الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في دوما... رأيتُ الإيمان يحرِّك السوريين المنتفضين

في دوما... رأيتُ الإيمان يحرِّك السوريين المنتفضين
11 فبراير 2012
إنها السادسة صباحاً في دوما، إحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق. القارئ يتلو من مآذن المسجد الكبير، عبر مكبرات الصوت، آيات من القرآن الكريم وأدعية تستطيع المدينة كلها سماعها. وشخصياً، أعلمُ أن سكان دوما يستمعون. خلال الأربعة عشر يوماً التي قضيتها في سوريا بين الثاني عشر والسادس والعشرين من يناير، والتي علقتُ خلال جزء منها داخل منازل آمنة في دوما، رأيتُ الأعمال الفظيعة التي يقوم بها نظام في حق شعبه. وأعلمُ أن تلك الأعمال لم تكن ترتكب في دوما فقط، وإنما في ست من ضواحي دمشق أيضاً. وفي كل يوم كنت أقف على وحشية قوات الأمن، حيث كنت شاهداً على أعمال القتل وتوقيف الأفراد في وسط دمشق بدون سبب واضح. كما زرتُ بعض العائلات التي فقدت أبناء لها، ورأيتُ أطفالاً صغاراً تيتموا، لا يعرفون بعد ماذا حدث لآبائهم وأعمامهم وأقاربهم. بحثتُ عن جواب لما يجعل هؤلاء الناس ينتفضون كل يوم ضد نظامهم، ولماذا يذهبون للمشاركة في مظاهرات الأحياء كل ليلة، رغم أنهم يعلمون أن قوات النظام التي يواجهونها لا تتردد في إطلاق نيران أسلحتها عليهم بشكل عشوائي. وكان السكان المحليون، ونشطاء الثورة، وأعضاء "الجيش السوري الحر"... يقدمون الجواب كل مرة. فالسوريون الذين تحدثتُ إليهم لا يعقدون آمالهم في الحرية على الجامعة العربية، أو تركيا، أو أي حكومة غربية... لكني سمعتُ مراراً وتكراراً أن أملهم الوحيد هو إيمانهم بالحق والباطل، مثلما يعلِّمهم الإسلام وحياة الرسول ذلك. وحسب هذا الاعتقاد، فإن من قتل شخصاً بريئاً فكأنما قتل الناس جميعاً. والإسلام، كما يقولون، يعلِّم الناس احترام الحياة والحقوق الفردية. وهم يرون "الحق" الذي يتحدثون عنه مجسداً في كفاحهم من أجل الكرامة، كلمة ترددت على مسامعي كثيراً عندما كنت أسأل الناس: لماذا تثورون؟ ويرون "الباطل" مجسداً في هجوم النظام على شعبه، إنه انتهاك للحياة وقمع للحرية. أفراد المعارضة الذين تحدثتُ إليهم قالوا إن هذا ليس قتالاً طائفياً أو انتفاضةً ضد الأقلية العلوية من قبل الأغلبية السنية، بل هو دفاع عن الحق في الحرية وكرامة الحياة كما يدعو إليها الإسلام. إنه كفاح من أجل الديمقراطية. ويقولون إن كل السوريين، بخلفياتهم المتنوعة، عاشوا معاً على هذه الأرض قروناً طويلة، وسيظلون كذلك. معظم ضواحي دمشق، إن لم يكن كلها، تنظم مظاهرات كل ليلة. وقد حضرتُ واحدة من هذه المظاهرات لأول مرة في الرابع عشر من يناير، بعد يومين على وصولي إلى سوريا، في ضاحية القابون. يومها، قام أفراد "الشبيحة" بمهاجمة محتجين عزل أمام عيني. وبعد دقيقتين أو ثلاث على بدء المظاهرة، عندما أخذ الناس يهتفون "حرية"، بدأت قوات الأمن إطلاق النار من بنادق "كلاشنيكوف" على الحشود وبشكل عشوائي. وحاول أصدقائي حمايتي عبر دفعي بسرعة إلى داخل السيارة، لكن الأوان كان قد فات حتى نبتعد عن المكان بسرعة. ورأيتُ أحد أفراد "الشبيحة" يجر مصاباً من المحتجين إلى داخل سيارة، وقيل لي لاحقاً إن ذلك المحتج مات في الليلة نفسها. كما رأيت عدداً من المحتجين يُعتقلون ويتعرضون للضرب المبرح. أحد أفراد "الشبيحة"، وكان في منتصف العمر، بشعر شائب ووجه محلوق، صاح فينا بينما أطلق عيارات في الهواء: "بشرفكم، مع من تقفون؟ الأسد أو الفاشلين؟". ولم يتركنا نذهب إلا بعد أن شرح له سائقنا بهدوء أننا كنا مارين من المكان وتم إيقافنا من قبل المحتجين، وبالطبع بعد أن هتفنا: "يحيا بشار الأسد!". كانت تلك تجربة فريدة لا تنسى بالنسبة لي، لكنها شيء يعيشه المحتجون في سوريا يومياً. وبعد بضعة أيام على ذلك، في الحادي والعشرين من يناير، رأيتُ استمرار الفظاعات. فعقب جنازة في دوما، قام الجيش بمهاجمة المدنيين المشاركين فيها بشكل وحشي، فقتلوا ستة أشخاص وجرحوا آخرين كثيرين. لكن، ما الذي دفعهم في ذلك السبت إلى مهاجمة مدنيين عزل كانوا يذكرون مناقب "شهدائهم"؟ يقول بعض السكان المحليين الذين تحدثت إليهم إن ذلك يعود إلى وعد "الجيش السوري الحر" بحماية المشاركين في الجنازة من جنود النظام. لكن، وفي ما بدا محاولة لتقديم وجهة نظر معارضة، قام الجنود السوريون بالإغارة على المكان، وأخذوا في وضح النهار يطلقون نيران أسلحتهم على المدنيين. المشهد صُور بواسطة كاميرا وبُث عبر العالم، وخلاله كنت وأصدقائي نحاول جاهدين إيجاد مكان للاختباء فيه من إطلاق النار. ولأول مرة، قام "الجيش السوري الحر"، الذي يجند المنشقين عن الجيش السوري إضافة إلى شبان سوريين وأفراد من عصابات الشوارع لإسقاط نظام الأسد، بالرد على الجيش النظامي في شوارع دوما. وفي نهاية ذلك السبت، كانت قوات النظام قد أُرغمت على التراجع والانسحاب من الشوارع، ونقلت مواقعها إلى أطراف المدينة. وبحلول صباح الأحد، كانت هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة، واشتهرت بانتفاضها على الحكمين العثماني والفرنسي في الجزء الأول من القرن العشرين، تبدو على شفا انتفاضة أخرى واسعة النطاق. وبين ليلة السبت وصباح الأحد، كانت شوارع دوما خاضعة كلياً لسيطرة "الجيش السوري الحر". تقطعت بي السبل في دوما لعدة أيام كنت أتنقل خلالها من منزل إلى آخر، وذلك لأن نقاط التفتيش في المدينة لم تكن تسمح لنا بالمغادرة، والأعمال الوحشية التي وقعت يوم الأحد خلال الجنازة زادت التوتر حول المدينة. وحتى وسط الفوضى، رأيتُ قوة الإيمان والروابط العائلية، ففي منتصف نهار الأحد، كنا مختبئين في محل مجاور لـ"ساحة الحرية". ولأنه لم توجد ثمة إشارة قوية للإنترنت في هذا المحل الواقع في قبو البناية، اضطر صديق من "التنسيقيات" للصعود إلى مستوى أعلى من أجل التقاط إشارة أقوى عبر شبكة الهاتف النقال من الجيل الثالث. وفي الطابق الثالث من نفس البناية، فتح أحد الجيران باب بيته لاستضافة هؤلاء الضيوف غير المدعوين لمدة زمنية غير معروفة. قام الشاب المنتمي إلى التنسيقيات بربط جهازه بالإنترنت بسرعة، وتسنى لنا الحديث مع أصدقاء وأقارب، وإخبار الجميع بحقيقة ما يحدث في المدينة. قاسم (7 سنوات) أكبر أبناء مضيفنا، بقميصه الرياضي وعينيه السوداوين الجميلتين، كان يجلس في غرفة الضيوف يحاول فهم ما يفعله هؤلاء الغرباء في المنزل. وبينما كانت الساعات تمر، كانت الاشتباكات في الخارج تزداد قوة أحياناً وتتوقف أحياناً أخرى. وفي هذه الأثناء، كان المنزل يزداد اكتظاظاً بالجيران الذين ينضمون إلى المجتمعين. ثم أخذ سائقنا، الذي لديه صلات بالجيش السوري الحر، يشرح كيف ولماذا يجب أن تستمر انتفاضة المدينة، مستشهداً بآيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية. في هذه الضاحية، وحتى بين الناس الأكبر سناً، الأحاديث لا تتم في الغرفة فقط، ولكن أيضاً عبر "سكايب" مع أجزاء أخرى من العالم أو مع مدن سورية أخرى. والجميع يتفقد آخر الأخبار من خلال هواتفهم الذكية، معلقين على ما سيحدث للثورة السورية أو إيمان الناس في المدينة. وبينما كان أزيز الرصاص يزداد قوة من جديد، طُلب منا الانتقال إلى غرفة أخرى حيث كان بانتظارنا الأرز السوري التقليدي بلحم الخروف المشوي، والباذنجان، واليوغورت، والبصل الأخضر، وأطباق شهية محلية أخرى. وكانت شاشة التلفزيون المسطحة الكبيرة تبث مباراة من الدوري الإنجليزي الممتاز لكرة القدم. لقد رأيتُ عن كثب أن أوقاتاً مثل هذه، أي الجو العائلي المريح والروابط مع الجيران، هي التي تجعل الأسوأ في سوريا قابلاً للتحمل قليلاً. ولم أرَ في الشوارع السورية شيئاً يمكن أن يمنح السوريين المنتفضين قدراً أكبر من الأمل من إيمانهم وعائلاتهم. ربما سيتطلب الأمر بضعة أسابيع أو أشهر أو سنة، لكن ذلك لا يهمهم. ففي كل يوم يربطون مستقبلهم في الشوارع: الناس يحتجون، والميليشيات تقاتل، وعباقرة الكمبيوتر ينشرون الأخبار. خطوة واحدة ومئات القتلى في اليوم. إلهان تانير - دوما (سوريا) ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©