الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في وادي قزح

في وادي قزح
8 مارس 2017 23:55
من مقبرة الجرة في مبنى الحكمة، تنبعث أصوات أبواق تغزو سكينة الأثر في مدائن الحجر.. لا تدري كيف تشخص الجبال، وتشرئب الوديان للصفير والنفير، فيلتف السيق حول خاصرة الطريق ويتلوى كأفعى تتمايل مع نهنهات السراة، وربابات الرعاة، وغمزة الكحل تقطر كلؤلؤة سوداء للابسات البراقع، لتستقر كحجر أسود في معبد إله الشمس، هناك في المدينة الوردية. فديتك بمخدعي للعرافات وحدهن أن يلكزن المصير، ويثرن النقع حول نجوم المجرة، حين يلقين بحجر الغيب ويقرأن فنجان الآلهة، وحدهن، من تصدقهن رغم علمك بكذبهن، ووحدهن من يلعبن بالقدر كما يحلو لمزاجهن وكيدهن، وأفانينهن... يطلقن لمخيلتهن العنان، ويقبضن على عنق القلق، ليهبن للعذراوات فوارس قدت من لحم الآلهة كأيقونات ميثولوجية، فيصدقنهن، ويرقن الصبر من دمع القلب ودم العفة، وشرارات الضمة تشب من نمارقهن، كأني بكل واحدة منهن تغوي فارسها المنتظر وهي تختلس النظر إليه من شق الروح، موشوشة له: فديتك بمخدعي! في البتراء.... حيث التيهاء والظلماء ورقصات الساحرات اللواتي يسبحن كالنجمات في الفلك ويهبطن كالنيازك من دوحة الأبراج، يترجلن عن ظهر البدر المُعَنّى، ليحططن رحالهن فوق أرض الوله.. هناك تبحث الصبايا عن بدوي يخض الكوكب السري بومضة سمراء من عينيه السوداوين... عن فارس بشاربين كثيفين، ولحية مهذبة، وعباءة طلقة تشد الريح من ذيلها وتعلقها بطرفها الخلفي، عن كوفية حمراء تطوي السماء تحت عقالها الشموخ، عن سيف كحد النهر يخترق أنسجة التربة رقراقا وحادا يطعن ليروي لا ليرتوي، ويبارز ليثمل لا ليقتل... فهل من مجيب؟! خزينة الشمس تتوارى المدينة الوردية، تحت عباءة البدوية، ويقفو الغزاة أثرها في شامة الكحيلة، فأين الفرار؟ شيء ما، يحيلك إلى عذابات النساء مع الغرباء، بعد الموت في أحضان القبيلة، لكأنه التباس عاطفي، أو تيه إدراكي، حين يتماهى الحبيب مع الغريب، وتضل الذاكرة.. لاشيء يقتل الحب سوى الارتواء، ولا شيء يخلده سوى الموت، وبين المدينة والمرأة وشيجة محكمة، هي طبيعتها المنفوية، رغم وَطْنتها، فهي وطن ومنفى، وهي انفصام وتوحد وهي ذات وضد، وهي روح وظل، وهي ملاذ وتيه، وغربة وعودة وشتات وحضن... وكلها ثنائيات متقابلة تتكامل في وحدة تتقاطع فيها أضدادها... حيث السير عبر الممر الضيق يبتلع الضوء ويتعرج كأفعوان حجري ممتد عبر ممشى غامض وطويل قبل أن ينفتح على الأفق لتستقبله خزينة الشمس التي يزنرها قوس قزح، فتبدو طاووسية بلا خيلاء، ولكن بكبرياء، تليق بملكة سرية أو إلهة محرمة، هنا تحديدا تندغم الدلالة بالصورة والإيحاء الأنثوي للخزنة، التي تشغل العين بأبهة الملقى، بعد اكتظاظ الروح بالأسرار والتكهنات وكل ما هو خبئ وراء هذا الشريان التاجي أو الإكليلي الذي تتراكم فيه اللويحات الحجرية وتضيق إلى الحد الذي تحس فيه انك تعبر البرزخ بين غيبوبتين: لحظة انطلاق الرحلة واستحالة العودة منها... لقاؤك بها لقاء عاشق، أو طريد، ولك أن تتخيل كيف تخلع برقعها أمام ناظريك، بدهشة غامرة، كأنها أسطورة الغيب، وحورية الصحراء.. وحواء المستحيل... ويا إلهي ما أجمل البتراء! لن تؤمن بعد هذا بالمرأة المستحيلة، على طريقة من يتولعون بالنساء إلى حد الاستحالة، أو من يحقدون على الاستحالة إلى الحد الذي يختصرون بها كل النساء، وهذا نابع من فائض في التجربة يبتر الإدراك قبل بلوغ اللذة، لأن الاستهلاك العاطفي للمرأة واستغلالها إبداعيا لا يرتقي بالوعي الفني عند هؤلاء ولا بالحس الإنساني، بقدر ما يدخلهم في دوامة اللهاث خلف النمطية ويشتت سعيهم إلى المستحيل! ولكن هل هناك امرأة مستحيلة حقا؟ ربما في حالة واحدة فقط، حين لا يمكن للمرأة أن تكون سوى رحلتك، لا تجربتك، وحين لا يمكنك أن تعيش الحب سوى مع المدينة دون سواها! الذاكرة وكيمياء الاختراق ولكن، ما هو شعور المدينة حين يهجرها أهلها؟ هل يؤثر الفراغ على العدم أم على اللاوجود؟ بمعنى آخر، لا يمكن لمقدار فيزيائي أو كتلة مادية ألا تكون قوة مؤثرة في وسطها الذي تشغله ولو بمعدل ما تستهلكه من هواءاته، بما أن البيئة كائن حيوي ووظيفي، يتفاعل كيميائيا وعاطفيا مع كوائنه التي تنسجم معه في حقلها المغناطيسي «حقل الجاذبية» بوحدة قياس هي الأجرام السماوية، فالوطن كحيز أرضي مفهوم قاصر، ومهين لنظرية التفاعل التي ستبرهن أن الغرباء ليسوا بدائل فيزيائية لإشغال الفراغ، بقدر ما تؤكد على الخصائص الكيميائية له، حين يضر فقدانها بالبيئة، التي ستصاب فيما بعد بأمراض الحنين! الحنين إذن، خاصية تفاعلية مشتركة بين المرء ومكانه، يرتبط بها العنصر الوراثي الجيني ارتباطا وثيقا من خلال الذاكرة المعاشة أو المتواترة أو المصورة، أو المحسوسة... وهو ما يقود إلى الخاصية العليا: اختراق الحواس. اختراق الحواس و «الديجا فو» في علم النفس الموازي أو ما يسمى الباراسيكولوجي، يمكنك الخروج من جسد المكان دون أن يغادرك جسده، فالقابليات الروحية بينكما تستجيب لخارقية الحاسة السادسة، التي تشتغل بقوة الإدراك فوق الحسي، فتمكنك من التخاطر مع المكان أو حتى تحريكه من مكانه، أو التواجد فيه وفي منفاك في لحظة واحدة، حين يبلغ جلاؤك البصري أو استشعارك بتكوين الصور العقلية، ذروته، لتتوحد مع مكانك بكل حواسك الخارقة، التي تدخلك في حالة مزمنة من «الديجا فو» أو سبق الرؤية، ليستوطنك المكان كهاجس، ثم كحلم، تشعر به مسبقا فتراه وتزوره، كأنك تعيشه كماض يعاد من جديد... فأي رؤية هي البتراء؟ قد لا توافق هنا من يعتبرون كل هذا من العلوم الزائفة، ليس ليقينك بإحساسك، على العكس تماما، فعلاقتك بوهمك أشد متانة وأكثر يقينا، وهو تحديداً ما لا يخيفك منه دون أن يطمئنك بالمطلق، مع التسليم التام بأن للحقيقة ما للحقيقة من ملذة لا يمكن أن يضاهيها سواها، إلا أن استدراج المكان إلى منطقة التقمص التام له بعملية تنويم إيحائي هو بحد ذاته يفوق اللذة، لما فيه من قدرة وتعلق وبلاغة نفسية لا يمتلكها سوى من استغرق إلى حد الاندغام بالمكان في وحدة وجودية واحدة. لم أزر البتراء في حياتي كلها، ولا أظنني سأفعل، ليس اكتفاء بالنفس الموازية، إنما انتشاء بإعجازها حين تعجز الحقيقة عن مماهاتها، ما دامت تحصيل حاصل، وهناك ما هو أجمل منها... إنه إدراكها دون أن تحقق بالتالي تجاوزها. خباء الجنة..وحكمة التيه! المدينة وأنثويتها، الحقيقة وتجاوزها، المستحيل وفروسيته، الوطن ومنفويته، العرافة ووشومها، الغيب وغوايته، الروح وخارقيتها، حواس المكان ورقيمها اللاحجري، كلها روحانيات أو روحيات حورية الصحراء ومدينتها الوردية المتوارية خلف قبور الآلهة في مدائن الحجر، تمد شريانها الحيوي باتجاه الشام وغزة واليمن، كأنها العروة الوثقى بين السماء والجنات المفقودة......... و آه!! لم يكن عبثا إذن أن يضلل الحارث النبطي الغزاة في صحراوات التيه، حين كانوا يبحثون عن دليل عربي يرشدهم إلى بلاد الله السعيدة: اليمن، ليبرهن عبر التاريخ حكمة التيه، وسياج المضلة، وهذا من شيم الخفاء والاستتار التي تحلت بها المدينة المختبئة بين الجبال، لتعزز من قيمة الخباء كفلسفة دفاعية وغوائية وعمرانية مذهلة، يحتشد بين ثنياتها سر الألقين: دهشة الانكشاف ومكر الحشمة.... فطوبى لعينيك يا سيدة المخادع، وحورية الصحراء، وفنجان العرافات الأسطوري، طوبى لوردك الذهبي يتفتح في وادي قوس قزح كزهرة الشمس... لك المجد أيتها البتراء! الجنّات المفقودة المدينة وأنثويتها، الحقيقة وتجاوزها، المستحيل وفروسيته، الوطن ومنفويته، العرافة ووشومها، الغيب وغوايته، الروح وخارقيتها، حواس المكان ورقيمها اللاحجري، كلها روحانيات أو روحيات حورية الصحراء ومدينتها الودرية المتوارية خلف قبور الآلهة في مدائن الحجر، تمد شريانها الحيوي باتجاه الشام وغزة واليـمن، كأنها العـروة الوثقى بين السماء والجنات المفقودة ................. و آه!!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©