الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رواية الزلزال

رواية الزلزال
6 ابريل 2016 20:50
إيناس سليمان عما فعلت السنوات الخمس الماضية في كتاباتهن وفي كتاباتهم، سألت باقة من الكتاب والكاتبات السوريين، وجاءت شهاداتهم وشهاداتهن لتسمّي ما جرى ولايزال بالزلزال، وبالتراجيديا الشكسبيرية، وبالكابوس المرعب، وبالرعب الذي فاق اللامعقول، وبالانقلاب الاجتماعي السياسي والقيمي الأخلاقي العجيب. وقد توزعت الشهادات بين المنافي والداخل على النحو التالي: من الداخل: الشاعر والفنان منذر مصري صاحب روايات: «داكن»، و«الشاي ليس بطيئاً»، و«من الصعب أن أبتكر صيفاً»، والروائي غازي حسين العلي صاحب «سماوات الوحشة» و«ليلة الإمبراطور»، والروائي خليل صويلح صاحب «وراق الحب» و«جنة البرابرة»، والروائية سوسن جميل حسن صاحبة «النباشون» و«قميص الليل» والروائي ممدوح عزام صاحب «قصر المطر»و «أرض الكلام». أما روائيو المنافي فهم: منهل السراج (السويد)، ومن أعمالها «كما ينبغي لنهر» و«جورة حوّا»، روزا ياسين حسن (ألمانيا)، ومن أعمالها «حراس الهواء» و«الذين مسهم السحر»، راتب شعبو (فرنسا)، من أعماله «ما الذي يجري وراء هذه الجدران؟»، مها حسن، روائية كردية سورية، من أعمالها «نفق الوجود» و«طبول الحب»، إبراهيم محمود (دهوك العراق)، من أعماله «نقد وحشي» و«أقنعة المجتمع الدمائية»، إبراهيم العلوش (تركيا)، من أعماله «وجه الصباح» و«البحر الأسود المتوسط». يتوزع أصحاب هذه الشهادات على مختلف الأجيال. ومنهم من صدر له في هذه السنوات الخمس ما تترجع فيه أصداؤها، ولها فيه فعل عميق، وأقصد: رواية جنة البرابرة لخليل صويلح، ورواية الذين مسهم السحر لروزا ياسين حسن، ورواية طبول الحب لمها حسن، ورواية قميص الليل لسوسن جميل حسن، ورواية ليلة الإمبراطور لغازي حسين العلي. كما وعدت مها حسن وسوسن جميل حسن وخليل صويلح بروايات جديدة. وقد زادت الروايات السورية التي صدرت خلال هذا الزلزال ولها صلة به على عشرين رواية، أما الشعر فقد كان نصيبه أقل. وعلى أية حال، تبقى للشهادات التالية حرارتها الكاوية، ونظراتها العميقة، ولعلها تكون للمستقبل وثيقة، بامتياز. لا أدري كيف تغيرت كتابتي! منذر المصري لا أدري كيف تغيرت كتابتي! خلال الخمس سنوات الماضية، لم أستطع أن أبقى كما أنا، وبنفس الوقت لم أستطع أن أكون الشخص الذي أرغب أن أكونه. في البدء كتبت شعراً قاسياً، خشناً، لم يكن هناك طريقة للكتابة، إلا بمجاراة ما يجري في قسوته ولا معقوليته. لأول مرة وجدت نفسي، أنا كاره السوريالية، سوريالياً. احتجت إلى لغة محطمة، وصور ممزقة لأوصال الواقع المقطعة والمتناثرة. لا أدري، إن كانت كتابتي قد تغيرت فعلاً، أم أن الموضوع هو ما تغير، فأدى إلى هذا الاختلاف الظاهري فيها. ولأنه ليس من السهل أن تتغير فجأة طريقة المرء بالكتابة لسبب طارئ، مهما بلغت أهميته. ولأنه أيضاً لم أستطع أن أراكم خلال السنوات الخمس الماضية، ما يكفي من الكم، لأحصل على ذلك التغيير في