الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صفاء معلن

صفاء معلن
9 فبراير 2012
كنت سعيدة للغاية بتلك العوالم الدينية التي تنقلني إلى الصفاء والنقاء، فشهر رمضان من الأشهر الجميلة التي أعشقها ولها مكانة خاصة في نفسي، ولكن عدا الأيام التي أعاني فيها الأعذار الشرعية التي فرضتها علي الطبيعة كوني أنثى، والتي تحرمني فرصة القيام بالمزيد من الطاعات، فأظل طيلة هذه الأيام ملازمة غرفتي أقف أمام النافذة، أبحلق في السماء الصافية والنجوم المتلألئة، أبحث عنها في العتمة. لا شيء سوى الجدران، لا توجد أي نافذة يمكنني أن أرى منها أي شيء، أريد أن أسمع صوت الأذان القادم من المسجد القديم والذي لا يبعد عن بيتنا كثيرا، أريد أن أسمعه حتى أعود إلى رشدي، وتنمحي تلك الظلمة القاتمة في ذاكرتي.. هؤلاء النسوة القادمات من بيوتهن، يرتدين عباءاتهن، يمشين متجهات إلى المسجد، تشعر وكأنهن في طريقهن لتحقيق هدف نبيل، يمشين بحماس واضح، في تلك اللحظة أحسدهن على ذلك الحماس الذي يعتريهن في بداية هذا الشهر، وقد يستمر مع بعضهن إلى نهايته، أنظر إلى مشيهن، كنّ يمشين بشموخ وكبرياء، ربما تبدو حياة الواحدة منهن ليس لها قيمة، ربما هذا ما أفكر به لحظة وقوفي أمام النافذة، ولكن أثناء ذهابهن لأداء صلاة التراويح، هي فرصة للتنفيس عن غضبهن من أطفالهن أو أزواجهن، تشعر الواحدة منهن بعد عودتها بالنقاء والصفاء، وكأنها طير نقي يريد الطيران بحرية وفرد جناحيه للهواء، كنت أمشي بينهن بسعادة، متعلقة بيد والدتي انظر إليها هي الأخرى، إنها تبدو مثلهن، لا تظهر غضبها أو حزنها أو حتى ضيقها، هل يعقل أن والدي لا يضايقها ؟ مهلا لم أسمعهما في يوم من الأيام يتشاجران معا، ولم يتقابلا معا بسبب أعمال والدي الكثيرة، حتى أثناء تناولنا الطعام، كانت تجلس بجدية ولا تتفوه بأي كلمة عنه، وملامحها تبدو قاسية رغم طيبة قلبها معي. في هذه الأثناء، أنتقل شعور والدتي إلي، أنتقل من خلال يدها التي تمسكها جيدا حتى لا أفلت منها طبعا هذا الأمر أثناء طفولتي، أما حين كبرت أصبحت أسير خلفها ببطء، لم تعد متعة الذهاب إلى المسجد كالسابق، لم تعد تلك المتعة الحقيقية التي كنت أجد فيها بعض الأطفال في سني، وهم يقلدون أمهاتهم في حركات الصلاة، أو العبث بمحتويات المسجد من مصاحف أو الكتيبات الدينية أو حتى الجلوس أمام باب المسجد وتأمل الأحذية والبحث عن المتشابه منها، وترتيبها أمام البوابة، كل تلك الأمور لم تعد تثير في داخلي شيئا سوى الضحك والابتسام ونظرات تبحث عن هؤلاء الأطفال الذين يثيرون الضجة في أركان مصلى الحريم.. ولكن ليس معنى هذا بأنه لم تكن هناك لحظات أخرى انتابتني فيها العديد من الأحاسيس الجميلة، وهو الشعور بأنني نقية، وصفاء وجهي كلون حمامة بيضاء، أحيانا كان إحساس الموت يزورني بشكل قوي فأجد بأن ذهابي إلى المسجد بصحبة والدتي وشقيقاتي، فرصة للتكفير عن الكثير من الذنوب اليومية. استشعرت في لحظات بأن عملي هذا ذو قيمة لي بعد الموت، فقد تشفع لي تلك اللحظات، قد تجعل روحي تغادر جسدي إلى السماء بصفاء. تلك النسوة كنت أراهن يكافحن طوال حياتهن مضحيات بالأمور الدنيوية التافهة في سبيل الوجود السرمدي بعد الموت، هل كن حقا يفكرن بهذه الطريقة ؟ أم إنها رغبتي بقراءة ملامح وجوههن أثناء اجتماعهن في منزلنا وقت المحاضرات، ربما هكذا بدا الأمر، ففي طفولتي لم أكن أعي ذلك التناقض الغريب من الثرثرة النسائية التي تدور في منازل الحارة أو ذهابهن إلى أداء الصلاة بكل ذلك الخشوع.. هؤلاء النساء يخرجن بعد صلاة العشاء ولا يعدن إلا في وقت متأخر من الليل، يذهبن أحيانا مع أطفالهن الصغار أو البنات اللواتي كن في مثل سني، كنا في السابق نسير إلى المسجد بسعادة بالغة، هذا إحساسي المتناقض.. ورغم حبي لتلك الساعات التي كنت أقضيها بين قراءة القرآن والصلاة، كنت أحيانا أدخل في مناقشات مع أمي أو تثور بيننا المشكلات، فأمي ترى بأنني في كثير من الأحيان فتاة مقصرة في هذا الأمر، ولطالما اتهمتني بضعف الإيمان، والعقيدة، والعزلة في داخل غرفتي، كنت أشعر بأن حبي للدين مختلف تماما عن حب أمي له في هذه اللحظة. كان حبي يختلط بأمور كثيرة في الحياة، يختلط بالحب، بالرغبة في النجاح والتفوق، بالرغبة في الزواج وإنجاب الأطفال “كان حبا تشوبه الكثير من العواطف والكراهية” وأحيانا التمرد، كانت تريد مني أن أصبح صورة منها، ليس في طفولتها، بل في كهولتها، كنت أشعر بأنني امرأة قد بلغت سن اليأس ودنت روحها من القبر وهي لا تزال صغيرة، لقد كانت تفقدني الإحساس بقيمة الحياة، وتحاول أن تسلب مني أحلامي الجميلة رغم حبها الكبير لي، لم أستطع مصارحتها بالأمر، خفت أن تتهمني بالكفر والإلحاد وقلة الإيمان والفلسفة... ولكن في أوقات أخرى كنت أتقمص شخصية والدتي المتدينة، فأخبر صديقاتي بمعرفتي وثقافتي الدينية التي اكتسبتها من قراءاتي المتعددة، ومن الدروس الدينية التي تعقدها والدتي بحضور النسوة في منزلنا كل أسبوع، فكانت أمي تستغرب من هذا التغير الذي بدأ يطرأ في شخصيتي بين فترة وحين، وذلك التناقض الغريب، ولكنها مع الوقت قررت التأقلم مع تقلباتي، فراحت تفتخر بي أمام صديقاتها، تفتخر بذلك التدين والصفاء والوقار الذي يعتريني، كانت ترسم حولي هالة بيضاء نقية، كان ذلك النقاء يعذبني، لم أكن بالصورة التي كانت أمي ترسمها لي أمام الجميع، حتى هي لم تكن مقتنعة بتلك الصورة، لم تكن مقتنعة بي، ولكنها تريد الزهو بي.. لم أكن أشعر في تلك العتمة بتلك الهالة البيضاء، لم تكن قريبة مني، بل شعرت بها بعيدة، كوجهها الباكي الذي يطل علي في هذه الظلمة. في رمضان كنت أعتزل الحياة بكل ما فيها فأغرق في الصلاة والتأمل بعيدا عن الطموح والرغبة بالنجاح، بعيدا عن ذلك الفرح المختلط بالإثم، كنت كلما تقربت من الله أشعر بالألم أكثر، وكان الألم في أعماقي يزداد، والشعور بالإثم يكبر أكثر فأكثر. أجلس في غرفتي خلف شاشة الكمبيوتر، أسمع خطوات والدتي وشقيقاتي، أسارع إلى سريري، واختبئ تحت اللحاف كفأرة صغيرة خائفة، أبحث عن عذر لعدم ذهابي معهن.. تدخل والدتي بخمارها الطويل، تضع يدها على رأسي، ثم تطبع قبلة على جبيني، تتحدث بصوت عال : الحمد لله يا “ندى” إنها بخير، عندما يأتي والدها سوف أذهب بها إلى المستشفى.. تغادر أمي الغرفة بعد أن أغلقت الإضاءة، فأغرق في الظلمة، وإحساس الذنب في داخلي يكبر من الكذب عليها..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©