الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حوار بلغة الموسيقى

حوار بلغة الموسيقى
9 فبراير 2012
عشنا قبل أيام تفاصيل حدث موسيقي استثنائي، له خصوصيته وهويته وفهمه العميق في التعامل مع الموسيقى الأوبرالية على وجه الخصوص، أما الحدث فسجّلته لنا “فرقة دار الأوبرا المركزية الصينية” بقيادة المايسترو الشاّبة الرشيقة والأنيقة الفنانة “جو مان” والتي سبق لها أن حققت نجاحاً نوعياً على مستوى العالم في قيادة أوركسترا أوبرات “توراندوت” و”لاترافياتا” و”ريغوليتو” و”الفارس الريفي” و”حلم ليلة في منتصف الصيف” والأوبرا الصينية الجديدة الأولى بعنوان “الفتاة ذات الشعر الأبيض”. ومع ما يزيد على 1000 متفرج احتشدوا في ليلة خاصة من سحر الثقافة الصينية لمشاهدة الحفل الذي أقيم على خشبة مسرح أبوظبي بكاسر الأمواج، من تنظيم مركز سلطان بن زايد آل نهيان للثقافة والإعلام، بالتعاون مع مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية ووزارة الثقافة الصينية. أحمد علي البحيري يحسن بنا أن نبدأ بالفقرة الختامية الرائعة من الحفل، والتي حملت عنوان “التشجيع” من أعمال الموسيقي الإيطالي العظيم جوزيبي فيردي (1813 ـ 1901) صاحب الأوبرا العالمية “عايدة” التي كتبها عالم المصريات الفرنسي “أوجست مارييت”، وأوبرا “عطيل” وأيضاً “قدّاس”. بالعودة الى أغنية “التشجيع” المقتطعة من أوبرا “لا ترافياتا” وهي من الأعمال الفارقة في حياة فيردي الموسيقية من أداء الأوبرالية السوبرانو “قوه تشانغ تشانغ” والأوبرالي التينور “لي شونغ”، نجد أنها تتضمن عناصر الموسيقى والرقص والحركة ورومانسية الأجواء المختلطة بأجواء التدفق والحماسة وتوزيع اللحن المعتمد على أسلوب ابتكاري جديد هو “الباص المتصل”، الذي يمثل الطريقة الصينية الجديدة في استخدام الآلآت الوترية الخفيفة بهارمونية عالية تتصدر فيها آلة “الكمان” دورها الحيوي في قيادة اللحن الحماسي الرائع ضمن مقطوعة حركية متكاملة، ومن بين العناصر اللافتة في أداء هذا الجزء، الذي نال استحسان الجمهور، ما تمثل في استخدام آلات متنوعة عدة كانت قادرة على بعث فيض من الألوان النغمية ذات الطابع الدرامي وأسلوب الحفلات الموسيقية ذات الطابع المعاصر. ومن المهم الإشارة هنا إلى النموذج الأوبرالي الصيني الجديد، من حيث قصر وتكثيف المدة الزمنية للأغنيات والمقطوعات، وهو ما يحتاج عادة إلى مهارة في ضبط الوزن الموسيقي وبناء هارمونية اللحن المنسجمة مع موضوع المقطوعة أو الأغنية. جمال المشهدية قبل الدخول في برنامج الحفل، يجدر بنا الحديث عن أمر بصري مثير للاهتمام ذي صلة بجمال التشكيل المشهدي على المسرح وارتباطه بروح الثقافة الصينية، خاصة في جانبها الموسيقي، ولعل ذلك من المسائل الجاذبة للجمهور، وهو أمر اهتم به المشرفون على دار الأوبرا، والصورة في الواقع تعكس لوحة ممتعة، فقد ظهرت بطلة الفرقة “قوه تشانغ” بثوبها ذي اللون الفيروزي الساطع، فيما ظهر رفيقها “لي شونغ” بردائه الأسود ذي النجوم اللامعة، فيما أحاطت بخشبة المسرح مجموعات من الورد الأحمر ذات الصبغة المحلية، كما تزينت مقدمة الخشبة حتى المقصورة الاولى لكبار الضيوف.. تزينت بالورود الحمراء ذاتها الباعثة على البهجة، كما أحدثت الوصل المطلوب بين الخشبة وصالة المتفرجين، وما بين الملابس السوداء لأعضاء الفرقة الثلاثين والخلفية الرمادية والإضاءة المتزنة المنضبطة تشكلت لوحة بصرية رائعة ضاعفت من حميمية الاحتفال التي جعلت من أجواء الموسيقى الكلاسيكية والاداء الأوبرالي الذي يحتاج إلى مهارة