الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أحمد العسم·· يقيس الكتابة بمهماز التعب

أحمد العسم·· يقيس الكتابة بمهماز التعب
18 أكتوبر 2007 02:07
في زيارتي الأخيرة لمنزله بمنطقة (الظيت) برأس الخيمة، اكتشفت حجم المحبة التي يورثها المكان لساكنيه، فعلى بعد نظرة من البحر، وعلى جناح الشغف الموصول حتى الجبال، يمكن للجالس مع أحمد العسم أن يتباهى بالمعجزات الصغيرة التي يصنعها الشعر، وله أن يتمتع أكثر بهذا العزف الروحي، الناثر موسيقاه في براري الغرفة، فإن تنصت لأحمد العسم وهو يدون قصائده على حجم التعب والشفافية القصوى للوجع، فهذا يعني بالتأكيد أن ثمة سحر يندلع في الهواء، وأن غزلاناً كثيرة نفرت من الأحراش ونامت بقربك، فها هنا، في هذه المسافة الفاصلة بين الورقة والغيم، وبين الكتابة والموج، وبين الآهة والذوبان، يمك·ن لغابة الشوك أن تسجد لوردة، ويمكن لصحراء فائضة أن تذوب في قدح· شغب الألفة كبر العسم في المرض ومحنة الجسد وضجر الحواس، لكنه كمن يعوم في اللهب، ويركض على الماء، وهو بين خراب الحالة وعمارة التوق، يقيم مأدبة الحب للأصدقاء والآيلين نحو العناق· يكتب العسم شعرا يتبدد ثم يلتمّ في المسافة المشتبكة بين قرطاس واهب وعين حاضنة! فمن شغب الألفة في فريج (هل ميان) وحتى الصرخة الناضجة في (الظيت) تحول المرض عند أحمد العسم إلى منصة للقفز فوق ركام اليأس، إنه التخدير الذاتي والموضعي الذي يحول الألم إلى مادة جمالية وإبداعية، يترقق الوجع المادي ويتشتت فيكون طيفا من لغة ومجرى شفاف تعبر من خلاله كائنات الشعر الرهيفة، هذه الخفة واللطافة هي إعادة تدوير للذاكرة، حيث تنهض الأشواق المنسية، وتتحفز للخروج من حالة الاعتكاف إلى حالة الكشف، ومن الهدأة القاحلة إلى استنطاق الموتى والغائبين، والعبور بهم من ضفة الاستحالة إلى ضفة الإمكان، ومن هامش النسيان إلى متن المعايشة والمخاطبة والاستئناس· يقول العسم في قصيدته (عيون كبيرة للوسواس) والتي تعتبر قصيدة محورية ولافتة في تجربته الشعرية: ''لم أكن كافيا لملئي في الفراغات وقد نزلت حافيا أبحث عن خطوة أخفاها ''جمعة الفيروز'' في (سدروه) وعن كلام قاله للرمل''· تتشكل لعبة الاستدعاء والتخفي في هذا المقطع، كأزهى مثال على اللعبة المدوخة للشعر، يحتاط العسم لخديعة التلاشي، فيوغل في الكتابة حتى اللمس، فالراحل جمعة الفيروز (الذاهل في الموت) أمسى حضورا كليا في منطقة (سدروه برأس الخيمة) وفي الجلاء المتبصر والأكيد للشخص وللمكان، يختفي الشاعر من المشهد كي يتيح للغائب فرصة الرقص على مسرح الوجود، ويتعافى الظن من شكوكه، كي يتفتح ويعلو مثل نخلة سامقة في بستان الروح· عين مغسولة بالندى في مقطع آخر من ذات القصيدة يقول العسم: ''لا مثيل لك يا جبلا في (الرمس) لا يتذكر سقوطك أحد نسوا أن يوخزوا دمعتك بإبرة الصبر ويوقعوا بطائر الظن في المحيط'' وفي مقطع لاحق يقول: ''لهذا جئت إلى (نادي عمان) أحث البوح على السرد نعم ·· على كتف الجسر وشم نعم ·· البحر يعطس والبلاد ·· غرفة في فندق'' يحتفي الشاعر هنا بالأمكنة المتداعية وطفولة اللحظة الهرمة، وكأنه