الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

العيون من شعراء التصوف إلى شعراء الرومانسية

العيون من شعراء التصوف إلى شعراء الرومانسية
29 مارس 2008 01:16
أراح البعض نفسه وابتعد عن الواقع، وعن التجربة الإنسانية في الحب المتبادل بين البشر الذي تتخلله مواقف الأمل والسعادة والتشاؤم والنشوة والإحباط، فأطلق لخياله العنان وركز على عذابات الإنسان وهو يطمح لرؤية الحبيب في لحظة زهد مطلقة، فالحبيب أكبر من أن تراه العين أو تحكي عنه اللغة، إنه الله سبحانه وتعالى، العين غير قادرة على أن ترسم صورة الله تعالى، والحواس في اللغة عاجزة، وهذا النوع من العشق هو ما اصطلح على تسميته الغزل الصوفي· إن الغزل الصوفي هو أرفع أنواع الغزل ما دامت اللغة عاجزة عن الحكاية، وعجز اللغة يثبت عجز التجربة البشرية عن بلوغ مستوى ذلك الغزل، وهذا اللون الغزلي فيه السمو والارتقاء وعدم انتظار المكافأة، بل إن فيه الاحتراق والذوبان في إطار المعشوق· المثال الساطع في الشعر العربي على الغزل الصوفي هو رابعة العدوية التي كانت تقول وهي تخاطب رب العالمين !!·· (إذا كنت أعبدك طمعاً في الجنة فاحرمني منها، وإذا كنت أعبدك خوفاً من النار فأحرقني بها)!· إن هذا لدليل على تجاوز المتصوفة مستوى العبادة البشرية، وعدم انتظار الجائزة لأن العبادة نوع من الحب، والحب في عرف البشر غير منفصل عن المنفعة، بيد أن الحب عند المتصوفة خال من المنفعة، إنه متعة في ذاته· والصوفي عذري إلى حد انعدام الصورة (صورة المعشوق) والتعامل معها كفكرة، حيث يعتبر الشاعر المتصوف نفسه عبدا، وأكثر ما يطمح إليه العبد في واقعنا الحياتي هو أن ينظر إلى وجه سيده· لقد عبر عن هذا اللون من الغزل البوصيري، وبعض الشعراء الأندلسيين، وربما تندرج الاحتفالات بعيد المولد النبوي الشريف في هذا الإطار، حيث يحتفل العالم الإسلامي ليس بمولد الرسول (عليه الصلاة السلام) كبشر فحسب وإنما بمولد النور، وهذا مظهر من مظاهر التصوف، حيث انطلقت الفكرة لدى الفاطميين في مصر ولم تكن من الأشياء المتعارف عليها في زمن الرسول الكريم· إن عواطف الشاعر المتصوف متدفقة في حب الموصوف، ومهما حاول الشاعر أن يتغنى ويتغزل بمعشوقه يظل مخفقا في الوصول إلى الصورة، لكنه في ظل هذا الجو الروحاني المشبع بالحب والغزل يحس بلذة العذاب وهو ما يحقق له السعادة· إن الأدب الصوفي الذي يبحث في اللامرئي بدأ يفتقد الجاذبية في الوقت الحاضر؛ لأنه لا يعكس صورة الإنسان في الحياة، كما أن هذا اللون تراجع كثيرا، وإذا كان له من بقايا فإنه يمثل أحد الأبعاد في التجربة الأدبية وليس جميع الأبعاد· لقد رسم العلم حدودا واضحة للدين والفن، وظهرت قيم اجتماعية جديدة ومتغيرة دائما، حيث ثبت أن طريق التصوف والانزواء عن الواقع والهروب من مواجهته ربما يريح الإنسان الفرد من الناحية النفسية ولكنه لا يحل مشاكله الحياتية· والشاعر يقول أكاذيب جميلة·· يحلم·· ينام متغطيا بالسماء·· يهيم على وجهه·· يسرح مع الخيال·· تتحول حياته إلى تراجيديا محزنة من أجل عيون ليلى· ذلكم هو الشاعر العذري·· إنه شاعر معذب، يعبر عن حسرته وعذابه من خلال قصائد شجية يرددها فم الزمان، وتعكس ما يكتنف نفسه من نقاء وطهارة، وحسرة ولوعة، فلربما يرى معشوقته مرة واحدة في حياته فيعقد مع الجمال الرائع، والتفوق الأسطوري صلات عاطفية لا تنقطع ويملأ الحياة نشيجا، ويحتفل بمعشوقته مع إطلالة كل قصيدة· إن الشاعر العذري نظر إلى المرأة مثل (إله يعبد) فهي ذات فاعلة، وهو المنفعل، يلتقي في ذلك مع الشاعر الصوفي ولكنه يختلف عنه في أن عيونه ترى الصورة (صورة المرأة) يتأمل الصورة وما وراء الصورة ويغرق حبا في الروح الملائكية، ويستضيء بالنور الوهاج وينتمي إلى المرأة المثالية وفي ذروة المعاناة والألم المطلق قد يصاب بالجنون أو يموت، يبكي على أطلالها ويشكو للزمن حالة يراها في الخيال تتربع على عرش العالم، فهي في نظره سيدة الكون· فهذا جميل بثينة أحد فرسان الغزل العذري يقول: وإني لأرضى من بثينة بالذي لو أبصره الواشي لقرت بلابله أي لو أبصر الإنسان العزول الحاسد ما يتمناه الشاعر من حبيبته لاستراحت عيونه، وغنى، وفرح لأنه لم ينل منها شيئا· ويستطرد الشاعر قائلا: بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى وبالأمل المرجو قد خاب أمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي أواخره لا نلتقي وأوائله إن منتهى ما كان يحصل عليه الشاعر هو التسويف، والمواعيد التي لا تتم والآمال الخائبة، والنظرة العجلى الخاطفة، والسنة الكاملة التي تنقضي من أولها إلى آخرها دون أن يحصل العاشق من معشوقته على ما يبل أشواقه، أو يطفأ نار عشقه· هذا هو الغزل العذري الذي يسيطر عليه الخيال سيطرة تامة، فدروب الواقع ليست مزروعة بالورود، لكن العاشق مصر على الحب، أو أصيب بمرض الحب الذي قد ينتهي به إلى الجنون أو الموت· في الثلث الأول من القرن العشرين ظهر شعراء لهم صولات وجولات في هذا اللون الشعري من أمثال أحمد شوقي، وإبراهيم ناجي، وخليل مطران، وإيليا أبو ماضي وغيرهم كثير، لكن بعد ذلك خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن الرومانسية في الشعر بدأت تفقد بريقها لتحل الاتجاهات الواقعية والرمزية وغيرها في الشعر، فلقد صار اللقاء بين العشيقين متوفراً بسبب حرية المرأة وانعتاقها من سجنها القديم، وخروجها للعمل، زالت الحدود وخفّت وطأة العشق المميت القاتل، ليتخذ الغزل منهجاً جديداً هو الاعتدال، فليس بالغزل المهلك الذي يغيب العقل، وليس الإباحي بالمعنى المتعارف عليه ـ لقد تمازجت العوطف مع العقل ليشكلا موقفاً إيجابياً من المرأة يتسم بالاحترام والتقدير والاعتراف بدورها البناء، وتأثيرها الأخلاقي الكبير في المجتمع·
المصدر: دبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©