عالية، سواء في الأداء أو العزف والقيادة الموسيقية، شيئاً ممكناً. استهلت الفرقة المنضوية تحت مظلة دار الأوبرا المركزية التي أسست عام 1952، برنامجها بتقديم مجموعة من الألحان الكلاسيكية من تلحين الموسيقي “بربسبيجي”، حيث امتزاج القديم والحديث بمهارة جذابة والاعتماد الكامل على الآلات الوترية مع المحافظة على الخصائص الصوتية، فيما نجحت الفرقة، وهي تحافظ على هوية اللحن، في تقديم نموذج وطراز لحني شفاف يرتبط بالتماهي مع روح الموسيقى الصينية، وكانت في الواقع إمكانات مسرح أبوظبي والتوزيع الدائري الهندسي المنضبط للموسيقيين وآلاتهم من العوامل المساعدة على استيعاب اللحن الذي كان يأتينا في بعض الحالات على شكل “سوناتات” وحركات موسيقية ما بين الصعود والهبوط والسكتات، ما عزّز مكانة الصورة اللحنية المصقولة ذات الفخامة على الرغم من بساطة فكرة وموضوع اللحن. لا يمكن لنا فصل الأشياء في برنامج الفرقة الاستثنائي، فالأجواء ذات التأمل الفلسفي العميق، وانسجام الآلات ساهما إلى حد كبير في تقريب الجمهور إلى الأنساق الموسيقية الصعبة في تركيبها ولونها، وهذا ما حدث تطبيقياً مع مقطوعة من أجمل الأعمال الوطنية الحماسية بعنوان “احبك يا صين” من أداء بطلة الفرقة “قوه تشانغ” ومن ألحان كل من “شوي تسونغ” و”تشنغ شينجيانغ”، وقد جمعت المؤدية في أدائها البديع لهذه المقطوعة بين رومانسية عذبة وتموجات صوتية محلّقة في فضاء المكان، حيث كانت تسحبنا ببطء نحو معنى فكرة حب الوطن في إطار موسيقي يؤكد أهمية “الأغنية الوطنية الشمولية” كجزء من مكونات أي حضارة، كما أنه يمكن اعتبار هذه الخصائص المشتركة التي تبدو في الغناء للانتصار من المهمات الفنية التي تبرز السمات الفردية بشكل واضح وجلي. وصلات فولكلورية خصص برنامج الفرقة مساحة طيبة للوصلات الفلكلورية التي بدت من خلال موسيقى الرقصات الشعبية ذات الموتيفات المنبعثة من حياة الشعب في القرى والأقاليم على نحو ما تابعناه في أغنية “كأس من النبيذ”، وهي أغنية صينية مشهورة في مقاطعة “شينجيانغ” من كلمات وألحان “وانغ لوه بين”، ولامسنا في إيقاعها أجواء مرحة تستشعر فيها دفء العائلة وتلك الأجواء المفعمة بليالي السمر والرقص القروي، حيث بدت الفنانة “قوه تشانغ” في قمة عطائها وأدائها المنسجم مع طبيعة اللحن المتدفق الذي ساعدها على زيادة مدى تعبيراتها العاطفية التي وصلت إلى الجمهور الذي تذوقها ببساطة دفعته إلى التصفيق الحار لجمال وروعة الأداء. ومن أعمال الملحن ذاته تابعنا أغنية شعبية ذات خصوصية في المعنى والشكل بعنوان “في بلدة نائية مشوّقة”، ويبدو أن ملحنها قد لعب في دائرة النجاح لهذا اللون من الأغنيات ذات الصفة الفولكلورية، حينما جعل لكل مقام من المقامات جواً ومعنى خاصاً كان يحرص على اتباعهما بدقة متناهية، كما أن للصوت الأوبرالي دوره في تتبع هذه المقامات بتموجات صوتية أشبعت اللحن ورفعته إلى مستوى الأداء الكلاسيكي الذي يحدد هوية دار الأوبرا الصينية. ربما تكون أغنية “ها هو أنا” من كلمات “شيوه قوانغ”، ولحن “كو جيان فن” من أروع المقطوعات ذات (الإيقاع العلوي) البعيد عن عذاب الدنيا وشقائها، وقدمها الثنائي الجميل “قوه شيانغ” و”لي شونغ” في التقاء حميمي رائع بين صوتي السوبرانو والتينور، والأخير نوع من الأصوات الغنائية الرجالية وهو من أعلى الأصوات الرجولية في المجال الوسطي، أما الأغنية بمجملها فقد جاءت حالمة متدفقة، فيها نشوة الأحلام والحب والعشق والهوى في أعلى درجاته، كما سجلت الأغنية ذلك اللقاء الإنساني الحميمي الذي يلعب فيه