الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التشكيلي الجزائري حسين زياني: عيني ميزاني وبها أقرأ المسافات

التشكيلي الجزائري حسين زياني: عيني ميزاني وبها أقرأ المسافات
22 ابريل 2009 23:04
لا أوراق ولا اسكتشات ولا تخطيطات يرسم عليها أشكاله وتهويماته. يرى المشهد كاملاً في عقله. يسمع صهيل الخيول في رأسه أو تغشاه مشاهد الصحراء، فيفتح «الباليته» لتخرج الخيول تعدو من الألوان، وما يتبقى مجرد رتوش يحرص عليها لكي يمنح للعمل الفني بنائيته ورمزيته ويكسبه بعض ما يشتهي من الحمولات الفنية والفكرية والتاريخية والاجتماعية. لم يدرس في مدرسة للفنون ولم يتلق أي خبرة أكاديمية. عرف الرسم بالفطرة. لم يدله على اللون أو الظل أو التكوين أحد إلا موهبته، أو قل إن شئت بذرة من العبقرية أشار إليها كل من رأى أعماله. يقرأ المسافات بعينيه. ذلك هو «الميزانسين» الذي يعرفه، لهذا يؤمن بالموهبة والإلهام لأنها الوحيدة التي تفسر ما حدث معه، فقد ولد ونشأ في قرية وسط الصحراء في منطقة القبائل الكبرى بينها وبين الفن سنوات ضوئية. لا مرسم فيها ولا متحف، ومع ذلك، يقول الفنان التشكيلي الجزائري حسين زياني، كنت فناناً. خيالات بحرية لم يكن أمامه في تلك القرية التي تجاور البحر سوى الرسم وسيلة يترجم بها استيهاماته وخيالاته، البحر الذي عشقه ووجد في اتساعه وزرقته الممتدة متسعاً لخيالاته والصور التي كانت تداعب فكره. ومنذ طفولته الأولى بدت له كل الأشياء أشبه بدوائر الماء، تبدأ صغيرة ثم تكبر، وما تزال أطياف هذه الحكمة الطفولية المبكرة تتلامح أمامه حتى الآن. بيد أن دوائر البحر في تشكلات الطفولة الأولى، ستتحول إلى دوامات روحيَّة في الشباب، تلك التي ستتبدى له بكل تلوناتها وتبدلاتها هناك، في قلب الصحراء الممتدة بلا نهاية، التي تحضر أحياناً، لاسيما في ليل الشتاء الألْيَل، مثل خرافة. أول معجب بفنه كان والده. يقول زياني وعيناه تلمعان ببريق الشوق إلى زمن مضى: «كان يشجعني عندما يأتي من العمل في المساء ويرى رسوماتي. في كل يوم يسألني: ماذا رسمت اليوم؟ كان يندهش من لوحاتي وربما يفخر بها وبطفله المختلف عن باقي الأطفال». في تلك الأيام كان الرسم بالنسبة إليه نوع من اللعب، حتى ذهب الى مدرسة بعيدة عن قريته ليكمل تعليمه الثانوي، فالتقى أساتذة فرنسيين شجعوه كثيراً، بل إن أحدهم قام بشراء لوحة من لوحاته. أما المشرف فكان يقول له: أنت بيكاسو، عندها دخل في روعه وأيقن أن لوحاته التي تعجب الناس ليست لعباً ولا لهواً بل شيء آخر تماماً. قال له أستاذه: مكانك في مدرسة الفنون الجميلة وليس هنا، لكنه لم يكن قد فكر بالفن كمهنة أو حرفة. كان يلعب وحسب، لكنه سيذهب بعد ذلك إلى الجزائر العاصمة، ويرى المعارض والمتاحف وإعجاب الناس بأعماله، وسيعمل ثم، وقبل أن يكمل سنة في عمله كمحاسب، سيستقيل ويقول لنفسه: أنا فنان، ويتفرغ للفن. سرابيات صحراوية يصعب على المرء تصور أن ساحات «الزبط والربط» وعالم العسكرية والانضباط يمكن أن يتوافق مع جنون الفنانين، رغم أن تاريخ الثقافة شهد نماذج من هذا النوع، ما دفعني لسؤال زياني الذي يقال أنه رجل عسكري عن هذه العلاقة الملتبسة بين المجالين، ليؤكد أنه لم يأت الى الفن من عالم العسكر، وأن كل ما