الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بلجيكا... مختبراً للوحدة الأوروبية

بلجيكا... مختبراً للوحدة الأوروبية
7 أكتوبر 2007 01:53
عندما نفكر في البؤر العرقية الساخنة عبر العالم، فإن بلجيكا لا تقفز إلى أذهاننا عادة نظرا لأن سكانها البالغ عددهم 10 ملايين نسمة يعيشون في رخاء نسبي، ولأن الطائفتين العرقيتين الرئيسيتين فيها -الفلمنكيين والوالونيين، رغم اختلاف لغتيهما وثقافتيهما- لا تفجر إحداهما الأخرى بواسطة السيارات المفخخة أو غيرها؛ غير أن هذا لا يعني أن بلجيكا هي نموذجٌ للتعاون بين الأعراق مثلما يُشاد بها· قبل أربعة أعوام، وصف رئيسُ الوزراء البلجيكي المنتهية ولايته ''غاي فيرهوفستات'' بلده بـ''مختبر الوحدة الأوروبية''· وفي ،1989 أشار رئيس الوزراء وقتها ''ويلفريد مارتنز'' إلى بلجيكا باعتبارها ''نموذجا لأوروبا'' إذ قال إن الدولة البلجيكية الفدرالية ''هي مثال لشعوب أوروبا الموحَّدة بتنوعها المنظَّم''· والواقع أنه نظرا لثقافة التوافق السياسي، وإدارةٍ صعبة ومعقدة ودائمة التطور، فإن بلجيكا تمكنت على مدى 177 عاما من الحفاظ على وحدتها وتماسكها، وعدم الانقسام إلى شطرين رئيسيين -لكل واحد لغته وثقافته وتقاليده: الفلمنكيون الناطقون بالهولندية في الشمال، والوالونيون الناطقون بالفرنسية في الجنوب· الواقع أن بلجيكا لا تقتسم عاصمتها، بروكسيل، مع الاتحاد الأوروبي فحسب، وإنما تقوم مقام نموذجٍ له أيضا على ما يبدو؛ فقبل ثلاثة أعوام فقط، قدمَ تقريرٌ للأمم المتحدة حول ''الحرية الثقافية'' بلجيكا متعددة الأعراق، باعتبارها دليلا على أن البلدان ليست مضطرة لـ''الاختيار بين الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي''· غير أن هذا الكلام كان سابقا لأوانه ربما؛ فمنذ أكثر من ثلاثة أشهر، يَحول توترٌ عرقي بين الأحزاب السياسية في بلجيكا دون تشكيل حكومة جديدة للبلاد؛ وهو ما دفع عددا متزايدا من البلجيكيين إلى التساؤل حول الأمور المشتركة بينهم -عدا كرة القدم، والبطاطس المقلية، والمَلك· يحب الأوروبيون اليمينيون الزعم بأن التعددية الثقافية، إنما ظهرت بعد قدوم أفواج المهاجرين المسلمين خلال الربع الأخير من القرن العشرين؛ والحال أن بلجيكا كانت دولة متعددة الثقافات قبل ذلك بوقت طويل؛ فبحلول ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الحكومة البلجيكية قد تخلت عن فكرة بلد مزدوج اللغة، تدعم فيه الدولة اللغتين الفرنسية والهولندية بشكل متساو، واعتمدت بدلا من ذلك ''نظاما مزدوجا للغة واحدة''· وإضافة إلى ذلك، تحوَّل منذ السبعينيات، ما كان في وقت من الأوقات حكومةً موحدة، إلى نظامٍ فدرالي يمنح فيه الدستورُ السلطةَ للمناطق الاقتصادية الثلاث -والونيا الناطقة بالفرنسية، وفلاندرز الناطقة بالهولندية، والعاصمة بروكسيل- وثلاث مجموعات لغوية: الفرنسية والهولندية والألمانية· ولأن الهدف من النظام السياسي البلجيكي هو حماية حقوق المجموعات اللغوية الثلاث في البلاد (يشكل الفلمنكيون نحو 60 في المائة من مجموع السكان، والناطقون بالفرنسية 40 في المائة، والألمان أقل من واحد في المئة) فيمكن وصفه بـ''الديمقراطية المناوئة للأغلبية''، التي يتم تحقيقُ توازنِ السلطة فيها عبر التمثيل العرقي النسبي، واقتسام السلطة التنفيذية، ومنح الأقليات حق الفيتو· ونتيجة لذلك، ففي بلجيكا اليوم نظامان حزبيان منعزلان ومنفصلان، وكليتان انتخابيتان، إحداهما ناطقة بالفرنسية، والأخرى بالهولندية، أما الناطقون بالألمانية فيتم مراعاتهم وإدماجهم في هذا الخضم بواسطة صيغ معقدة· ورغم أن الهدف منه هو تسهيل التوصل إلى التوافق، غير أن إدماج الخلافات اللغوية في النظام السياسي لم يؤد إلى جعل البلجيكيين المختلفين يشعرون بأنهم جزء من البلاد، بل إنه لا يعمل سوى على تعزيز الشعور بأن الفلمنكيين والفرانكوفينيين (ناهيك عن الأقلية الناطقة بالألمانية) شعبان مختلفان ومنفصلان تماما· والحقيقة أنهما يتصرفان على هذا النحو، وهو أمر غير مفاجئ، نظرا لأن التفاعل والاحتكاك الاجتماعي بين أكبر طائفتين في البلاد منخفض إلى حد كبير، وكذلك الحال بالنسبة للزواج المختلط· فالناس لا يصوتون في انتخابات مختلفة فحسب، وإنما يشاهدون قنوات تلفزيونية مختلفة، ويقرأون جرائد مختلفة· كما أن الانعزال اللغوي في المدارس واضح أيضا· ففي منطقة والونيا مثلا، يتحدث 17 في المائــة فقــط هولنديــة مقبولـــة إضافــــة إلــى الفرنسية· غير أن الأمر يثير السؤال التالي: ما الذي حافظ على هذا البلد، الذي تجاوز مرحلة الحداثة، متماسكا ومتلاحما؟ الجواب: الملكية· بيد أن الدعوات التي صدرت عن الملك ''ألبيرت الثاني'' والمنادية بالوحدة الوطنية لم تلق أي صدى حتى الآن على ما يبدو· ولئن كان بعض البلجيكيين يشجبون ما سماه فيلسوف فلمنكي بـ''هوية اللاهوية''، فإن آخرين يتبنوها· فقبل تسع سنوات، نشرت مجموعة تضم من يسمون بالمثقفين والفنانين البلجيكيين الجدد رسالةً مفتوحة أعربوا فيها عن معارضتهم لوجود هوية وطنية واحدة وحيدة؛ وجادلوا بأنه إذا كانت الهوية الوطنية أمرا لا يستحق الافتخار، فإنهم فخورون بكونهم بلجيكيين· والواقع أنهم بذلك أعلنوا أن بلجيكا ''مضادة للقومية''· وعليه، فيمكن القول إنه طالما أن الدولة البلجيكية لا تعني الكثير، فإنه يمكن استبدالها بمفهوم جديد وأوسع للأوروبيانية الذي لا هوية لها· ولكن، ما الذي يجعلهم يعتقدون بأن الاتحاد الأوروبي العملاق لن يبتلي بمصيرٍ مماثل، في حال انهارت بلجيكا الصغيرة والنموذجية تحت ضغط التوترات العرقية؟ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©