الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هندسة الأحاسيس...

هندسة الأحاسيس...
9 فبراير 2011 19:26
يعدّ مصطلحُ المنظور الروائي من المصطلحات الشائعة التي تحيل على وجهة نظر السارد داخل العمل الروائي، ومن المؤكد أن عملية نقل المصطلح إلى فن القصة القصيرة أو فنون السرد عامة هي أسهل من نقله إلى عالم القصيدة ، بيد أن المجموعة الشعرية الموسومة “كتاب الأصدقاء” للشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح يمكن النفاذ إليها عبر تقنية المنظور الشعري، لاسيما أنها تستعير أداة سردية مهمة وهي رسم ملامح الشخصية وعبر عشرات الأصدقاء ممن شكلوا وجوه كتاب الأصدقاء واستأثروا بعناوين قصائده، يضاف إلى هذا أن وجهة نظر السارد في الفنون السردية تحتمل “الموقف الفلسفي الذي يتخذه مؤلف أثر أدبي أو نظرته الفكرية والعاطفية إلى الأمور عامة” (1)، وإذا كانت طبيعة القصيدة وشفافيتها لا تحتمل الأفكار المباشرة فإن الرؤية تستشف بالضرورة من خلال السطور وتظهر عبر آليات الرمز والمسكوت عنه والمعنى الثاني الكامن خلف المعنى الأول الذي يتبادر إلى الذهن منذ القراءة الأولى للنص. وفي مجموعة “كتاب الأصدقاء” الشعرية يمكن التلبث عند مستويين ينتمي كلاهما إلى المنظور الشعري، أولهما: المستوى التقني القائم على هندسة أكاديمية ـ إذا صح التعبير وقد استخدم ت. س. إليوت تعبيراً مقارباً وهو يصف قصائد ماثيو أرنولد (2) ـ والهندسة الأكاديمية تبدو وعبر هذا التناسق في حجم القصائد وعدد سطورها واحتضانها لنصوص الشعراء والنقاد والقاصين ممن انتقاهم الشاعر عبد العزيز المقالح أصدقاء له وركز على أبرز ملامحهم وأجمل نصوصهم وبما هو متاح له من خلال طبيعة التشكيل الفني الذي انتقاه. ففي القصيدة التي وردت تحت عنوان المتنبي، نقرأ: “شاعر أم نبي، تحاوره الجن، تأوي إليه العواصف تأكل من زاده، تشرب النار من مقلتيه المعذبتين وتحنو على قلبه، صادق في هوى نفسه والبكاء على الحلم العربي الذي كان لاشيء أبهى من الشعر والانخطاف بأفق القصيدة يحزنه أن يرى أمة الضاد تضوي وأطرافها تتناقص “يا أمة ضحكت” و”الأرانب” تمرح خلف القصور مالنا كلنا جو يا رسول أنا أهوى وقلبك المتبول كلما عاد من بعثت إليها غار مني وخان فيما يقول أفسدت بيننا الأمانات عيــ نيها وخانت قلوبهن العقول تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ق إليها والشوق حيث النحول” (3) فيتراءى لنا النص مثقلاً بالمرجعية التي تلمح الهاجس القومي العربي الذي كان يعصف بذات الشاعر وهو يرى أمته تتشظى وهو زاوية رؤية يقصدها النص استجابة لراهن هذه الأمة المعتم ومستقبلها الغامض، وإلا فإن شخصية أبي الطيب المتنبي يمكن أن يتناولها النص عبر عشرات الرؤى والزوايا، وينطبق هذا أيضا على الأبيات الأربعة المنتقاة من شعر أبي الطيب، وهي مما يجلي البناء الشعري الفخم لهذا الشاعر الذي وصل بالقصيدة العربية إلى أوج زهوها ورصانة نسيجها. ويرد في القصيدة التي جاءت تحت عنوان “عدنان الصائغ” في هذه المجموعة: “يتأبط منفاه في خجل وانكسار ويأوي إلى نفسه كلما أغمضت أعين الأصدقاء يسألها