قضاه في العمل العسكري لا يعدو سنتين هما الاستحقاق الوطني الذي يدفعه كل شاب جزائري كـ «خدمة علم». لكن هاتين السنتين كانتا كافيتين ليرى الصحراء عن قرب بعين الفنان. هناك، في الصحراء شعر أنه صغير جداً أمام هذا الاتساع الخرافي والصمت المطبق، رغم ذلك خرج منه بحلول لمشكلات فنية كان يواجهها أثناء الرسم، من ذلك، أنه كان يجد صعوبة في رسم خط الأفق عند تصوير الطبيعة، هذا الخط الوهمي الذي يفصل بين السماء والأرض لم يكن دقيقاً في أعماله في البدايات، ولما رأى الصحراء خصوصاً في الشتاء حين السماء ملبدة بالغيوم والرياح تسوق الأتربة والغبار فيختفي الأفق، وينظر الناظر فيرى الناس والحيوانات كما لو أنهم يسيرون في السماء، وجد الحل الذي يبحث عنه. ومن ذلك أيضاً، أنه كان يعاني مشكلة عندما يريد أن يرسم السماء الزرقاء والأرض الصفراء لأنهما لونان لا يجتمعان، ومرة أخرى وجد الحل في الصحراء، بالإضافة الى أن الضباب كان يجعل الأشياء والكائنات تبدو بعيدة ومجردة، وهذا هو سر تلك اللسمات التجريدية للشخوص والكائنات في خلفيات لوحاته التي تبدو في غلالة ضبابية شفافة ومضيئة كأنها كائنات خلَّبية أو سرابية، بينما الكائنات المنظورة واضحة تماماً ومجسدة، مما ساهم في خلق تباين بين النظرتين الأولى والخلفية، جاعلاً من الأخيرة غارقة في غبار مضيء يشبه السراب. وهو أسلوب يعكس خصوصية واضحة يتميز بها الزياني الذي عمل بجد ليطور مفهومه الخاص تجاه مقولات العمل الفني وما ينبغي أن يوصله للمتلقي. نزعة استشراقية للوهلة الأولى التي تقع فيها العين على رسومات زياني للخيول والمعارك، تقفز إلى الذهن الطريقة الاستشراقية التي صور بها كثير من الفنانين الأوروبيين الجزائر ورسموا خيولها خاصة يوجين ديلاكروا في لوحات «عاصفة على السهل» و»صدام الفرسان العرب»، وتيودور شاسيرو في لوحته الشهيرة «قتال الفرسان العرب»، وجان ليون جيروم في لوحة «عرب يعبرون الصحراء» حيث يبدو مشهد الخيول وفرسانها مليئا بالحركة والحيوية والتوتر، ويضاهي في تقنياته واقتداره تلك الأعمال الفنية الخالدة. وإذ يكرر زياني رسم الخيل في تجليات شتى، يفعل ذلك بقوة واقتدار تجعل كل لوحة مختلفة عن الأخرى، فألوانه مستمدة من ألوان الصحراء في حالاتها المختلفة، ليست صافية دائماً بل تصفو حيناً وتغيم آخر وتكتسي مسحة ضبابية في أحيان ثالثة، وإذ يقوم بتغييم ألوانه، يدخلها في حالة سديمية ميزت أسلوبه وجعلته يفارق الكثير من التجارب التي رسمت الصحراء وخيولها وفضاءاتها. إن خيوله أقرب إلى مشاهد درامية سواء في التخطيط أو الألوان يرسمها بروحيته الخاصة في سكونها وفي هيجانها وجريانها ودورانها وحركاتها المرتبطة بمشهد تاريخي يتعالق مع تاريخ الجزائر ومعاركها ضد الاستعمار، ما يجعل من أعماله وثائق تاريخية وفنية وسجل لفترة حافلة من تاريخ الجزائر، ويخرجها من تهمة التزيينية أو الديكورية التي تتهم بها غالباً اللوحات الاستشراقية، وحتى في حال وجدت فيها تعالقات مع الفن الاستشراقي فهي تنتمي إلى الفن الاستشراقي القائم على أسس صارمة ومتينة والذي يختلف عن الفن الاستشراقي التزييني والسياحي الإكزوتيكي، وتعكس إلى جانب نضجها في المعالجة الموضوعية نضجاً فنياً وقدرة مذهلة على السيطرة على الفرشاة