الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نحو رؤية عربية للحداثة 2 -3

نحو رؤية عربية للحداثة 2 -3
3 أكتوبر 2007 00:22
وغاية الفعل الحداثي - حسب التحديد الذي عرضته في المقال السابق - هي فتح أبواب المستقبل الذي يحقق وعود الإنسان وأشواقه في كل مجال· و''الإنسان في هذا السياق هو الفرد، حجر الزواية في فعل الحداثة وحركتها، الفرد من حيث كائن فعال لما يريد، خلاق، متحرر من كل القيود، الفرد الذي يعني عموم جنس الإنسان، سواء من حيث هو مفهوم لا تمايز فيه بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات أو في مدى الرفض الذي تتلهب فيه إرادة التغيير، أو رغبة المساواة الكاملة قولاً وفعلاً، بلا ازدواج، أو نفاق، أو ادعاء، وليس من المهم أن تكون كل الظروف مواتية لتقدم الفعل الحداثي، فهذا لم يحدث في التاريخ؛ لأن الحداثة تبدأ عادة بأقلية، طليعة، مهمشة، قد ينظر إليها من حولها نظرة الريبة أو العداء· لكن تماسك هذه المجموعة لا يقل أهمية عن تنوعها الخلاق، وقدرتها على الحوار الذاتي، وإصرارها على تحقيق قيم التقدم وممارستها بما يعدي غيرها، وبما يجذب هذا الغير إليها، وذلك بوسائل اتصال غير رسمية، بعيداً عن سطوة المجموعات التقليدية، المهيمنة، مجموعة قادرة على اختراق نطاق الهيمنة، بوسائل عديدة وحيل جديدة مبتكرة، تستغرق من الوقت والجهد ما يمكن أن تستغرق، المهم أن نحافظ على اتجاهها السليم، وأ لا تتخلى عن البوصلة التي تقودها إلى ما تريد· وبالطبع لابد أن يكون الظرف التاريخي مواتياً، تتعادل فيه قوى الصراع، أو على الأقل يحمل البذور القابلة للنماء، بعد رعايتها والصبر عليها، والإلحاح المستمر على صياغة خرائط معرفية جديدة في كل مجال، ومن منظور الطاقة الحيوية التي لا تكف فيها الذات أو الذوات المتمردة، عن مساءلة نفسها وما حولها، محتدمة برغبة التغيير المقرونة دائماً برؤية عالم جديد يلوح في الأفق· هذا العالم الجديد الذي ترسمه خرائط المعرفة الجديدة يتضمن - بالضرورة - تحقيق مبادئ العدل والحرية والمساواة والتقدم، فيحول بين استغلال الإنسان للإنسان والتمييز بين الجماعات على أساس من دين أو عرق أو طائفة أو جنس· ولذلك توصف الحداثة من حيث هي حركة بأنها تبشير بإنسانية جديدة، أولاً: على المستوى السياسي الذي يصل بالديمقراطية إلى ذرى ممارساتها، وثانياً: على المستوى الاجتماعي الذي يضمن الحراك الحر والحوار والتفاعل بين الطبقات والطوائف دون تمييز، وثالثاً: على المستوى الاقتصادي الذي يحرر قوى الإنتاج وعلاقاته من كل قيد، ورابعاً: على المستوى الفكري الذي يضمن حرية التعبير وحق الاختلاف، وخامساً: على المستوى الديني الذي يضمن العلاقة الحرة المتكافئة بين الأديان في المجتمع، دون أي تمييز بين الأغلبية والأقليات، ودون حجر على أي اعتقاد مهما كان· وسادساً: على المستوى التعليمي الذي يجعل التعليم المتطور كالماء والهواء حق لكل مواطن، وذلك في المدى الصاعد من التحديث الذي لا يتوقف عند حد، وسابعاً: على المستوى العلمي في كل مجالاته التي لا تعرف تفضيلاً