الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لماذا يعيش المبدعون خوف تقليد الآخر؟

لماذا يعيش المبدعون خوف تقليد الآخر؟
13 أكتوبر 2007 00:12
هناك أزمة طالما عانى الشعراء منها، وهي أزمة تقليد الآخر والتأثر به، أو ''قلق التأثير'' كما جاء في عنوان كتاب لـ ''هارولد بلوم''· فهل يعيش الشعراء، دائماً، خوف تقليد الآخر، أو الخوف من نضوب الكلام؟ ثمّ هل يُعَدّ الاقتباس، دائماً، سرقة، أو ''بضائع مسروقة'' كما يحبّ أن ينوّه رابينوفتز أحد المعنيين بمشكلة التناص؟ أم ثمة إمكانية لاندراجه ضمن حقل التناص؟ أي ألا يمكن القول مع بيتر رابينوفتز إن الشعراء يعيشون ''عصر دورة فنية متكرِّرة''؟· ولنضربْ مثالاً واحداً على هذه الحالة من الأدب الغربيّ· أوديب أسطورة يونانية قديمة، كتبها هوميروس في النشيد الحادي عشر من ملحمة الأوديسة في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد· وكتبها أيضاً، في القرن الخامس قبل الميلاد، إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس· وفي القرن السادس عشر، كتبها من الفرنسيين كورنيه· ثم كتبها، في القرن السابع عشر الميلادي، الشاعر الإنجليزي درايدن، وكتبها الشاعر الإيطالي ألفييري في القرن الثامن عشر· أما دي سيس وشينيه فقد كتباها في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وفي القرن التاسع عشر كتبها فولتير· وفي القرن العشرين عني بها أندريه جيد وجان كوكتو في قصته الشهيرة ''أداة الجحيم''· والآن، حين كتب هؤلاء كلهم هذه الأسطورة مرة أخرى، فإن المشكلة قد توضحها عقدة أوديب نفسها من جهتين: تتمثل الأولى في إلحاح الكتـّاب على تناول أسطورة أوديب هذه، وتتمثل الثانية في أن عقدة أوديب ذات صلة وثيقة بموضوعة علاقة الشعراء بمن سبقهم، والقصائد بما سبقها· فقد بُنيت عليها نظرية هارولد بلوم في كتابه ''قلق التأثير''، ومؤدى النظرية أن كلّ شاعر تالٍ لشاعر سابق ينتابه قلق من هذا المجيء متأخراً، من علاقته بالشاعر الذي قبله، قلق يضاهي قلق أوديب في علاقته بأبيه· فالشاعر السابق هو الأب، والشاعر التالي هو الابن الذي يحبّ أباه ويكرهه ويحسده ويخشاه أيضاً· نحن نجد في ثنايا كتب أرباب النقد والبلاغة العرب إشارات واضحة إلى أخذ الشعراء من بعضهم بعضاً وبطرق مختلفة؛ فالفرزدق يأخذ من جرير، وجرير يتهمه صراحة: سيعلم من يكون أبوه قيناً ومن كان قصائــده اجتلابا والعكس صحيـــح، إذ يقـــول الفرزدق متهماً جرير: إن استراقك يا جرير قصائدي مثلُ ادّعـاك ســـوى أبيــك تنقــل وقد كان البحتري يأخذ من أبي تمام، وأبو تمام من أبي نواس ومسلم بن الوليد، وأبو نواس من الأعشى وكثيّر، والمتنبي من الطائييْن، ودعبل من بشّار، قال بشّار: من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفــاز بالطيبـــــــــات الفاتـــك اللهــج أخذه دعبل فقال: من راقب الناس مات همّاً وفـــــاز باللـــــذة الجســــور حتى بشّار نفسه أحسّ بضياع بيته فقال: ذهب ابن الفاعلة ببيتي! وقد كان السريّ الرفاء يتهم الخالديين، وكان كثيّر يأخذ من جميل وهلم جرا· ومن جهة أخرى، كان بإمكان أبي نواس أن يحقق ثورته ضدّ المقدمة الطللية ''التي عرّض خلالها بالعرب'' عبر محاكاة نقدية لها، محاكاة غير ساخرة، لكنه آثر الهجوم السافر والساخر على الطلل مازجاً إياه بالعرب: أكثر النائحين عليه· حينذاك لم يكن الطلل وحيداً، كان يقف خلفه