في تصوير الجياد. أما وجه الافتراق الثاني لأعمال زياني عن لوحات المستشرقين فيتمثل في خلوها من المفردات والعوالم المفضلة إياها التي كان المستشرقون مولعين بها، وأعني حياة الحريم والجواري والنساء، وفي إجابة له عن سؤال حول هذه العلاقة مع اللوحة الاستشراقية يؤكد زياني أنه لم يسمع بكلمة «مستشرق» إلا عندما ذهب إلى فرنسا (كان ذلك في العام 1993 بعد أن مارس الرسم 15 سنة في الجزائر)، يقول: «لم أسمع بهذه الكلمة إلا في فرنسا. كنت رساماً فقط، أرسم ما حولي. الرسام في رأيي مرآة بالغة الحساسية تجد مجريات الحياة اليومية صورتها فيها، لكنها صورة مختلفة بقدر اختلاف نظرة الفنان عن الآخرين. لم يكن همي أن أقلد أحداً أو أصنَّف في هذه المدرسة أو تلك، بل لم أكن رأيت رسومات المستشرقين إلا في حالات عابرة. أرسم منذ الطفولة بحرية تامة ومن دون تأثر بأستاذ أو مدرسة أو اتجاه. أكثر من ذلك، ما زلت حتى الآن لم أدرس الفن دراسة أكاديمية، وأعتقد أن هذا منحني حرية في الرسم ولم يؤطرني في اتجاه أو مدرسة بعينها». اقتراحات جمالية الخيول قيمة فنية أساسية يشتغل عليها زياني ليقدم اقتراحات جمالية متنوعة، مجسداً وضعياتها المختلفة خاصة أثناء الجري والسباق والصيد، مستحضراً ما تحمله في أحشائها من تأويلات مكرسة في الذاكرة الفردية والجمعية عن هذه الكائنات النبيلة التي تحضر فيحضر الخير والعنفوان والجموح والنصر. فالخيول الموجودة في لوحات الزياني فضلاً عن جمالها التشكيلي وجمال حركاتها هي المعادل الموضوعي لما يريد الفنان أن يعكسه عن ثقافة شرقية تتميز بالغنى والثراء الحياتي، أما سر عنايته بالخيول فيعود، كما يقول، إلى ولعه بتاريخ الجزائر الذي حاول تجسيده في لوحات، وعندها وجد نفسه أمام معارك وخيول تركض في ميادين الحروب لأنها كانت أداة الحرب الوحيدة آنذاك. ولما انتهى من مجموعة الرسومات المتعلقة بتاريخ الجزائر شعر أنه في خطر لأن هذا النوع سينمِّطه كفنان في حين كان هو يطمح إلى تصوير كل شيء حوله، اذ لا يعقل أن يتوقف إحساس الفنان عند موضوع بعينه مهما كان غنياً ومميزاً، ولا ينبغي أن يقولب في قالب. عندها ذهب الفنان الى الطبيعة والناس والقرى وتفاصيل الحياة الأخرى يمنحها من نبضه ويضخ فيها حيوات جديدة عبر نظرة أخرى تخلع عليها دلالات إضافية غير مطروقة. من هنا، ربما، يأتي الثراء الذي تعكسه أعماله، ثراء الفنان الذي يمتلك أدواته بقدر ما يمتك وعياً ودراية بالواقع الاجتماعي الذي يسعى من خلاله للوصول الى الحالة الإبداعية التي تخلق الحدث الدرامي الجديد والمؤثر، وتفرغ ما يعتمر بصدره. ولم يكن هذا ليتأتى له بسهوله بل جاء عبر سفر إبداعي مضنٍ بين مختلف العوالم والموضوعات التي جربها، إلى أن رست سفينته على أسلوبه الواقعي من دون الارتهان إلى الواقعية التسجيلية أو الفوتوغرافية. فمعظم لوحاته، رغم واقعيتها، ثرية بالدلالات والرموز التي لا تتوفر عليها عادة الواقعية التسجيلية أو الفجة، بل تجنح إلى إضافة ألوان وظلال إن على المستوى الفكري أو على مستوى التكنيك نفسه تأخذها إلى حقل دلالي جديد لتتموقع في أشكال مفاهيمية يلعب الرمز فيها دوراً حيوياً ومختلفاً عن دوره التقليدي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©