الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

افهموا المعنى .. ولا تبقوا معنا!

7 مارس 2017 21:31
ما دخل الرفق أمراً إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. وفي الأمة العربية نُزع الرفق من أمرنا كله أو جله، فصار كل «الزين - شين» حتى أننا لم نعد نستطيع الاختيار بين الخير والشر وبين السيئ والحسن، ولكننا نفاضل الشرين فنختار خيرهما ، ونختار بين أحلى المرين - وأفضل السيئين. وأخف الضررين. وكل هذا لغياب الرفق عن أمورنا وعن سياستنا وعن اختلافنا في الرأي. وغياب الرفق هو الذي أدى إلى التطرف والعنف والإرهاب - حتى أننا صرنا نفاضل بين باطلين لا بين حق وباطل - فالحق في غياب الرفق باطل والخير في غيابه شر «والزين في غيابه شين» والحسن في غيابه سيئ . فنحن بين تيسير منفلت وتعسير إرهابي وغاب الرفق عن الاثنين. وكل الفتن والمصائب والكوارث في هذه الأمة مسببها غياب الرفق وتآكله. فنحن نعارض بلا رفق، ونوالي ونؤيد بلا رفق، ونوغل ونغلو في الدين بلا رفق ونحب ونتزوج ونعمل ونأكل ونشرب ونستهلك ونتسابق على السفاسف والتفاهات بلا رفق. ونتصارع ونتنافس بلا رفق، ونتحاور بلا رفق - والرفق جوهر الإيمان والإسلام ورأس الأمر كله - فإذا غاب الرأس مات الأمر، وقد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (... وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...)، «سورة آل عمران: الآية 159»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير كله»، والرفق ضد الفظاظة والغلظة التي يعانيهما العرب - فظاظة وغلظة في الرفض والمعارضة وفظاظة وغلظة وسماجة في التأييد والموالاة. وشيوع الفظاظة أدى إلى شيوع الكراهية وتصيد الأخطاء وتباعد المسافات واتساع الهوة والفهم الخاطئ والعجلة التي أدت إلى الندامة - كما أدى غياب الرفق إلى فتن كقطع الليل المظلم لا يتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولا نعرف الحق من الباطل بعدما لبس الباطل ثوب الحق - وأدى غياب الرفق إلى ظلمات بعضها فوق بعض، حتى إذا اخرج المرء يده لم يكد يراها. وعندما نزع الرفق من الأمور تحول الحق إلى باطل وإلى فتنة وفوضى، وهناك درس عظيم في الرفق قدمه الخليفة الأموي أو الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز .. فقد قال له ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: يا أبت، مالك لا تنفذ في الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور - فقال له الخليفة الراشد الخامس: أرفق يا بني ولا تعجل - فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة - وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة. والفتنة اسم قديم وصحيح لما نسميها اليوم «الثورة». والفتنة هي اختلاط الحابل بالنابل وشيوع الفوضى والقتل والحرابة والبلطجة وتصدر السوقة والدهماء واللصوص والمجرمين للمشهد - تماماً كما حدث في دول «الخريف العربي» - وهو ما حدث أيضاً في الفتنة الكبرى أواخر عهد الخليفة الراشد الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه - فالفتنة هي الثورة - والفتن التي كقطع الليل المظلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الثورات - تغير الاسم والفعل واحد. وفي الفتن يموت الرفق وتسود الغلظة والفظاظة وتنعدم الرحمة والرأفة - والرفق رحمة ورأفة وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، «سورة التوبة: الآية 128» - وقال الله تعالى لرسوله الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ...)، «سورة آل عمران: الآية 159» - وقد مات وذهب الهينون واللينون وأهل الرفق ولم تبق سوى الغلظة والفظاظة والعبوس والتجهم - حتى ارتبط التدين والتقوى والإيمان في أذهاننا بالحزن والهم والغم والفظاظة في الدعوة وارتبط بالتعسير والتنفير - وذهب أهل البساطة والسماحة والتسامح وذوو الوجوه المشرقة بنور الله وأضواء التقوى - كل ذلك ذهب مع ذهاب وغياب الرفق واللين. وهناك أناس في كل زمان ومكان يستشهدون بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو «أن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ويبررون باستشهادهم هذا الغلظة والفظاظة والعنف في معارضة الوالي أو الحاكم أو السلطان ويرون في ذلك شجاعة وبطولة ويعجب بهم العامة والدهماء. ولا يعي هؤلاء أن الحديث الشريف اشترط أن تكون الكلمة كلمة حق ولا تكون كلمة وقاحة أو سب أو تجاوز أو تطاول. ومن أدرانا أن هذا الذي يتطاول يقول كلمة حق؟ ثم لا بد أن يكون السلطان جائراً في العموم وليس جائراً في وجه هذا المتطاول الوقح - ثم لماذا يرتبط الحق وكلماته بالفظاظة والغلظة والوقاحة والتطاول والسب؟ وقد استقر في رأي سوقة العرب ودهمائهم ونخبتهم أيضاً أن الوقاحة شجاعة وأن الرفق واللين ضعف ونفاق - وقد سأل الخليفة المأمون بن هارون الرشيد الحارث بن مسكين عن مسألة، وقال له: ما تقول فيها؟ - فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون الرشيد وذكر القول فلم يعجب المأمون، وقال له: لقد نيست فيها ونيس مالك - أي أخطأت أو نسيت - فقال الحارث: فالسامع يا أمير المؤمنين من النيسين أنيس فتغير وجه المأمون ولم يتكلم وانصرف الحارث - فاستدعاه المأمون من بيته فأيقن الحارث بالشر ... ولما دخل على المأمون قربه وأقبل عليه بوجهه وقال له: يا هذا - لقد أمر الله من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني - فقال لنبيه موسى إذ أرسله إلى فرعون: فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى. والله عز وجل يقول: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» - فالرفق والقول اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن أمور مفروضة ومطلوبة حتى مع الذين لا تجدي معهم ولن يهتدوا - وقد علم الله عز وجل أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى لكنه أمر موسى وأخاه هارون أن يقولا له قولاً ليناً وأن يتبعا الرفق واللين - وقد نزع الرفق من أمر العرب كله وحلت مكانه الفظاظة والغلظة - والفظاظة والغلظة لن تؤديا إلى هداية الضال، بل تزيدانه ضلالاً - كما أنهما قد تجعلان المهتدي ضالاً - وكم من حالات أدى فيها الإرهاب والفظاظة والغلظة إلى الارتداد والضلال لأن هؤلاء اعتبروا الدين كله فظاظة وغلظة وعنفاً وقتلاً ودماراً - ولدينا مزيد - فيا أولي الألباب افهموا المعنى ولا تبقوا معنا! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©