حوار الأصوات دوره في التواصل مع حوار الآلات، لتصبح الثنائية هي الصفة الغالبة في تصدير البناء الكلاسيكي المعاصر. وكان ممتعاً في هذا المقام، الحديث عن رشاقة الصوت النغمي عند الأوبرالية “قوه تشانغ” التي شكلت بمفردها مجموعة من الآلات المعبرة عن نفسها، وفي تقديري أن ثقافتها الموسيقية العالية قد لعبت دوراً مميزاً في أدائها المخملي، فهي خريجة معهد الموسيقى الوطني بباريس، كما فازت بالعديد من الجوائز الدولية، ومن أهمها فوزها بالجائزة الذهبية للمسابقة داخل الصين للدورة 38 لـ “مسابقة بييليني الدولية للموسيقى الصوتية في إيطاليا” عام 2007. كما نالت جائزة التميز في “مسابقة بورغون” الدولية للموسيقى الصوتية في فرنسا عام 2009. “ليلة رائعة”، عنوان لافت لأغنية من الموسيقى الصينية القديمة، من أعمال الملحن الصيني الشهير “ليو تيانهواه” ومدتها ثلاث دقائق، وتمتاز في بنائها اللحني بتلك التداخلات الحركية، التي يلعب فيها (صولو الكمان) دوراً بارزاً في تحديد اتجاهات حركة الموسيقى والنغمة، ويفصح موضوعها عن جماليات وخصوصية وبطولة واستبسال في الصراع مع الزمن، كما استخدم الملحن بهندسية لحنية واضحة مقام (الصول الصغير) للتعبير عن مشاعر الحب الممتزج بقليل من الغيرة ورثاء الحال حينما تصطدم الأحلام مع ما خطه القدر لنا. تأثيرات شرقية عربية من أوبرا “توراندوت” للموسيقي الإيطالي جاكامو بوتشيني (1858 ـ 1924)، اختارت الفرقة مقطعاً لأغنية جميلة بعنوان “الليلة بلا نعاس”، والأوبرا كما هو معلوم مبنية على مسرحية كارلو غوتسي، التي تحمل الاسم ذاته والتي بدورها كانت مقتبسة عن كتاب ألف ليلة وليلة، وتدور حول وعد الأميرة توراندوت للزواج من أي شخص ينجح في حلّ ثلاثة ألغاز تطرحها. ونجحت الأغنية في جذب الجمهور من خلال مفرداتها وتنويعات الفكرة الموسيقية ومن خلال الأداء الخلاب للثنائي الذي برع في سجال حوار الصوت والمشاعر من ذروة الأداء إلى هبوط تدريجي متسق مع الحالة العاطفية للشخصيات، ويبدو أن الفهم العميق للجو الدرامي قد أسهم في تقديم قصة لا تخلو من التأثيرات الشرقية التي قرّبت الشكل الفني للحضور. وفي حديث جانبي خاص مع مايسترو دار الأوبرا الصينية “جو مان”، حول ماهية مشاعرها بعد النجاح الساحق الذي حققته الأمسية في أبوظبي، قالت: لم أر مثل هذا النوع من الاحتفاء من جانب الجمهور العربي، وكنت متوترة وقلقة قبل العرض، حتى أنني كنت أتلعثم في نطق بعض الجمل، كوني لا أعرف درجة التذوق للفن الأوبرالي والموسيقى الكلاسيكية ذات الملامح الصينية لدى الجمهور الإماراتي، لكنني بعد التصفيق الحار الذي شاهدته وسمعته ولا يزال رنينه في أذني، أيقنت أنني حققت نجاحاً من نوع خاص. لقد كنت أتمنى النزول إلى صالة المتفرجين الذين لم يتركوا المقاعد سريعاً حتى بعد انتهاء الأمسية لكي أمد يدي وأشكر كل واحد وواحدة فيهم على هذا الاحتفاء الجميل الذي يؤكد أن ما قدمناه كان يستحق عناء السفر. أما رئيس دار الأوبرا المركزية الصينية “يوي فونغ”، فقد قال إنه لم يلحظ سعادة بدت على وجوه الموسيقيين والعازفين أكثر من تلك التي بدت عليهم في هذه الأمسية الراقية الحالمة، فقد كانوا يعزفون وكأنهم جيش من العازفين وليس بعددهم الذي ظهروا به أمام جمهور أبوظبي. وأضاف: كنا نخشى الفشل في أن لا يستوعب الناس مظاهر الأوبرات الصينية الأصلية، لكن الواقع بدد كل الشكوك وسجلنا النجاح الذي كنا نتحدث عنه خلال تدريبات الفرقة التي عادت بوسام إماراتي من الدرجة الأولى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©