الخليفة نفسه، وهكذا ارتدع أبونواس عن هذا الهجوم بقرار سياسيّ جرّ عليه المتاعب، وعاد بعده يستدرّ العطف بكتابة مقدّمات طللية فجّة· لقد كانت السخرية التي انتهجها أبونواس سخرية لاذعة، سخرية تحاول تقويض متضمّنات الطلل الرمزية، ولم تكن سخرية فنية بأيّ حال من الأحوال، فنية بالمعنى الذي يطول التقنية الشعرية وليس الموضوعة الشعرية· وفي الحقيقة، لم تكن هناك محاكاة شعرية تتصف بصفة النقدية، وعلى العكس كانت هناك محاكاة شعرية تقليدية هدفها إثبات الكفاءة كما هو الحال في فنّ المعارضات لدى أحمد شوقي على سبيل المثال· ويكاد الشعر العربيّ يخلو من مثل هذه المحاولة التي ترمي إلى نقض نموذج عبر احتذائه· كانت الدراسات النقدية لدى القدامى، على وفرتها في حقل السرقة، تطارد الأبيات الشعرية المحتذاة، وفي أحسن الأحوال كانت تطارد المقاطع الشعرية· وهنا تبدو مشكلة استقلالية البيت الشعري في القصيدة العربية القديمة هي مكمن التسويغ· فالانشغال بالمعنى الشارد والطريف الذي لم يسبق إليه أحد، جعل الشعراء يلهثون وراء دسّ مثل هذا المعنى في بيت معين، بيت يجوب الآفاق، ويشير إلى صاحبه؛ لذا رأينا جلَّ المناقشات التي عقدتْ في كتب البلاغة والنقد تحت باب السرقة والموازنة كانت تستقي موادَّها من الأبيات المفردة والمتشابهة في الغالب· وأعتقد بأن هذه المسألة تصدق على كتب الموازنات، والكتب التي كرّست أبواباً في ذيولها لمفهوم السرقة، على الرغم من أن هذه المسألة ما زالت موضع مناقشة في الأقل بالنسبة للذين يفحصون القضية في النقد القديم بشكل شموليّ؛ فقد يُفضي هذا الفحص إلى أن استقلال البيت الشعري شيء وهمي ولا وجود له، ولا برهان عليه، وهذه هي الخلاصة التي توصل إليها المرحوم جمال الدين بن الشيخ في كتابه ''الشعرية العربية''· مع ذلك، ورغم التحفّظ الذي يمكن تبنّيه بإزاء مسألة استقلالية البيت الشعري، يبقى الميدان الذي دارت فيه صراعات السرقة، ومحاولات صدِّ السطو والإغارة والنهب وما إلى ذلك من مسمّيات، هو في الأعم الأغلب ميدان البيت المفرد المستقل عن سائر أبيات القصيدة، وأحياناً المقطع الشعري· هذه السمة الواضحة في جميع المعالجات التي قاربت مشكلة السرقة يمكن أن تؤكد، من ناحية جزئية، الاستقلال الوهمي، كما يدّعي بعض النقاد، على مستوى المعنى· إن فرادة الشاعر تتخلَّق في العالم الشعري الذي يخلقه، هذا العالم ما هو إلاّ تجربته الروحية الخلاقة التي لا مدخل لآخر إليها، ولا إمكانية لكشفها بوسائل السرقة أو التناص، ولا جدوى من محاولة سلبها أو نهبها أو السطو عليها، إنها في مأمن وفي حصن حصين: إنها ذاتية الشاعر، وخبرات روحه، ومعاناته، وثقافته، وعيشه، وهذه كلها أشياء خاصة وبصمة لا سبيل إلى تكرارها· وهنا يكمن أحد مقاتل النقد العربي القديم· ما هو حق أن النقاد العرب القدامى لم يكونوا يفكرون في المعنى الشعوري الذي يمثل فردية التجربة الروحية لدى الشاعر؛ ذلك المعنى الذي لا يُسرق إلا إذا سُرقت ملامح الوجه· أما المعنى الشكلي فهو ''مطروح في الطريق'' يعثر عليه امرؤ القيس مثلما يعثر عليه الجواهري· من هنا ينبني مفهوم السرقة على فكرة سرقة معنى ''مطروح في الطريق''، معنى يقع خارج ذات الشاعر، في الطريق، فإذا صادف أن عثر عليه شاعر قبل آخر، فإنه الشاعر ''العاثر'' على المعنى، وربما به، يحوز سند ملكية هذا المعنى·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©