الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتاب ونيران الحرائق

5 أكتوبر 2007 22:05
تعرَّضت الكتب عبر التاريخ إلى ما تعرَّض له الإنسان تماماً؛ فقد طوردت، وسُجنت، وألقي القبض عليها، وأُتلفت حرقاً وتغريقاً وغسلاً بالماء، ودفناً في باطن الأرض وفي كهوف مجهولة وحدائق جميلة وخرائب متروكة· مصائر الكتب هي مصائر البشر تماماً، ومعاناتها معاناته· والكوارث التي حلّت بالكتب حلّت بأصحابها سواء بسواء· وما من ثقافة تخلّصت من هذا الداء العضال عبر التاريخ، ما من حضارة لم تحرق الكتب، وما من نظام سياسي عقيدي، قبل تأسيس الأنظمة الديمقراطية الغربية، استطاع تجنّب إحراق الكتب أو إتلافها بشتى الوسائل· يرى أدونيس، في تعليق هامشيٍّ على عرضه لكتاب باللغة الفرنسية عنوانه ''كتب تحترق'' لمؤلفه لوسيان بولاسترون، أن السبب الرئيس الذي دعا إلى تدشين إحراق الكتب هو الوحدانية في الدين والفكر والسياسة· فإذا لم يكن الدين أو الفكر أو السياسة تسمح بالاختلاف، يتولد سبب وجيه لإتلاف وجهة النظر الأخرى، وهذه الأخيرة قد تكون فرداً، أو مؤسسة، أو فكرة مبثوثة في كتاب· في وضع مثل هذا، يستوي الكتاب والكاتب، فهذا يحمل بين دفتيه الخطر، وذاك في رأسه· لكن الفرق الفارق بينهما هو أن الكتاب يستعصي على التلف التام، فيما يتحطم رأس الكاتب بيسر متاح لأيّ سلطة غاشمة· ومن هنا رأينا كتباً قاومت الإتلاف والتحريق والغسل، لكنّ أجساد كتّابها لم تنجُ من التحريق وتقطيع الأوصال ورميها للنار· إن إتلاف الكتب عموماً يجد دواعيه العديدة في مختلف عصور التاريخ· ولا شكّ أن من بين الدواعي الأهمّ تلك الحرب التي تُشنّ على النصوص· إن حرب النصوص تتخذ ألواناً، ومن ألوانها الإحراق والغسل والدفن، إذ يبدو أن ذلك أيسر السبل للقضاء على الأفكار المناوئة، إنها تماماً مثل قتل الخصوم بقطع الرؤوس أو السموم· في العام 400 للهجرة، كتب أبو حيان التوحيدي رسالة إلى القاضي أبو سهل علي بن محمد يشرح فيها معاذيره لحادثة إحراق كتبه وغسلها بالماء، وهي رسالة دبّجها التوحيدي جواباً على رسالة بعثها إليه القاضي يستشنع فيها إتلافه كتبه· ويستغرب التوحيدي فيها من ''انزواء وجه العذر'' على القاضي؛ ولذا حاول فيها أن يقدم تبريرات نجملها كالآتي: ·1 الزهد: حاول التوحيدي تبرير إتلافه كتبه بنزعة ترى فناء كلّ شيء إلا الله· ولكن، لم يُعرَف عن التوحيدي أنه زاهد، وما كان من القانعين بما كتب الله لهم، بل إن حياته لتزخر بالمحاولات العصية التي نشد فيها تغيير حاله نحو الأفضل بطلب جوائز الحكّام· لكن النحس كان حليفه المؤكد دائماً، ومن هنا سخطه الدائم، وشكواه المستمرة من انصراف الزمن عنه، وهو الألمعي، إلى الآخرين وهم الأغبياء· ·2 الاستخارة: حاول أيضاً أن يتملّص من مسؤولية قراره ذاك بالاستخارة· فقد استخار الله ''أياماً وليالي'' حتى أوحى إليه في المنام ما زاد عزمه وعزيمته على حرق كتبه وغسلها· فكان أن ارتكن إلى من يريد صلاحه أكثر من ذاته، إذ أخذ يفلسف تصميمه على إتلاف الكتب وتحقيقه ذلك بإقامة صلة بين العلم والعمل، والعمل والنجاة يوم الآخرة· ففضّل النجاة على أيّ شيء آخر· ولكن، من هو الذي يحدد مدى فاعلية نصوص التوحيدي، أهو التوحيدي نفسه؟ وكيف تسنى له الحكم على الصلة بين أعماله العلمية وفاعليتها العملية؟ إنه محض تبرير مرة أخرى، ومحض إخفاء لليأس الذي عانى منه هذا العبقري الذي تأمل عبقريته مسفوحة في أمكنة لا تليق بها، ونظر إلى مآلها التعيس فغضب غضبة اليائس من كلّ شيء، من نفسه، ومن الآخر، ومن الكتب· ·3 الحرمان: احتجّ التوحيدي بأنه جمع تصانيفه وكدح في تأليفها لكي ينال ''رياسة'' و''جاهاً'' بين الناس، غير أن واقع الحال هو أنه محروم من ذلك كله، فلماذا إذن يبقي على كتبه التي لم تنوّله الرياسة والجاه· ها هنا يضع التوحيدي إصبعه على الجرح، يجسّه ويشعر بالألم· لقد فاتته الرياسة التي طمح إليها، والوجاهة التي رأى أنه يستحقّها· عين على الذات وأخرى على حالها التعيس، وإصبع على الجرح الذي كلّما التأم نكأته أصابع الحسرة والحزن· هنا مكمن السرّ الذي حدا به إلى إتلاف كتبه، وطلب المعاذير لهذا الإتلاف، هنا اليأس من نفسه، ومن الآخر، ومن الكتب· ·4 الخشية من التلاعب بها: يخاف التوحيدي من أن يتلاعب بكتبه الجهّال ليدنسوا عرضه، ويشمتوا من سها أو غلط فيها، لاسيما بعد أن فقد ''ولداً نجيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً''· ·5 الاقتداء بالعلماء: وأخيراً، يرى التوحيدي في إحراق كتبه ''أسوة بأئمة يُقتدى بهم'' مثل الفقيه الزاهد داود الطائي الذي يسميه ''تاج الأئمة'' الذي ألقى بكتبه في البحر، والزاهد المعروف يوسف بن أسباط الذي ألقم كتبه غاراً في جبل وسدّه عليها، وأبي سليمان الداراني الذي سجر كتبه في تنور وقال: ''والله ما أحرقتك حتى كدتُ أحترق بك''، وسفيان الثوري الذي نثر كتبه في الريح بعد تمزيقها وقال: ''ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفاً''، وأبي سعيد السيرافي الذي أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار· فما الذي يجعله يحجم عن إتلاف كتبه وقد سبقه إلى هذه المأثرة علماء أفاضل من هذا الطراز؟ غير أن واقع إحراق هؤلاء العلماء كتبهم لا يشبه واقع إحراق التوحيدي كتبه، فمن بينهم من لا يمكن الشكّ في صدقيته وزهده، ومن ثمّ لا يمكن الشكّ في دواعي إتلافه كتبه، أما التوحيدي فالقنوط الذي لفّ خواتيم حياته يقف داعياً رئيساً لتلك الحادثة الشهيرة التي استبقت فيها سلطة الكاتب على كتبه أيّ سلطة أخرى يمكنها أن تتصرف بميراثه الحيّ من الكتب· لدينا تاريخ، إذن، في إتلاف السلطة الكتب، وإتلاف الكتّاب كتبهم· وكتب التراث العربي غاصّة بالنصوص التي تعبّر عن هذا المعنى، وقد جُمع عدد وافر من هذه النصوص في كتاب عنوانه ''حرق الكتب في التراث العربي''· وهذا التاريخ ما يزال مطرداً، يجد تمثيله في بؤس الحاضر، إذ لا تمرّ فترة حتى تجد في السجون كتباً وُصفت بأنها مجرمة، إما لأنها اقترفت جريمة حرية التعبير عن الرأي، أو لأنها طرحت على بساط البحث قضية مسكوتاً عنها، أو لأنها تناولت بالنقد سلطة أو فرداً محصّناً ضد النقد ومعصوماً من الخطأ· أخيراً، هذه تذكرة موجزة، وغيض من فيض في محاربة الكتب: تدمير مكتبة آشور بانيبال· وإحراق اخناتون النصوص التي تختلف مع فكرة الوحدانية التي كان يدعو إليها، وقام الكهنة بحرق كتبه حينما مات· وحريق مكتبة الإسكندرية· وإحراق الإمبراطور الصيني ''كين'' الكتب بدافع سياسيّ غرضه توحيد الصين، واحتجّ أربعمائة مثقَّف على إحراق الكتب فدفنهم أحياء· ابن رشد وإحراق كتبه· وصلاح الدين الأيوبي وتدمير المكتبة الفاطمية· وتدمير مكتبة المنصور في قرطبة حوالي العام ·1000 وتدمير الصليبيين لمكتبة قسطنطينية في حوالي العام ·1204 وطرح هولاكو الكتب في دجلة بعد سقوط بغداد· ومحاكم التفتيش في إسبانيا تحرق الكتب العربية واليهودية· لاس كازاس وتدمير كتب الآزتيك والمايا· وإحراق الكتب المخالفة لنوازع ثوار الثورة الفرنسية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©