نفسه عن بلاد وراء الغبار أحب فناجين قهوتها ، مشية الفتيات الجميلات أرغفة الخبر عند الظهيرة، ماء الطباشير، صوت المدرس وحده الآن، عار سوى من هموم تضيق بها الأرض تركع تحت تشظي مرارتها الصخرة القاسية (أتسكع تحت أضواء المصابيح وفي جيوبي عناوين مبللة حانة تطردني إلى حانة، وامرأة تشتهيني بأخرى أعض الكتب، أعض الشوارع هذا الفم لا بد أن يلتهم شيئاً هذه الشفاه لا بد أن تنطبق على كأس أو ثغر أو حجر لم يجوعني الله ولا الحقول بل جوعتني الشعارات والمناجل التي سبقتني إلى السنابل) تأبط منفى” (4) فيضيء النص أحزان الشاعر العراقي عدنان الصائغ المغترب عن وطنه، مركزاً على وحشه الغربة وعتمة الإحساس بالمرارة وذل الجوع وعبر الشذرات المقتبسة من مجموعة عدنان الصائغ (تأبط منفى)، بحيث يتناغم النص المقتبس مع نص القصيدة. ولم تستثن نصوص المجموعة صديقاً مبدعا من هذه الهندسة الصارمة للقصيدة إذ يستبدل النص الشعري بنص نثري دال ومنسجم مع السياق حين يكون الصديق ناقداً أو قاصاً، وعلى سبيل الاستدلال نذكر صديقة الشاعر الناقدة المبدعة يمنى العيد التي: “ينحني القلب والكلمات احتراماً لها، للتي أوقدت شمعة العمر كيما تضيء وتبتهج الروح، سيدة الكلمات المضيئة تعصر أيامها والسنين العجاف نجوماً، حروفاً مصابيح تبني مداراتها، حيث لا ينفذ الضوء علّ الظلام يغادر، تخرج من خلف أكفانه السود شمس الزمان تقوم معان من الأضرحة (هل تكتفي الكتابة بماضيها، بلغتها السابقة، بالمكتوب بالذاكرة، بالمرجعي العام، أي بهذا الثقافي المتمنع باستقلاله وحضور المنجز الذي يبدو غريباً أو قاصراً... كيف تنشل الكتابة نفسها من هذا الموت لتكون إبداعاً، الكتابة تحول في التحول) (5). ويصب النص المقتبس في معاناة المبدع سواء أكان شاعراً أم ناقداً حين يكون هاجسه الإبداع وحين لا يكتفي بالسائد والمكرور ويشرئب بخلقه الفني إلى آفاق أكثر سعة وتألقاً. وأما المستوى الآخر فإنه المستوى الدلالي المتضمن موقف الشاعر ووجهة نظره في الصديق والصداقة، وهو نسق قلما نجد نظيره في أدبنا العربي المعاصر لاسيما أن المجموعة الشعرية برمتها مخصصة للصداقة بوصفها قيمة سامية وفكرة مقدسة، ولو تقصينا الأدب القديم لما أسعفنا بنماذج كثيرة في هذا الشأن مع أن ملحمة جلجامش حفلت بهذا الاحتفاء بالصداقة، حتى أن الدكتورة نبيلة إبراهيم سالم أسمت هذه الملحمة (ملحمة الصداقة) (6) إذ تدور معظم أحداث ملحمة جلجامش عن صداقة جلجامش وأنكيدو مع أنهما بدآ خصمين شرسين وتصارعا بعنف ووحشية ولكنهما آثرا الصداقة على العداء والحضارة على البربرية، يرد في الملحمة “من أجل أنكيدو خلي وصاحبي أبكي، وأنوح نواح الثكلى، إنه الفأس التي في جنبي وقوة ساعدي، والخنجر الذي في حزامي والمجن الذي يدرأ عني، وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي، لقد ظهر شيطان رجيم وسرقه مني، ياخلي وأخي الأصغر” (7). وفي إلياذة هوميروس يكون للصداقة دورها في انتصار الإغريق إذ يعود البطل الاغريقي أخيلوس إلى ميدان القتال إثر سماعه نبأ مقتل صديقه بتروكليوس، وكان قد اعتزل القتال وقرر الانسحاب، وقد أضعف هذا كفة الاغريق أمام الطرواديين، يرد على لسان أخيلوس “أفي الحق يا أعز الأصدقاء بتروكليوس أنك أوديت، واحربا، إذا لقيتك الآن فأنت ما تحرك شفتيك لتكلمني؟ ولا تفتح عينيك لترى أخيلوس؟ ألا ينبض قلبك بعد اليوم يابتروكليوس حتى ولا بحبي، إلى حتفك كنت تستأذنني ويلي عليك يا أعز الأحباب... ولم ينطق بتروكليوس، فطفق أخيلوس يحثو التراب على رأسه ويشد شعره فيكاد ينزعه، ويرسل في السماء وفي الأرض والبحر صرخاته المدويات” (8). وتتشعب دلالات الصداقة استناداً إلى قصائد كتاب الأصدقاء التي حفلت بأسماء خمسة وسبعين مبدعاً في مقابل مبدعتين ثنتين هما نازك الملائكة ويمنى العيد، وحضور هذا العدد الكبير نسبياً من المبدعين في مقابل صديقتين اثنتين فقط يعكس الحرج الذي يجده الشاعر حين يكون الحديث عن الصداقة ومع امرأة حتى لو كانت مبدعة، مع احتراز في هذا الشأن هو أن ثمة طفلة صغيرة ثالثة استأثرت بالنص الأول من هذه المجموعة وقد جاء تحت عنوان “ينبوع أول للصداقة” يرد فيه: “ستبدأ مشوارها الكلمات، من الأمس من طفلة كالفضيلة بيضاء، كانت صديقة روحي وأول ضوء تسرب عبر العيون، إلى القلب أول صوت حنون أثار مياهى وداهمني عند مفتتح العمر أوصلت ضحكة غمازتيه إلى بدني، كان أجمل وجه بقريتنا وجميع القرى، وحملنا كنوز صداقتنا ووقفنا نشاكس كل الرفاق، ونصغى إلى بعضنا كنت أحكي لها عن شجوني الصغيرة وهي تحدق مبهورة بالكلام” (9). وثمة دلالة أخرى لا نجد صعوبة في استنتاجها هي أن الصداقة في هذه المجموعة تتضمن حميمية روحية أكثر منها رؤية حسية، والصديق هو حضوره الإبداعي في الأغلب الأعم لأن الملامح التي يرصدها النص إنما تكمن في إبداعهم أكثر مما تخص طبيعة شخصياتهم، يستثنى من ذلك عدد قليل من المبدعين ممن تربطهم علاقة صداقة حقيقية أو لنقل بالمعنى المألوف للصداقة، ولأن الصديق هو الإبداع فإن كثيراً من أولئك الأصدقاء الأعلام الذين ضمتهم هذه المجموعة قد غابوا عن هذه الحياة ولم يبق سوى إبداعهم وسيرهم المشهودة ومواقفهم. ومن المؤكد أن كتاب الأصدقاء يعكس صوراً للمشاهد الأدبية العربية فإذا استثنينا القصائد المعنونة باسم أبي الطيب المتنبي والمعري والنفري وهي تشكل الركيزة الشعرية والمهاد التراثي للشاعر المقالح فإن هؤلاء الأصدقاء الكثر الذين ذكرهم هم أقطاب الحركة الشعرية بل وأعلام الحركة القصصية والنقدية العربية بدرجة أقل، ولا تخفى طرافة التناول وجدة التجربة وإطارها الفني المبتكر. سؤال أختم به هذه السطور هو هل لكتاب الأصدقاء بقية تضم أصدقاء آخرين للشاعر يعززون الهاجس الكوني لدى الشاعر؟ لاسيما الأصدقاء الاغريق والرومان والأوربيين المعاصرين ممن أغنوا تجاربنا الأدبية عامة وكان لهم تأثير في تكويننا الثقافي والفكري، لأن من شأن هذا الهاجس الكوني أن يعبر المكان المحلي الضيق باتجاه آفاق أكثر سعة تتخطى كل الحدود لتصل إلى الإنسان حيث كان، آمل أن اقرأ مجموعة لاحقة للشاعر عبد العزيز المقالح تضم أصدقاء آخرين للشاعر وأتشرف بأن أكون أحد أصدقاء الشاعر وأن تضمني المجموعة المقترحة اللاحقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©