ما يملك جيب طالب في المرحلة المتوسطة. ستشتري بعدها كتباً كثيرة، وستحصل على أخرى مجانية كثيرة أيضاً، وسيهديك الزملاء والأصدقاء كتباً بعدد سنوات عمرك، وأسفارك، ومن عرفتهم وألفتهم.. سنوات طويلة وكتب كثيرة، لكن البدايات، والقراءات التي سرت في أول العمر لها نكهة وصدى وطعم يسكن الذاكرة. ويبقى الكتاب ما بقي لنا من حلم وطموح وشغف بالمعرفة والفهم، وقدرة على القراءة، وقدرة على.. الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©