النوع. بالنسبة لي، استطاع ما كان يحدث أن يأخذ كل حواسي، فوقفت أنظر إليه مبهوراً، وكأنه بحد ذاته، الشعر الذي كنت أريد كتابته، ما كان يحدث، بطريقة أو بأخرى، كان هدفي في كل ما كتبت ورسمت وفعلت. لذا لم أكن أشعر بتلك الحاجة للكتابة والقول للآخرين. أو ربما، في داخلي، كنت أصدق، أنه ليس أنا من يحق له كتابته، وأنه نوع من الاستيلاء، من الادعاء، الذي كنت أول كارهيه، أن أكتب ما عاشه الآخرون ودفعوا الأثمان الأشد فداحة مقابله. بينما أنا اكتفيت بالوقوف على الرصيف، أو التقاط الصور، وربما، في الشوارع الخلفية لحارتي، تظاهرت وهتفت، مرة مرتين، لا أكثر.. لكني، في الحقيقة، كتبت.. كتبت يوميات، ومقالات منها المسهبة ومنها القصيرة، ما اعتبرته، شهادة فردية، هي بنفس الوقت جزء من شهادة جمعية، على ما رأيت وسمعت. كتابات، كان أكثر ما يهمني فيها هو أن أبقي تفكيري حراً وضميري حياً، غير أنه، مع الوقت، وجدتني مشدوداً أكثر إلى كتابة ما يساعد الناس حولي في قدرتهم على الاستمرار، وفي محاولتهم الخروج من محنتهم، في النجاة من ذلك المصير الذي يأخذ بقبضته قلوبهم وأرواحهم، في بقائهم على ذلك الأمل، ما أجد فيه الصمود الحقيقي والمقاومة الحقيقية والثورة الحقيقية.. إلى أن يلوح للسوريين جميعهم. فجر سوريا المنتظر. شهادة حية على ما يحدث روزا ياسين حسن ربما يوافقني الكثيرون بأن ما بدأ منذ خمس سنوات في سوريا، ومازال مستمراً حتى الآن، أشبه بزلزال حقيقي خلخل كل شيء. كل ما حمله من تغييرات وانقلابات لا يؤثر على علاقات المجتمع والعمران فحسب، بل هو انقلاب جذري لن تعود سوريا بعده كما كانت أبداً. كل شيء يتبدل، وسيتبدل مع الزمن. والكتابة إحدى أهم تجليات هذا التبدل باعتبارها مرآة زمنية، تعبير عن الذات، خالقة وعي متّسع، وواحدة من أكبر التعويضات التي اخترعتها الإنسانية. ووسط محاولات تسطيح الحياة لتتحول إلى اتجاهات متجانسة مرسومة، الأدب يعمل في المنطقة الأخرى: التلوّن، التمايز، والتواصل. أما تفاصيل تبدل الكتابة فهذا ما سنلمسه مع الوقت. التغييرات الثقافية والإبداعية تراكمية، وتحتاج الوقت لتلمس طريقها. ورغم أن نظرتنا تجاه الأدب، كما تجاه غيره من الأشياء، تتغير، إلا أن الاضطرابات عبر التاريخ لطالما غذّت الكتابة. كما عملت الهزات الكبرى دوماً على خلق آداب جديدة. وما عاشه الكتاب السوريون في السنوات المنصرمة، كما عموم السوريين، كان مكثّفاً بشدة وفي زمن قصير نسبياً، لذلك فهم ما زالوا أسرى انفعالاتهم الإنسانية، أسرى التأثيرات السياسية والاجتماعية والشخصية، وهذا ما قد يأسر الأدب في قوالب الإيديولوجيا. لكن رغم ذلك ما يكتب الآن مهم جداً، على الأقل كشهادة حية على ما حدث ويحدث، فترة للتفريغ والتأسيس والتوثيق، مفعمة بالدم والغضب ولكنها مهمة كأساس حقيقي للأدب الذي سيأتي لاحقاً. تحرير اللغة من رطانتها خليل صويلح لا أعلم كيف تدبرت هذه الفترة، لكن ما أعلمه أنها كانت كابوساً مديداً، بدرجات مختلفة: خوف، فزع، أمل، يأس، ثم اعتياد. اعتياد على