يستدعي البهاء الغارب إلى مستودع المرارة ومكمن الأسى، يصدّر الشاعر أحزانه إلى براح القلب وبراري الزمن، ولكنه غير معفى من ضريبة الذكرى، ومن صفاء عين مغسولة بالندى· تحفل القصائد الأخيرة في تجربة العسم بمفردات مصقولة ومنحوتة بإزميل الحكمة وعُدّة التأمل، ذلك أن المرض المشبع بعزلته وكثافته لابد وأن يميل للزهد االفظي واللغة المتمهلة والمعقمة، مثل رائحة المستشفيات وبياض الأسرة والسرائر· فـ (لا ود ينمو مطمئنا دون وسادة)، كما يقول في مقطع من قصيدته (على شرفة البحر)، تتشكل العلاقة بين الشاعر والعناصر المحيطة به كما لو أنه يحيك الصمت على إيقاع الطواف المبجل حول حياة ناقصة ومبتورة، هي في ذات الوقت حياة يرنّ فيها كريستال اللذة، ويتصاعد في قبابها صوت الحبيية، وهمسها العالي مثل قمر· يقول الشاعر في مقطع من قصيدة (مريم): ''كل الأيام/ التي أخذتها معي إلى المستشفى/ هي شقائي/وكانت تحرمني منك/كل الليالي التي تحرسني/هي أنفاسك/وكل هذا النثر/هو حبك''· غرفة الحواس تنهمر في قصائد أحمد العسم ما يمكن أن نسميه ''الشغف الآهل بالفقد''، فكل نقصان يداهم الشاعر إنما يكتمل في القصيدة، وكل جرح إنما يندمل بالتعابير الشافية، فعندما توشك البهجة على الانطفاء فإن (ضحكة على الجدار) تضيء غرفة الحواس، وتعيد اليد الضالة إلى مخمل الحنان· ''حين أتذكر ضحكتك/التي خرجت من صدري/أضحك لقلة حيلتي/وأدرك كم هو هائل/هذا البتر''· بهذه الصيغة التنبؤية، يوقد الشاعر جذوة الليل، ويورق في مسرّته ولا يبالي، فمن هنا وفي هذه اللحظة القابعة بين الوسواس واليقين، يمكن للكتابة وحدها أن تنير درب الشاعر، وأن تصنع الفارق بين جحيم المرض وفردوس المحبة، إنه المهماز الذي يقيس به الشاعر حدود التعب، ويوكله لتصاريف الزمان، وهو أيضا الغناء الذي يمتد من قبر الأم إلى مزارات الألم، وهي الموسيقى المحفورة في الجبال والنازفة من ضباب الطفولة، تلك الموسيقى السرية التي روضتها النخيل ودونها الشاعر على حوائط لا مرئية، حوائط غادرها الوقت، ولكنها سوّرت الأمل، وحلّقت في بهاء قديم· لنستمع أخيرا إلى هذا المقطع الفاتن من قصيدة: (ماء الأطراف السبعة): ''في آخر الليل/يفزعك الباب/لا تترك وشم الأمكنة على جسدك/وتجلس في اللالزوم/ شيء من فائض كآبتك/ينزل من السلم/يدخل الهواء/إلى ألمك الكسول/لا ترفع إبطك/ثمة بلاد منكوبة/تحت ضلوعك''· هامش: المقاطع المنشورة من قصائد جديدة يهيئها الشاعر لديوانه الجديد، هو الثالث بعد (مشهد في رئتي)، و(يحدث هذا فقط) و(ورد عمري) من فريج هل ميان من فريج (هل ميان برأس الخيمة) استيقظ ذات ليل وهج شفيف، وتشكل غبار أبيض على هيئة طفل، وعندما صعدت شهقة الرمل إلى منتهاها، كان الشعر وارفا مثل سدرة البيت، أما الظل فقد تسلل إلى قلب الشاعر دون أن يجرح الباب أو يخدش النافذة، من هناك خرج صوت أحمد العسم وهو يتصبب بالنشيد، ويحتفل بغصته اللؤلؤية، كلام كثير تساقط في الفرجان والسكيك، ولكن صائد الأمل وحده من يتقن لهجة الأشجار، ويتبع الساحر إلى جهة الهلاك، ولا يهلك·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©