الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث الأميركي عن السلام المفقود بين العرب وإسرائيل

البحث الأميركي عن السلام المفقود بين العرب وإسرائيل
15 ابريل 2009 23:28
صدر حديثاً عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، والدار العربية للعلوم «ناشرون»، كتاب بعنوان «أرض طالت وعود عودتها»، للكاتب آرون ديفيد ميلر الذي كان يلعب دوراً مركزياً ضمن الجهود الأميركية تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط. وكان مستشاراً لعدد من الرؤساء، ووزراء الخارجية ومستشاري الأمن القومي. يبرهن في كتابه هذا على وجهة نظر فريدة تجاه مشكلة، ظل القادة الأميركيون يتصارعون معها لما يزيد عن نصف قرن من الزمن. شائعات ونداء متأخر تشير التقارير إلى أن عرفات مصاب بمرض خطير، وكانت الشائعات تشبه في كثافتها ذلك الجو الخانق في مقره. هل كان مصاباً بسرطان المعدة؟ أو بمرض الكبد؟ هل سممه الإسرائيليون؟ هل كان مصاباً بمرض الإيدز؟ لم تكن لدى ميلر أي فكرة عما عليه أن يتوقعه، لذلك طلب منه صائب عريقات أن تكون مقابلته قصيرة، لأن وضع عرفات ليس على ما يرام. أدخله صائب الى حيز صغير لا شبابيك فيه، كان يستخدم كغرفة نوم لعرفات، وصدم أكثر حين دخل عرفات الغرفة مسنوداً من قبل رئيس الوزراء الفلسطيني أبو علاء من جهة ومن قبل صائب من جهة أخرى. بدا عليه الاضطراب والخجل نتيجة عدم قدرته وهو في ذلك الوضع الصحي. في الوقت الذي كانت القوات الإسرائيلية تحاصره في مقره. لم يدم الاجتماع أكثر من عشرين دقيقة، فلقد ركز عرفات على اميركا وبالتحديد على إمساك الولايات المتحدة مفتاح مصيره ومستقبل كل من الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. ودأب على الإصرار على كون الأميركيين الجهة الوحيدة القادرة على إنقاذ عملية السلام، وعلى ضرورة نهوض أميركا من أجل الإيفاء بمسؤوليتها التاريخية. وبعد انتهاء هذه المقابلة وفي غضون اسبوع واحد تم نقل عرفات الى باريس لتلقي العلاج، وفي غضون اسبوع كان قد توفي. يعرض علينا المؤلف أنه لم يستطع إبعاد تركيز عرفات على أميركا في ذهنه. كان قد استمع إلى أنماط مختلفة من هذه النظرة ولكنه لم يقتنع بها، وعلى الأرجح أن عرفات لم يقتنع هو الآخر بها. يقول الكاتب إنه من المؤكد أن أميركا لم تكن المسبب الرئيسي لمتاعبه. غير أن ذلك النداء المتأخر الذي وجهه عرفات وهو يحتضر الى أميركا جعل ميلر يعيد التفكير في شأن الدور الأميركي في المفاوضات وصنع السلام بين العرب والإسرائيليين، وإنهاء النزاع الدائر بينهما. حين تكون في عالم صغير تميل أنت الى الصغر، وحين تكون في عالم النزاعات الذي يقطنه الإسرائيليون والفلسطينيون، تميل الى الاهتمام بدقائق الأمور والى حالة الهوس التي تحدد ذلك العالم. فالكاتب وبحسب ما يقول إنه على يقين من أن عرفات كان يسره جعل أكبر قوة في العالم تتخبط في شوارع الخليل، فلقد نجح تركيز الأميركيين على مشاكله، في تصغيرهم، وفي إدخالهم الى عالمه. حين أمعن ميلر النظر في الماضي، فهم بوضوح ما لم يكن بمقدوره فهمه في السابق، فالدرب الذي تسلكه أميركا نحو مساعدة العرب والإسرائيليين لتحقيق السلام، يتخلله نوعان من العقبات: تلك المنبثقة عن السياسات العربية والإسرائيلية، وتلك المنبثقة عن سياسة أميركا. لقد دفع تعريض الكاتب ميلر ومن ثم خبرته في شؤون الشرق الأوسط إلى إثارة الشكوك إزاء فرص الأميركيين في التغلب على هذه التحديات، ولكن حين انجرف إلى عالم الدبلوماسية العربية/ الإسرائيلية، فكان على ثقة كبيرة كما يقول بل ربما مبالغ فيها، بأن أميركا القوية ستنجح في معالجتها. ظن أيضاً أن أميركا قادرة حقاً على تسيير قطار الدبلوماسية وهي تجر المعنيين المحليين وراءها بموجب جدول أعمالها الخاص. ولكنه يأسف كما سيرينا لاحقاً، كان الأمر عكس ذلك في كثير من الأحيان. حالتان مرضيتان في سنة 1977 حصل ميلر على شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط، وكانت الأبحاث المتعلقة في رسالته قد أخذته الى المكتب التاريخي التابع لمكتب الشؤون العامة في وزارة الخارجية الأميريكية، وهو المكان الذي اعتبره ملائماً له، مما يتيح له استخدام مهاراته كمؤرخ لمراجعة الوثائق المرفوعة عنها. بعدها عرض عليه وظيفة محلل للبنان والفلسطينيين في مكتب الاستخبارات والأبحاث، فيقول: إن الخبرة التي اكتسبها في المكتب المذكور أقحمته في العالم الآني في مجالي الدبلوماسية والسياسة، بل قد زادت من شكوكه حول ما يمكن لأميركا أن تحققه. كان عمله يتطلب منه متابعة لبنان والفلسطينيين، أي متابعة حالتين مرضيتين لا أمل في أي منهما. تزامنت فترة عمله لدى مكتب الاستخبارات والأبحاث مع سنوات تورط أميركا المشؤوم في لبنان، حين انجرفت إدارة ريجان في سياسات بعض الأطراف الصغيرة، من اسرائيليين وسوريين ولبنانيين وفلسطينيين، وأسفرت عن عواقب كارثية. فمنذ غزو إسرائيل للبنان في يونيو 1982 أخذ الوضع ينتقل من سيء إلى أسوأ. عمل يومها في مراقبة التعقيدات الملتوية والمميتة للحرب بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وخروجها من بيروت، واغتيال الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل، ومجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا. كما وأكد المؤلف أن المخاطر تتراكم على أميركا، ففي 25 اكتوبر 1983 تلقى اتصالاً هاتفياً تطلعه فيه إدارة العمليات في الوزارة، بأن هجوماً انتحارياً قد استهدف مجموعة من قوات «المارينز» كانوا نائمين في ثكنة في طريق مطار بيروت، ما أودى بحياة 241 شخصاً منهم. وفي رأيه وكانت السياسة الأميركية الداعية إلى استخدام إسرائيل والمليشيات المسيحية في دحر سوريا وحلفائها، هي السبب فيما جرى، وهي منبعثة عن سوء تحليل ولم تتح غير القليل من الفرص لتحقيق السلام. الدكتور لا دان كورتزر هو أحد أصدقاء ميلر في وزارة الخارجية والذي تألق في عمله اللاحق كسفير لدى كل من مصر وإسرائيل. كان أول من أطلق عليه لقب (الدكتور لا)، ذلك اللقب الذي كان استحقه بحسب قوله وافتخر به، لأنه كان دائماً سلبياً ومشككاً في قدرة الدبلوماسية الأميركية على التغلب على ذلك الثقل المتراكم نتيجة أجيال من النزاع. كانت الدبلوماسية، وخصوصاً تلك الخاصة بالشرق الأوسط، تبدو مخصصة للحالمين الذين لا يتفهمون حقيقة مجرى الأمور. أما الفترة التي أمضاها في السفارة الأميركية في عمان بالأردن، قد عززت قناعته بأن الخيار الأردني أو أي خيار آخر لمعالجة المشكلة العربية/ الإسرائيلية محكوم بالفشل. بعد ذلك قبل وظيفة ضمن طاقم وزير الخارجية للتخطيط السياسي حيث واصل عرض توقعاته القائمة والتمسك بأساليبه السلبية. لقد أمضى بعضاً من أواسط عقد الثمانينات في مهاجمة أي مقترح صادر عن مكتب شؤون الشرق الأدنى في الوزارة يقضي بتوريط الولايات المتحدة في النزاع العربي/ الإسرائيلي، كما وحذر وزير الخارجية جورج شولتز من أن الشرق الأوسط ليس أرض فرص موعودة، بل هو فخ يجب تفاديه إن كان ذلك ممكناً، الأمر الذي كان يدركه نتيجة أحداث لبنان وفشل مبادرة ريجان في سبتمبر من العام 1982. إن لقب (الدكتور لا) الذي أطلقوه عليه كان مناسباً في عمله كمؤرخ، وربما كان يمثل ميزة إضافية في مجال التحليل الاستخباري، ولكنه لم يتناسب مع شخص مكلف بتقديم المشورة الصادقة لوزير الخارجية، فمهما كانت احتمالات نجاح الدبلوماسية في الشرق الأوسط محاطة بالشكوك، كان للوزير أن يتوقع مجموعة نزيهة من الخيارات لا يحيط بها غلاف من السكر والخل. خلطة دبلوماسية ففي تلك الساعة المتأخرة من عصر الجمعة المصادف 18 اكتوبر 1991، أعلن وزير الخارجية الأميركي جيمس أديسون بيكر الثالث، ونظيره الروسي بوريس بانكين، بالنيابة عن رئيسيهما بوش وجورباتشوف، أن دعوات رسمية سيتم توجيهها إلى إسرائيل والعرب لحضور مؤتمر تاريخي للسلام في مدريد. وفي نهاية الشهر المذكور آنفاً كان (ميلر) جالساً في القصر الملكي في مدريد، وهو مصاب بالذهول إزاء المؤتمر التاريخي الذي كانت تتجلى تفاصيله حوله. استمع الى خطب المشاركين وهو مليء بالمرارة وببعض الأمل، فلقد جعلته الفجوات الفاصلة بين العرب والإسرائيليين يرتعش وهو مدرك بأن الحياة ضمن تلك المفاوضات لن تكون سهلة، ولكن إذا كان في وسع أميركا أن ترتب لمثل هذا المؤتمر، فلِما لا تتطلع إلى المزيد؟ في الحقيقة، مع وجود مفاوض صارم مثل بيكر، يسانده رئيس مثل جورج بوش الأب المدرك لأهمية السلام العربي/ الإسرائيلي بالنسبة الى مصالح أميركا القومية، فما الذي يحول دون التطلع إلى إنجاز اتفاقيات، بل وحتى معاهدات سلام، من شأنها أن تنهي النزاع العربي/ الإسرائيلي إلى الأبد؟ فلقد أمضى السنوات الخمس عشرة التالية في ظل إدارات ديمقراطية وجمهورية على حد سواء، وهو يعمل ضمن مجموعة صغيرة من الدبلوماسيين، والمفاوضين الساعين بالتحديد وراء تلك الغاية، مع الاعتراف بأن النتائج كانت متباينة للغاية. كان بيكر يلقبهم بمعالجي السلام، واحياناً بمعالجي الطعام عندما لا يكون مزاجه على ما يرام، فكان يطالبهم بخلطة ما أو بمعالجة ما ليخلطوا مكوناتها في خلاطهم الدبلوماسي ويخرجوا في معظم الأحيان بنتائج لا بأس بها. لم يحدث في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديثة أن عمل طاقم صغير من المستشارين المتواضعين في مستواهم الوظيفي في قضايا على تلك الدرجة من الأهمية ولمثل تلك الفترة الطويلة. إن التأمل في الماضي يجعل ميلر يدرك بأن عمله في المفاوضات لم يكن دائرياً، بل كانت القوس البيانية لعمله كمحلل وكمفاوض تمثل تقدماً واضحاً، فكانت رحلته تشبه في صعودها وهبوطها عملية السلام ذاتها. تحول في الطريق إلى مدريد وإبان سنوات أوسلو التالية، بشكل من الأشكال إلى (الدكتور نعم)، أي الى مبشر يروّج لقدرة وفاعلية المفاوضات. ثم تراجع في أعقاب الانتفاضة الثانية حين انهار كل ما كانوا قد حققوه إلى حالة تقع بين هاتين الحالتين. لم يكن المرور بهذه التحولات أمراً سهلاً، إذ كانت بالغة الخصوصية والتعقيد ضمن مرحلة من المخاطرة يمر بها ميلر والولايات المتحدة. بلا تحيّز يعرض علينا ميلر في هذا الكتاب بوضوح، كل ما تم بصورة صحيحة وكل ما انتهى إلى الفشل، من أجل تحقيق السلام العربي ـ الإسرائيلي، وبعرض ناقد سيثير الخلافات من خلال وجهة نظر مليئة بروايات لا تنسى، وبإيجازات شيقة عما كان يجري خلف الكواليس. وما الذي جعل الدولة العظمى في العالم تفشل في التوسط، أو في فرض حل، في الشرق الأوسط؟ ما هو المطلوب إن كان الحل ممكناً؟ وبعد كل هذه السنين من الكفاح والفشل، ومع اضطراب المنطقة بأسرها بشكل لم يسبق له مثيل، ما الذي يجعل الأميركيين يهتمون أو حتى يبالون؟ يتضمن أيضاً مقابلات مع جميع اللاعبين الرئيسيين، بمن فيهم الرؤساء كارتر وفورد وبوش الأب، ووزراء الخارجية التسعة الذين تعاقبوا آنذاك، بالإضافة إلى القادة العرب والإسرائيليين، والكشف عن توجهاتهم الخاصة وعن الاستراتيجيات التي كانت تحركهم. وكما نعلم منذ البداية أن الوعد الأميركي للعرب وللإسرائيليين كان في حقيقته مشروطاً، إذ كانت حتى آخر اللحظات عزماً وبهجة في مجال صنع السلام، ترتكز على قدرات العرب والإسرائيليين في اتخاذ القرارات المقيدة بالقيود الخاصة بهم. فالوعد الأميركي قائم لكل منهم وسيظل ينصب في صالح أميركا وفي صالحهم. يرى المؤلف هنا بأن الأميركيين يفعلون ذلك من دون إيهام أنفسهم، وبأنهم الوحيدون القادرون على تحقيق السلام، فعليهم السعي وراء الإيفاء بالوعد بكل ما لديهم من حكمة، وإحساس، وشدة، ليتمكنوا في عزيمتهم في يوم من الأيام ذلك. ويواصل المؤلف فصول كتابه بشكل منطقي وواقعي حتى يصل بالقارئ، وكأنه يغادر المقدمة من خلال حقائق مرت، الى ضمير العالم لتختلط بعبق التاريخ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©