الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البطل يكتب روايته

البطل يكتب روايته
9 فبراير 2012
من المؤكد أن أي علاقة بين المتن الروائي والعنوان سوف تمنح المتلقي نوعاً من التصور والخيال في تمثل السبب الذي يجعل الروائي أن يختار هذا العنوان من دون غيره، وكلما كان العنوان أكثر وضوحاً كلما سهلت مهمة المتلقي. والعنوان “نصيص، أو بنية افتقار”، كما يصنف إلى أنواع مختلفة أصبحت مطروقة ومعروفة، ويعد الحديث فيها ضرباً من التكرار. جرتني هذه الملاحظة حول موضوعة العنوان رواية قرأتها قبل أيام للروائي المصري ناصر عراق، وهي بعنوان “العاطل”، ومن الضروري أن أسجل ملاحظة أخرى مهمة حقاً، وهي أن الصديق ناصر عراق كان قد أهداني هذه الرواية إبان منتصف شهر مارس الماضي، ولكثرة الأشغال والقراءات والأولويات ظلت لدي رواية “العاطل”، وأنا عاطل عن قراءتها، ومن الضروري القول إن ما حفزني على قراءتها قبل أسبوع هو ترشيحها للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) حينها تبادر إلى ذهني موضوع مهم يطرح في تساؤل بسيط وهو: ما الذي تحفل به رواية ناصر عراق حينما تخطت العشرات من الأعمال العربية في المنافسة؟ وهنا يتأكد لي أهمية هذه الجائزة التي تنتقي لنا وتلفت انتباهنا إلى الأعمال المهمة التي يصدرها الروائيون العرب، بل هي بمثابة ـ وهذه مسألة على غاية من الأهمية ـ موجّه للقارئ يقوده إلى المهم من الأعمال التي تصدر كل عام، وهذا ما تضطلع به جائزة الشيخ زايد للكتاب أيضاً، عندما أكدت على تنافس ما يصدر من كتب عربية على جوائزها لا على أساس اسم المبدع أو تجربته الإبداعية، بل على ما سيقدم من إنجاز في هذا العام تحديداً. القائمة القصيرة أقول نبهتني جائزة الرواية العربية (البوكر) إلى ما لدي من رواية فازت في قائمتها القصيرة، فكان لا بد لي أن أقرأها تسديداً للوفاء الذي يتصف به كاتبها حين أرسلها لي هدية، ولاكتشاف مدى قيمتها التي جعلتها تتنافس مع ما أنتج من روايات عربية هذا العام وتفوقها عليها حتى وصلت إلى القائمة القصيرة (ستة أعمال) والتي من الممكن أن تفوز بالجائزة فيها. من النادر حقاً أن يكون العنوان كلمة واحدة “العاطل”، وهي اسم فاعل محلّى بالألف واللام، وفي الوقت ذاته هي صفة لموصوف محذوف، يحيل إلى القارئ مهمة البحث عن هذا الموصوف في داخل الرواية، وبذلك نأتي إلى مبدأ الاحتمالات والتأويلات التي يدخلنا فيها ناصر عراق بكل ذكاء حقاً. من هو العاطل؟ ذلك هو السؤال الذي سيخرج به كل قارئ للرواية بتأويل بعيداً عما ألصق من تأويل على غلافها الأخير بهذا النص “جرى العرف على أن يقصد بـ “العاطل” الشخص الذي لا يمارس مهنة أو عملاً.. ولكن الجدلية الرائعة كانت فيما جدله ناصر عراق من حبال وأسباب أكثر من مهنة لهذا “العاطل”، فكان محللاً سياسياً وناقداً فنياً ومنظراً اجتماعياً، وبانوراما متعددة المهام والأبعاد والألوان والرؤى، بشكل حكائي مكثف رائع يجعلك تتمنى بصدق أن تكون “عاطلاً” مثله، كيف كان ذلك؟ لن تجد الإجابة إلا بين سطور “العاطل”. ومن الضروري مناقشة ما جاء في هذا النص بالرغم من أنه تعليق على الرواية، ولا أجده تعليقاً مبرراً، ولا ضرورة ـ حقاً ـ في أو يوجه القارئ ويحد من تأويله المتعدد الأبعاد الذي سيخرج به من الرواية، التي تمنح رؤى خلاقة، خيالية للقارئ بعيداً عن الفهم السطحي لكلمة العاطل. لم يرد ناصر عراق من “العاطل” مفهومه المتداول، وهذا ما أكدته الكلمة الملحقة، وبالتالي هو يمنح المتلقي حرية التأويل، ما بين أن يكون العاطل عاطلاً بمعناه المجازي، وهنا يخرج المعنى إلى تأويلات عدة تتصف بعضها بالموضوعية وأخرى بالتخيلية. “العاطل” كلمة