السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إعادة الاعتبار للصعيد

إعادة الاعتبار للصعيد
10 مارس 2010 21:49
بعد صمت تجاه أعماله في السنوات الاخيرة اصدرت دار عين طبعة جديدة من رواية فتحي غانم “الجبل” وهي من بين أعمال فتحي غانم التي يتذكرها الباحثون والمهتمون بأمور الحداثة والتحديث في مصر، وهي تحمل ظلا كبيرا من الواقع، لذا يمكن ان نقرأها كتحقيق صحفي ميداني وهي ايضا عمل ادبي مليىء بالخيال والابداع. “الجبل” رواية حول قرية القرنة بالاقصر، تقع في حضن الجبل، غرب النيل وكان المعماري الشهير حسن فتحي قد وضع مشروعا للبناء يتجنب فيه الادوار المتعددة والمباني السيئة التهوية، وقد شهدت سنوات الاربعينيات من القرن الماضي صراعا بين هيئة الآثار وكانت ادارة تابعة لوزارة المعارف العمومية، والاهالي بسبب التنقيب عن الاثار حيث اعتبرت الهيئة الاهالي لصوصا للآثار فهم يستخرجونها ويبيعون المومياوات للاجانب وبذلك تفقد البلاد جزءا من ثروتها القومية وتاريخها والاهالي اعتبروا الارض ارضهم ويتوارثونها جيلا بعد جيل لذا فإن ما في باطنها حقهم وملكهم ولا يجوز للحكومة أو غيرها ان تقترب منه ونشب صراع بين الجانبين لم يتم حسمه وتفتق ذهن المسؤولين بالحكومة عن ان يقوموا بنقل اهالي القرنة من بيوتهم واماكنهم تماما باقامة قرية نموذجية لهم حيث البيوت مبنية ومجهزة بالكهرباء والمياه واعتبر حسن فتحي انه قدم مشروعا مثاليا لكن المفاجأة ان الاهالي رفضوا تماما الانتقال الى القرية النموذجية أو تسليم البيوت وتمسكوا ببيوتهم القديمة ولما حاولت الحكومة نقلهم بالاكراه رفضوا وقاوموا وتسلم بعضهم البيوت لكن لم يغادروا بيوتهم القديمة. وسرق بعضهم الابواب الخشبية والاخشاب من مركز القرية النموذجية فكان لابد من تحقيق في هذا الموضوع ووقتها كان الشاب فتحي غانم الذي تخرج لتوه في كلية الحقوق يعمل محققا بالشؤون القانونية بوزارة المعارف وتم تكليفه بأن يسافر الى القرية ليتولى تلك المهمة وكانت هذه الرواية. ما إن وصل الى الاقصر، حتى التقى وكيل النيابة هناك مصادفة، وكان زميلا سابقا له، ووجد غانم ان زميله لا يدري شيئا عن منطقة الجبل وما فيها، ولا هو متابع لما يدور من مشكلات، فقد كان الاهالي تشاجروا مع المهندس حسن فتحي واحرقوا احدى السيارات، وذهب الروائي “المحقق” وبدأ التحقيق بشكوى قدمها احد المواطنين في القرية ضد الحكومة وما تقوم به، ونبهه رئيس الشؤون القانونية الى خطورة الموقف والقضية وامكان اتهامهم بالعنف وانهم لا يحترمون القانون وقد وقع الاختيار عليه لانه الوحيد في الادارة غير المتزوج، والمعنى انه لو قتل هناك فلن يترك خلفه يتامى أو زوجة تترمل، واختاروه كذلك لانه قوي البنية يمكنه الدفاع عن نفسه. لكن مع الاقامة هناك والخوض في التحقيقات تبين الامر وهو ان هؤلاء البسطاء مجني عليهم، وانهم ضحايا عملية تحديث وضعها المهندس حسن فتحي دون ان يعرف شيئا عن حياتهم وعاداتهم وما يناسبهم وقد سمع منهم الكثير، هم اناس متمسكون بحياتهم، ومعتزون بها، وليسوا ضد التطوير، فقط يجب ان يتم من داخلهم، ولا يفرض عليهم من خارجهم أو من أعلى. الرواية تقدم وجها اخر للمهندس حسن فتحي، حيث عُرف حسن فتحي بين النخبة، بأنه يتبنى العمارة المحلية، ويتجنب تقليد الغرب، لكن في الرواية نجده رجلا يتكلم في الجبل وفي حياته العادية الفرنسية ويفكر بالطريقة الفرنسية ويرتدي ملابس ويظهر بالمظهر الفرنسي، وفي اول ظهور له بالرواية نجده يتشاجر مع سيدة فرنسية اقامت في الجبل وتعاطفت مع اهله، وتتهم حسن فتحي بأنه يحاول فرض الذوق الفرنسي والباريسي على هؤلاء الصعايدة، وبينما ملت باريس ذلك الذوق وبدأت تبحث عن روح الشرق ودفئه، إذ لأهل الشرق انفسهم يحاولون تقليد باريس. ترصد الرواية بذكاء شديد طرق تحايل الاهالي على السلطة، حين التقى الروائي فتحي غانم بالعمدة، وسأله عن “حسين علي” الذي حرر الشكوى للوزارة ضد المهندس، فاجأبه العمدة انهم جميعا قد شكوا المهندس وملوا عدم الاستجابة لشكواهم، وكانت المفاجأة ان الشكوى التي كتبت بخط عربي جميل وانيق باسم حسين علي ان كاتبها ليس هو حسين لانه ببساطة امي، لا يقرأ ولا يكتب، وانه غادر الجبل الى الواحات ليعمل بها، وجاءوا اليه بالشيخ الطبلاوي محمد حسين لينقله من الجبل بحمارته، وتوقع المحقق ان الشيخ هو من كتب الشكوى وتبين له ذلك، هو كتبها باسم حسين، حتى اذا وقع تحقيق يتبين انها ـ طبقا للوقائع ـ مزورة وكأن شيئا لم يكن. حين كتب فتحي غانم “الجبل” كان يسبح ضد كل التيارات ومنها المهندس حسن فتحي الذي كان في ذروة تألقه ونجوميته، وكان الانطباع العام لدى كثيرين عن الجبل وسكانه انهم ليسوا سوى مجموعة من قطاع الطرق أو المجرمين، كانت تلك سنوات شهرة “خُط الصعيد” فاذا بغانم يقدم الوجه الاخر لكل ذلك ويرسم لوحة انسانية فريدة لمعاناة هؤلاء المواطنين وحرمانهم من ابسط الحقوق. وان اتجاههم للعنف ليس سوى رد فعل لقهر شديد يمارس عليهم، مرة باسم القانون واللوائح ومرة بدعوى التحديث والحداثة لذا لم يكن غريبا ان يتوقف النقاد والباحثون عند هذه الرواية، فحين وقعت عملية الاقصر الارهابية عام 1997 عاد المحللون الى الرواية فقد اعتبرت دراسة ومؤشرا مبكرا على امكانية وقوع العنف الشديد في هذه المنطقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©