الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العراق الجديد وديمقراطية التقاليد

العراق الجديد وديمقراطية التقاليد
13 ابريل 2009 22:37
يبدو المشهد السياسي العراقي الآن مفتوحاً على احتمالات سياسية عديدة، ولا يمكن لأحدٍ الجزم بطبيعة المآل الذي ستؤول إليه التجربة الديمقراطية العراقية الوليدة حديثاً، والتي لا تزال عرضة للكثير من العقبات والتحديات الداخلية (على صعيد البنية والرؤية والمضمون) والخارجية (على صعيد وجود محاولات خارجية حثيثة لإسقاطها أو لحرفها عن تطورها ومسارها التجريبي الطبيعي)· وقد انطلقت شرارة الديمقراطية الحديثة في العراق بعد أن شنت الولايات المتحدة حرباً عليه أفضت إلى احتلاله، مما سمح لكل هذا المكبوت العراقي العنيف -عن قصد أو غير قصد- بالخروج والنفاذ إلى السطح بعد عهود طويلة من القمع العاري والعنف الدامي المادي والرمزي الذي مارسته سابقاً سلطة ''المشروعية الثورية الانقلابية'' القومية والاشتراكية بحق كل شرائح وفئات وأطياف المجتمع العراقي منذ ما بعد خروج الاستعمار البريطاني، حيث شرعت وقتها النخب الوطنية -التي قادت النضال من أجل تحقيق الاستقلال- في محاولة بناء دولة حديثة تقوم على الأسس القانونية البرلمانية والدستورية الديمقراطية قبل أن ينقض عليها العسكر بانقلاباتهم العبثية والشعبوية التي مارست سياسة تحطيم منهجي تدريجي شامل ضد المجتمع العراقي قبل أن تقدمه على طبق من ذهب كفريسة متآكلة للأطماع الخارجية· ولا شك أن القضاء على النظام الشمولي في العراق -الذي كان يتقوم بثقافة الإلغاء والعنف والفساد المعمم وتهشيم عرى الوحدة الوطنية عبر الممارسات الطائفية- وفّر لهذا المجتمع لوناً من الحرية، كما سمح ببناء نظام سياسي تعددي لم يكن للعراقيين عهد به من ذي قبل (وتحديداً منذ عام 1958)، تمكنوا بموجبه من تنفس الصعداء وممارسة حرياتهم وإخراج كل ما لديهم من رؤى وتصورات وأحلام وتطلعات ثقافية ودينية وسياسية خاصة وعامة إلى عالم النور والحياة، بعد أن ظلت في عالم المكبوت واللاوعي المجتمعي· ولا شــــك أيضــــاً أن مجتمعاتنــــا العربيــــة -ومن ضمنها طبعاً المجتمع العراقي- تواقة إلى المشاركة السياسية والدخول إلى عصر الشعوب المؤثرة في تحديد مصيرها ومستقبلها من خلال إحداث التغيير الديمقراطي وبناء دولة العدل والقانون والمؤسسات·· ولكنها لا ترغب -وبغض النظر عن طبيعة تكويناتها الثقافية والسياسية- في أن تكون طريقها إلى الديمقراطية مليئة بالجثث والضحايا وبحيرات الدماء، بل تتمنى أن يأتي التغيير المنشود داخلياً وسلمياً وهادئاً ومن دون أية خسائر بشرية أو مادية· وإذا أردنا أن نقيّم تجربة العراق الآن بصورة صحيحة وموضوعية، ينبغي علينا النفاذ عميقاً إلى بنية هذا المجتمع الذي لا يزال يشهد حضوراً طاغياً وبارزاً للثقافة الأهلية (ثقافة التدين الشعبي والتكليف الشرعي) في معظم مواقعه وامتداداته· وقد لاحظنا في الانتخابات التي جرت في العراق خلال السنوات الماضية التي أعقبت غزوه، هيمنة هذا البعد الديني على تفاصيل العملية الديمقراطية العراقية، قبل انعقاد الانتخابات وفي المرحلة التي تلتها بعد وصول النواب الجدد إلى سدة البرلمان· وإذا قيمنا تلك