أن لا أنتظر يوماً مختلفاً، وكأن هذا الكابوس لن ينتهي أبداً (هل سينتهي حقاً؟). إنني أتناول مع قهوة الصباح قوائم القتلى وأوراق النعي وأصوات الانفجارات، وأكاذيب نشرات الأخبار، لكنني سأنجو مثل كل مرّة، ربما لأنني مجرد متفرّج على مذبحة جماعية تصلح بالنسبة لي لأن تكون تراجيديا شكسبيرية، وعليّ أن أكتب بروفاتها، ذلك أن نص هذه التراجيديا لن يتحقق مباشرة، فخشبة المسرح تغص بالدماء والسيوف والبلطات والصواريخ والإعدامات، والاغتصابات، والسبي. في الوقت الضائع، كتبت روايتي جنّة البرابرة على هيئة يوميات، وكم خشيت ألا أكملها، فقد كان الموت قريباً إلى درجة لا توصف. رواية لن تعجب الأصدقاء والخصوم، لفرط ابتعادها عن الانخراط في لعبة المتاريس والخنادق المتحاربة. كنت أفتّش عن بعض حياة وسط حطام بلاد. ثم حين طالت اللحى، وكثرت الفتاوى، أنجزت كتابي قانون حراسة الشهوة كنوع من الكتابة المضادة للحظة الظلامية، ودعوة لكتابة الشهوة تلك التي تنفض الغبار عن الأسئلة المضمرة، وتذهب إلى مقاصدها مباشرة، لقناعتي بأن ما نحتاجه أولاً، هو تحرير الجسد المكّبل، كي يتمكّن من الدفاع عن وجوده، وتحرير اللغة من رطانتها. الآن، أكتب رواية جديدة، لا أعلم إلى أين ستقودني، رواية اعترافات بلا حسابات جانبية للحشمة، ومحاولة لفحص العلل التي تركتها ندوب الحرب على الأرواح المنهوبة، رواية بعنوان اختبار الندم. التعبير عن المتغير الكبير ممدوح عزام قد تكون هذه المفردة هي الكلمة الأكثر قدرة على التعبير عن لحظة المواجهة بيني وبين الكتابة. وهي حيرة تشمل زمنين: الماضي الذي كتبت فيه، والمستقبل الذي سأنجز فيه أعمالي المقبلة. هل يمكن أن تحاكي الكتابة ذاتها، هل يستطيع الكاتب المطمئن إلى النتائج الفكرية والاجتماعية والسياسية والفلسفية التي توصل إليها في رواياته وقصصه، في خياراته السياسية، والاجتماعية، أن يحافظ عليها تجاه المتغيرات الهائلة التي حدثت في السنوات الخمس الماضية؟ أليس من الضروري أن تكون الكتابة الروائية بحثا، أو شكلا من إعادة النظر في جميع اليقينيات التي كان الكاتب يرتاح إليها؟ الجواب هو المحير، أو هو الحيرة الشاملة التي ترى وتراقب كيف يتهدم وطن كامل بلا أي حساب، ولا أي حب، ولا أي تعلق. كأن هذا المكان الذي يهدمه السوريون لم يكن سوريتهم في أي يوم. والحيرة تجاه الواقع المتصدع أو المنهار، هي التي تضع الكاتب في حيرة تجاه أسئلة الكتابة. الكتابة بما هي فن القول الروائي، والكتابة بما هي قوة التعبير عن المتغير الكبير والخطير الذي يقتحم عالمنا الصغير سورية. بل إن هذه الحيرة سوف تترجم في أسئلة عن الفن الروائي السوري ذاته، عن المنجز الفني من جهة، وعن المنجز الفكري الذي نظر إلى الواقع السوري من قبل. أعني هل عرفت الرواية السورية المكان الذي ادعت أنها تحمل اسمه؟ وبهذا المعنى يمكن للكتابة أن تسأل عن الهوية الضائعة، أو المضيعة. أو عن الشخصية والبطولة في الرواية. إذ أن كل ما سيكتب عنه، أو من سيكتب عنه، يجب أن يكون قد مر في هذا الانقلاب الاجتماعي والسياسي والقيمي الأخلاقي العجيب. لا صديق للكاتب إلاّ القلم منهل السراج يمكن القول إنها كانت صعبة جداً، الصعوبة لم تبدأ فوراً بعد اندلاع الأوضاع في سوريا، وما رافقها من نشاطات في العالم كله، إنما حدثت بالتدريج. الكتابة في ظروف الحروب تعادي صاحبها وتتصارع معه وقد تتحول إلى «قانون ضد» وقد تنفصل عن الكاتب وتنتصر عليه وتعزله عن محيطه، ومع ذلك ورغم تلك القسوة يجد الكاتب أن لا صديق له إلاّ القلم، وتلك الموجودات التي تحلق فيها عوالم الكتابة. الكتابة تتطلب اهتماماً بالذات والخاطرة، أكثر من الاهتمام بالآخر، وبالتالي تصير المبادرات مع الآخر أيضاً ضمن مجالها، واجباً للاعتراف بالواقع ومعرفة سبيل. توهج الفكرة وجزر السر هو ما يبعث على سعادة الكاتب، ولكن يوجد خوف وقلق واندفاعات، و تبجيل للغيب الذي تخلقه عوالم الكتابة. خلال السنوات الماضية تحملنا الكثير، مثل آباء على كاهلهم أثقال ومسؤوليات، ومجال الثقافة والكتابة كان مثل من يختصر أحداث أجيال بحدث واحد، ولكن في الوقت نفسه كانت الأوضاع تبعث على البراءة وتجذب الكاتب مثل طفل. والتيارات التي خلقتها الأوضاع السورية والنشاطات التي دارت حولها، كانت تؤثر على الإلهام وعلى عفوية الكتابة، بالإضافة إلى تأثيرها الكبير على ظروف الإنسان بالعموم، وقد فعلتْ ووضعته عند مفترقات كانت خطيرة بالفعل، كان أمام تلك الامتحانات أن يجازف لكي يتجاوز مرحلة. زلزال من الأمل إبراهيم العلوش قامت الثورة السورية من أجل الحرية، ووزعت الورود في الشوارع، وقال الجميع نريد وطناً عزيزاً وكريماً تحفظ فيه الكرامات، كانت الثورة زلزالاً من الياسمين والأمل! لكن رجال التعذيب أطلقوا كلابهم الإرهابية، وعربدوا في المعتقلات يمارسون الموت المجاني ضد الياسمين وضد الأمل، ولم يكتفوا بذلك بل أطلقوا الكلاب المسعورة من أوجارها فخرجت علينا بلحى مشعثة وبعطش للدماء لا يرتوي. هرب أبطال رواياتنا وقصصنا، تركوا صفحاتهم البيضاء وانتشروا في كل صوب، تركونا وحيدين، بلا رجال نعتمد عليهم من أجل أن يخوضوا قصص الحب التي اعتدنا على تكرارها، لقد هربوا.. حقاً لقد هربوا!! حملنا ما تبقى لنا من أثاث ومن كتب وأقلام لم تقصفها الطائرات، ولم تدمرها البراميل المتفجرة، ولم تصادرها حواجز التكفير والتهجير.. كنا نتحكم بأبطال قصصنا ونرغمهم على الحب وعلى الكفاح وعلى الأمل، وها هم يرغموننا على الرحيل خلفهم، للبحث عن أُنسهم، وعن مشاركتهم لنا الكتب والروايات والصفحات البيضاء. كل ما كتبناه سراب، لم يعد قادراً على الحياة أمام هذا الزلزال الكبير، كل ما لفقناه من قصص غرامية، كان زائفاً وبلا معنى، نسيناه نحن.. فكيف للقراء أن يتذكروه، أطاح الزلزال بكل قصور الرمال التي بنيناها وتركَنا وحيدين مثل أطفال نسيهم أهاليهم بعدما انتهى موسم السياحة على البحر. نحتاج أن نبني عالماً جديداً وجديراً بالناس، ويجتذب عقولهم وقلوبهم، نحتاج أن نكف عن التصنّع والممالقة والتزييف لقد أفرطنا بالزيف والتلفيق، ولم يعد