لمجال على مجال، بل تتأسس على رغبة التطوير المتكافئ بين كل قوى إنتاج المعرفة العلمية والإنسانية وعلاقات إنتاجها في كل مجال · وأخيراً : على مستوى النوع، أو الـ Gender حيث تتحدد الهوية الجنسية للفرد ، ذكراً أو أنثى - حسب إرادته الحرة، دون تمييز أو اضطهاد· هذا العالم الذي تسعى إليه الحداثة وتصوغ الخرائط المعرفية الموصلة إليه لا يمكن أن تتحقق وعوده إذا اختل التوازن بين النقائض، وضاعت لحظة الما بين، نتيجة الانتصار الكامل للضد التقليدي الجامد الساعي إما إلى إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء· والأصولية الدينية هي الوجه الآخر للاستبداد السياسي في هذا المجال، خصوصاً حين تتجاوب أوجه المشابهة بينهما حتى في حالات العداء، فكلتا الأصوليتين - في التعصب والاستبداد - تنبني على الآليات نفسها، وعلى العناصر التكوينية ذاتها، وعلى الأهداف النهائية عينها· ولذلك ما أكثر ما يتم التحالف بين الأصولية الدينية والاستبداد السياسي، تحت شعار الملك بالدين يقوى والدين بالملك يبقى، وفي الوقت نفسه فإن الجمود الاجتماعي يمكن أن يكون الوجه الآخر لعدم الحوار المجتمعي، وانقلاب الحوار إلى احتقان أو صراع، إما بين أغلبية وأقليات، أو بين طوائف مستقوية وأخرى مستضعفة، أو بين طبقات متناحرة متعادية· وأخيراً، يمكن أن يكون التخلف العلمي المعرفي، بأوسع معانيه هو الزاوية التي تكمل زوايا المثلث الجامعة بين الأصولية الدينية والاستبداد السياسي في جانب ثان، والجامعة بين غياب الحوار المجتمعي وتخلفه العلمي المعرفي في الجانب الثالث المكمل لزوايا المثلث· والنتيجة الحتمية هي الفوضى وتصاعد الأزمات الاقتصادية الخانقة، وضياع الاستقلال الوطني الذي تحل محله التبعية لقوى كبرى مستغلة، تتميز بالصلف والاحتقار أو النظرة الدونية إلى الدول التابعة التي لابد أن تكون دائما طوع الأمر، أو تكون دائماً في حال التقليد، فالمغلوب مولع بتقليد الغالب فيما ذهب ابن خلدون· وعندما تتحقق هذه الشروط تتقلص دعوة الحداثة والرغبة فيها، ويختفي الحضور الإبستمولوي ''المعرفي'' والوجودي ''الأنطولوي'' للما بين، ويغلب الوخم والجمود والتخلف على المجتمع، وتقمع الأصوات المغايرة، ويستأصل حق الاختلاف أو المغايرة، أو حتى رغبة التمرد· لكن لحسن الحظ، فالنقيض ينطوي - دائماً - على نقيضه، وكل ظلمة مهما تكاثفت لا تخلو من ثغرة للضوء مهما صغرت· ولذلك فالأمل يظل قائماً في استقدام لحظة الما بين بالرغم من كل المصاعب، ما ظلت حذوة التمرد كامنة تحت الرماد، وما بقيت العقول المهمشة، المضطهدة، محافظة على لهيبها الداخلي، فتتشكل منها طليعة المقاومة، صغيرة، واهنة في البداية، لكنها قادرة على الاستمرار بالرغم من كل الصعوبات والتحديات، ما ظلت منطوية على الحلم بالمستقبل الأجمل التي لا بداية غيرها: أعني تمرد الذات العارفة على طرائق إدراكها لنفسها وللعالم حولها، وذلك هو الفعلُ الخلاق الذي تبدا منه اللحظة المعرفية التي هي المقدمة الأولى لغيرها الآتي بعدها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©