التجربة من زاوية إيمان والتزام نخب العراق الجديد -بمختلف مشاربها وانتماءاتها الدينية والفكرية- بالفكر والنظرية الديمقراطية كآلية لتنظيم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، ونسبة نفاذها وتطبيقها في الممارسات العملية على مستوى مؤسسات الدولة، فإنه يخالجنا شعور عميق بأن التجربة الديمقراطية العراقية لا تزال هشة· فالصوت الطائفي والعشائري لا يزال قوياً في مجتمعاتنا· وربما يكون الدليل الأبرز على ذلك أمران أو شاهدان من العراق الحديث: الأول: استعانة الديمقراطية العراقية الوليدة بشيوخ العشائر (من مختلف الملل والمذاهب الإسلامية) لدعم وتثبيت أركان الأمن في أنحاء متفرقة من العراق الجديد· مما يقودنا إلى حقيقة أنه لو كانت الديمقراطية العراقية عميقة وضاربة الجذور هناك لما احتاجت الدولة -وهي صاحبة القرار الحاسم في إصدار الأمر والهيمنة على قرار الحرب والسلم والمعنية أولا وأخيراً باستخدام العنف لتثبيت الأمن- للاستعانة بقوى ومليشيات مسلحة خارجة عن سياق الدولة، أو بالحد الأدنى رديفة لها (عشائر صحوة أنبار العراق وغيرها)· ومع ذلك فلا مقدسات في السياسة، والغاية تبرر الوسيلة أحياناً، بل وتنظفها من بعض ما قد يعلق بها من شوائب وأخطاء، وإذا كانت الغاية هي الحد من العنف الدامي الذي كان مسيطراً في العراق من خلال الاستعانة ببعض القوى التقليدية، والاستفادة من خبراتها النوعية الكبيرة في هذا المجال، فلا مانع من ذلك شرط ألا يأتي على حساب مستقبل الديمقراطية الحقيقية في العراق· والأمر الثاني: الزيارات الدائمة والمتكررة للوفود الدولية، وللقائمين على الديمقراطية العراقية الوليدة إلى النجف لأخذ الموافقة من المرجع السيستاني (خصوصاً أثناء انعقاد الانتخابات)، وربما إمضائه على كثير من الأمور والنظم والقوانين التي يراد إنفاذها وتطبيقها في العراق الجديد· إن كل ما تقدم يؤكد لنا عدم امتلاك العراق الحديث لبنية ديمقراطية قوية وذات امتداد عميق في بنيته الثقافية والحضارية، كما يؤكد لنا أكثر الحاجة المتواصلة لمجتمعاتنا العربية عموماً للتدرب على القيم وآليات العمل الديمقراطية كما يفعل العراق الجديد حالياً· ولن يكتب للتجربة الديمقراطية النجاح ما لم يتم تعميقها في بنية المجتمع العراقي، بهدوء ووعي وتدريب عملي مستمر وطويل، وهذه -لاشك- مسؤولية القيادة والكيانات والأحزاب السياسية العراقية بالدرجة الأولى· فالديمقراطية ثقافة ووعي والتزام قيمي عملي، وهي عملية تراكم مستمر وبناء متواصل، ولابد لمجتمعاتنا العربية والإسلامية الغارقة في ثقافة التقاليد والأعراف القديمة من وعي تلك الأمور والالتزام بمقتضياتها إذا ما أرادت أن تحقق لذاتها الحضارية وجوداً وحضوراً نوعياً مهماً في عالم اليوم والغد، حيث الحضور مشروط بامتلاك القوة والمعرفة والإنتاج العلمي التقني التجريبي، ولا قوة ولا معرفة علمية إبداعية من دون المشاركة في صنع الإبداع وتهيئة مناخه وخلق شروطه، وهذا غير ممكن من دون الاقتناع والإيمان الفعلي بالثقافة الديمقراطية العقلانية الحداثية· نبيل علي صالح كاتب ومحلل سياسي سوري ينشر بترتيب خاص مع خدمة منبر الحرية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©