بين أيدينا إلا الرمل، لا طعام ولا شراب ولا ورود للحب، لقد تحولنا إلى حيوانات داشرة في العصر الحجري الأول! خمس سنوات من القلق الروائي مها حسن كما المشهد السوري اليومي مباغت ومتقلب ويصعب التكهّن بما قد يحمله المستقبل القريب أو البعيد من مفاجآت تؤثر لا على سوريا فقط، ولا على المنطقة العربية، بل على العالم برمته، يبدو الحديث عن الإبداع السوري مماثلاً: لا يمكن التكهّن باستقرار أي خط إبداعي. سأتحدث عن تجربتي الشخصية خلال هذه السنوات الخمس، حيث أصدرت فيها أربع روايات، والخامسة قيد النشر. في بنات البراري الصادرة في شهر حزيران 2011، أي بعد الانتفاضة السورية بعدة أشهر، يغلب على الرواية مشاهد القتل والدم. حين كتبتُ الرواية، لم يكن المشهد الدموي في سوريا قد بدأ يتضح. ولا يمكنني الادّعاء بالتنبؤ لهذا المشهد، ولكن العنف جزء من السيرة العربية المعاصرة خاصة، لهذا جاءت أجواء الرواية غير بعيدة عما يحدث من قتل وذبح في السنوات التالية، وإن نحوت صوب الفانتازيا في روايتي هذه. ثم جاءت طبول الحب، وهي رواية يمكنني وصفها بأنها «خالصة». كتبتها ضمن أجواء الحرب والعنف، وقد كتبتُ عنها عدة شهادات وشاركتُ في ملتقيات أدبية في أوروبا، للحديث عن «أدب الثورة». روايتي الثالثة، والتي وصلت في السنة الفائتة إلى اللائحة الطويلة لجائزة بوكر العربية، الروايات، حاولتْ الانحياز للإبداع الخالص، مُحدثة فجوة كبيرة، قصدية، مع سابقتها طبول الحب. قيد النشر، روايتي المريضة، كما أدعوها، الصادرة بعد نفق الوجود، أو رواية الموت كما أحسّ بها. هذه، التي قيد النشر، لا يمكنني الحديث عنها طالما لم تصدر بعد، إلا أنها، باعتقادي، ستمثّل كل هذه التقلبات التي يعيشها المواطن السوري من ناحية، والكاتب أو الروائي من ناحية ثانية. في شهادة قصيرة من هذا النوع، لا يمكن ابتسار هذه السنوات في كلمات مكثّفة، لكن يمكن وضع عنوان واحد لجميع تلك الأعمال، أقصد أعمالي: التعددية والقلق. رسم وبناء واقع بديل سوسن جميل حسن تعود بي الذاكرة عامين تقريباً إلى الوراء، عندما طُلب مني كلمة لتُقرأ نيابة عني في حفل توزيع جوائز الفائزين بجائزة المزرعة التي أجريت لدورة واحدة بالتعاون مع رابطة الكتاب السوريين في القاهرة، وكانت روايتي قميص الليل قد نالت الجائزة الثالثة، واستحال علينا حضور الاحتفالية. فاليوم مثل ذلك اليوم يلحّ عليّ سؤال الاستحقاق: ما هو استحقاق الثورة علي؟ أي مسؤولية أخلاقية تتحداني، أنا الطبيبة والأديبة؟ فإذا كان الأدب خزاناً للتاريخ بنبضه الحياتي بعيداً عن سجلاته التي يكتبها الأقوياء، هل المطلوب مني جدارية شاملة والمنافسون أمهر مني وأقوى؟ هل يمكن أن تصمد المشاهد التي أرسمها بالكلمات أمام صور الشاشات الذكية والخبيثة، تلك التي تصور كل واحدة منها جزءاً من الواقع، لكنها تغيب الحقيقة مجتمعة؟ أصبح السؤال اليوم أكثر تعقيداً وإرباكاً بعد التحولات الدراماتيكية التي طرأت على الحراك السوري، وصار سؤال: «هل بقي هناك ثورة؟» مشروعاً. لكن هذه التحوّلات والانهيارات التي تحدثها على الصعيد المجتمعي والفردي واجهتني بكثافة، رمتني أمام المسؤولية الأكبر، دفعتني إلى أن أستحضر أدواتي وأشرع في رسم وبناء واقع بديل، لكنني أعترف بتأثير ضغط الراهن عليّ وبالفوضى التي يحدثها في أعماقي، ومحاولتي الإفلات من تأثير الحدث حتى لا أفقد بوصلتي في الكتابة. أتمنى أن يخرج النص الذي أشتغل عليه، والذي لم أنجح حتى الآن في منحه عنواناً يناسبه، بأقل قدرٍ من الارتباك، وأن يحقق قدراً مقبولاً من الفنية، وأن تضمر شخصياته لي قدراً من الرضا. الحساب ضرب المسافة إبراهيم محمود الكلمات محشوَّة بالرصاص! كما قال دوبريه، وكان عليه استكمال عبارته وهي أنها ترتد على صاحبها حين يستخف بها، وما أكثر من استخفوا بكتاباتهم وقد استسهلوا قولها على الورق، ليصبحوا كائنات ورقية سهلة العطب، جرّاء الجاري في سوريا. بالنسبة إليّ، لقد اكتشفت وهْم كل ذلك، كما لو أننا كنا بحاجة لكل هذا الخراب المروّع، هذه الدماء المسفوكة، هذا التمزيق في البلاد، لنكتشف أننا ننتمي إلى وطن واحد، ومصير واحد رغم أنوفنا، ولا أظنَّ أننا، ولو للحظة واحدة، لا نتقاسم مسؤولية كل ذلك مهما أعلنّا براءتنا إزاء هذا الرعب الذي فاق اللامعقول. إن التهويل نفسه ترجمة دقيقة للتنصل من مسؤولية الكتابة ذاتها، مهما تمكّنا من تسمية القتلة والسفلة والظلَمة، إذ إن الكشف عن حساب عدديٍّ للذين مارسوا الكتابة، وتوزيعه على المناطق، يظهِر الكارثيَّ فينا، من خلال القيمة الممنوحة ذاتياً لأنفسنا، كما لو أننا نحتاج لخمس ٍ أخرى، وأخرى مضاعفة، لنكتشف أننا أولاً وأخيراً ننتمي إلى مكان يعرّف بنا هو حصيلة ما كنّاه وما لم نتهيأ له بعد، مكان هو الوطن، ووطن واحد، هي سوريا، إلا إذا كانت سوداء لبعضهم، بيضاء لآخرين، ملوَّنة لسواهم، وهنا يصدقون، ليخسرها الجميع من دون استثناء، إنما أنفسهم دفعة واحدة، وحقيقة كتاباتهم المثقلة بظلالهم وخيلاء أسمائهم. الكابوس المرعب غازي حسين العلي ما حدث في سوريا خلال السنوات الخمس الماضية قد يحتاج لعقود حتى يكون بمقدور السرد السوري هضمه والتعبير عنه بشكل ينأى بنفسه عن التأثيرات الشخصية والعقدية التي ضربت المجتمع السوري في الصميم. لقد أضحى شعار الوحدة الوطنية والعيش المشترك في مهب الريح، ولم يعد ثمة صوت يعلو فيها فوق صوت الأحقاد ودفاتر الماضي «التليد»، وراياته القادمة من كل حدب وصوب. وكما أن سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه، فإن السرد السوري لن يكون أبداً كما كان عليه من مداورة وتدوير وترميز. سوف يتحول الخوف إلى صنم من أصنام الماضي، وسيجد الكاتب السوري، والروائي على نحو خاص، مجاله الحيوي في التعبير عن نفسه وعن مجتمعه. بالنسبة لي فما زلتُ في خضمِّ هذا الكابوس المرعب، وأيّ محاولة للتعبير عنه في نص روائي فلن يكون سوى ردة فعل عما يحدث، ومهما بلغت براعة الكاتب وحياديته، فلا بدَّ أن يسقط في مطب الشخصنة وردود الفعل الآنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©