الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المنفذ الحدودي لمعشر الجنّ

المنفذ الحدودي لمعشر الجنّ
13 ابريل 2016 21:42
ميسلون هادي أبواب المكتبات العامة عالية ومفتوحة على مصاريعها دائماً، ولكني ما دخلتها يوماً إلا من أجل البحث عن مصدر محدد أو وثيقة معينة، أما القراءة، فهي شأن حميمي لا يمكن أن أحشد له نفسي فوق خط مستقيم من المناضد والكراسي، وبين جمهرة من الناس. القراءة هي بَدء وعَوْدٌ على بدء، وفي أغلب الأحيان عندما أنتهي من قراءة صفحة في كتاب، فإني أقلبها إلى الخلف لكي أتشبع برائحة شممتُها، أو صوت سمعته، وأحياناً أغمض عيني لكي استعيد واستزيد من كلمات تجعل العقل ينام أو يستيقظ.. الفم ينغلق أو يفتر عن أخدود، الروح تهفو أو تتأسى.. وفي سنوات مبكرة من مطلع شبابي، كنت أكتب الجملة التي تعجبني على الورق، ثم أنقلها وأجمعها بعد ذلك في أطراس، حتى أصبح لدي دفترٌ سميكٌ من الاقتباسات كنت أنوي نشره في كتاب ذات يوم، ولكني اعتقد الآن أنه فقد بعض قيمته بعد أن أصبح محرك البحث «جوجل» منجماً هائلاً لمثل هذه الدفاتر. علامة نموّ مكتبة البيت تنمو وتكبر مثلنا ومثل وعينا الذي يتغير ويتطور، فتدرجت من الضفاف إلى أعماق المياه.. لا أعرف كيف بدأت سيرورتها الأولى.. هل هي جين وراثي أم نشأة عائلية أم شغف شخصي؟.. ولكنها في كل الأحوال مثل قطرة ماء التقت بقطرات ماء أخرى فتكون الجدول.. الجدول فاض إلى سلالم البيت وغرفه العلوية، أي تنقل صعوداً من المنبع إلى المصب، ولكن منزله الأول لا يزال بين الرفوف البسيطة التي تقوّست ألواحها إلى أسفل من ثقل الحمولة التي تنوء بها مثلما تقوست ظهورنا من طول الانحناء على الورق (سابقاً) واللابتوب (لاحقاً). زوجي (الدكتور نجم عبد الله كاظم) هو أمين المكتبة، فهو شغوف بالتصنيف والتبويب والجدولة، وهو الذي صنفها في خانات مبوبة حسب جنسها الأدبي، فإذا كانت إبداعاً وضعها حسب الحروف الأبجدية لأسماء المبدعين المؤلفين، لأن البحث سيكون حسب اسم الكاتب في الأغلب الأعم، أما إذا كانت نقداً ودراسات أدبية، فيصنفها حسب الموضوع، لأن من يبحث عن كتاب نقدي أو بحثي سيطلب الموضوع أولاً. أنا أستسهل أن أطلب منه الكتاب الذي أحتاجه بدلاً من البحث عنه بنفسي.. يتأفف عادة من هذه العادة، ولكنه في داخله يعتقد بأني استحق مثل هذا الدلال. البؤساء.. كتابي الأول نادراً ما يتذكر المرء أول كتاب قرأه في حياته، ولكني أتذكر أنه كان رواية (البؤساء) لفيكتور هوغو.. وكنت في الصف الثالث المتوسط، وبعد ذلك أخذت أقرأ باستمرار، ثم أخذت عهداً على نفسي بأن أقرأ ثلاثة كتب في الأسبوع الواحد.. وعندما ألتفت إلى الخلف وأتذكر بعض مئات الكتب التي قرأتها، أكتشف أني لو أردت إعادة قراءتها الآن لما استطعت البتة. وهذه بعض فوائد العلاقة المبكرة مع الكتب، والتي تصنع وعياً مبكراً للقارئ النوعي، أما بالنسبة للكاتب، فتحول وعيه إلى منطقة زلازل وعواصف وأعاصير، وتذروه غريباً عن الأهل والناس والمجتمع، لا يعرف أن يفكر كما يفكرون، ولا أن يحضر كما يحضرون، ولا أن يغادر كما يغادرون.. يجد نفسه فقط من خلال علاقته الحميمة مع خلاصات كونية وسحرية تشبه قطع السحاب السائرة بين عوالم الدهشة والطفولة المستمرة. ترى كل شيء وليس لها عيون أو جفون.. تأمرنا بالالتفات إلى شيء غامض وغريب.. أو تحمل الجرس لتوقظ الضمير النائم.. تستطيع تحويل الصمت إلى شقوق طولية تشبه الجروح، ولكنها تريد المرور دائماً من الحطام إلى أمام. إن الأمر يبدو كما لو أنه أزمة اغتراب.. ولكنه الاغتراب الوحيد الذي هو انتماء.. بمعنى أن المكتبة هي المنفذ الحدودي لمعشر الجن.. وهي الحدود البرية عندما يكون ضابط الجوازات نائماً.. فكيف لا تغنيك عن الملل والضجر والبشر؟.. وكيف لا تكفيك فراغ الوقت والروح والمسكن؟. هي ذات.. عندما تضيق ذات اليد. هي رشد.. عندما يبتعد سن الرشد. هي قلب.. حتى وإنْ لم نحفظها عن ظهر قلب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©