قد تصبح مشبهاً أو مشبهاً بها، “العاطل” كلمة قد تصبح الجزء لا الكل، الفكر لا الجسد، الخيبة لا التألق، الانكسارات المتوالية لا النجاحات الجزئية، الهزائم لا الانتصارات. معنى المعنى في كل تخريجاتنا البنائية لجملة “العاطل” الناقصة في العنوان نجد عدم اكتمال نحوي، بنائي، وهذا الجانب العملي في اختيار “كلمة واحدة” لا تقود إلى بناء كامل يماثل مفهوم العاطل كونه يحمل معنى النقصان، العاطل غير المكتمل والكلمة لا تكتمل بذاتها.. ولهذا أجد أن العنوان طابق بين المعنى الحرفي للكلمة ومعنى المعنى للنص. “نعم.. أنا لم أتمكن من تقبيل أي فتاة طوال حياتي”. (ص 7 الاستهلال). “نعم.. أنا لم أتمكن من تقبيل أي فتاة طوال حياتي”. (ص 328 الخاتمة). الاستهلال هو ذاته خاتمة الرواية، وكما هو واضح أنها كتبت بضمير المتكلم الذي هو بطلها “محمد عبدالقوي الزبال” أولاً، وثانياً أن ما بين الاستهلال والخاتمة 328 صفحة، يوهمنا بها ناصر عراق بأن سارد النص الروائي منذ استهلاله هو بطلها “محمد عبدالقوي” ونكتشف أخيراً أن سارد النص الروائي في خاتمتها هو الروائي “محمد عبدالقوي”، وما بين بطل الرواية وكاتبها شخصية متنامية، يستعد ناصر عراق إلى تغذيتها معرفياً وثقافياً صفحة بعد أخرى. “محمد عبدالقوي” يسرد قصته ـ وأؤكد هنا سيرته الشخصية ـ وتشكل وعيه الإنساني والروحي والثقافي وتتجلى بذلك براعة ناصر عراق في أنه صار يتأنى في تشكيل بنية بطله كي يقدمه في نهاية الرواية “روائياً، كاتباً” عرفنا عبر زمن الرواية كيف تشكل وعيه، وقدرته على صياغة هذه السيرة كتابياً. أنواع السرود استخدم ناصر عراق كل أنواع السرود والأنساق الروائية، نسق التعاقب “التسلسلي” “الكورنولوجي” أو الخطي، نسق التضمين، نسق الأرصاد، نسق التناوب، غير أنه لم يبن إن كل هذه الأنساق قد ضخت في العمل الروائي، بل ما يمكن الإحساس به عند قراءتها بأنها كتلة واحدة تقدم بلا ثغرات، كتلة من الأحداث التي تتعانق مع بعضها لتقدم مفهوم كاتبها للحياة والكتابة والأنساق والفن. يقسم ناصر عراق روايته إلى “30” جزءاً، وهذا الرقم يقرب تماماً من عمر “السارد محمد عبدالقوي” بدلالة هذا النص: “أشقائي الثلاثة.. وهم بالترتيب: حسن 40 عاماً، ونجاة 38 عاماً، ثم ثريا 33 عاماً وأنا”. ويقول: “المهم أني ولدت في هذه الحارة عام 1976”. غير أنه يسرد بداية روايته هكذا “فما من شاب في عام 2006 لم يتمتع بلذة لمس النساء”. ونلاحظ أن ما بين عامي 1976 و2006 ثلاثون رقما هو عمر الشخصية “محمد عبد القوي” وهو عمر الرواية بأجزائها الثلاثين. هنا أرى أن ناصر عراق أراد أن يوازي بل يطابق بين بناء شخصية محمد عبدالقوي وبناء الرواية، وبذلك أوجد لها هيكلاً غير اعتباطي، يحتمل التأويل بهذا الاتجاه، كونه نابعا من بنية العمل وليس سابقا عليه كما نرى في تقسيمات الكثير من الأعمال الروائية العربية. قلت إن ناصر عراق استخدم أنساقاً متعددة وطرائق سردية مختلفة، قائمة على التقديم والتأخير في الأقسام الأخيرة من الرواية بخاصة، وهو تلاعب بالزمن فيها، بينما استخدم وبكثافة نسق “الأرصاد” وهو إشارات بسيطة في طيات السرد لما يتوقع أن تأتي من أحداث، مع تلاعبه بالاسترجاعات الخارجية والداخلية والاستباقات أيضاً. وأعتقد أن هذه التقنيات أصبحت مطروقة عند الكثير من الروائيين لكن المهم كيفية توظيفها بدون أن تكون عائقاً لبنية السرد، حيث يبقى الأخير انسيابياً يترابط مع بعضه بعضاً. شخصيتان متناقضتان يحكي محمد عبدالقوي الزبال عن كرهه لوالده المتسلط: “دعوني أعد إلى السبب الذي يجعلني أكره أبي وأنتظر خبر موته كما ينتظر العاشق الملهوف نظرة من مليكة فؤاده، وبالمناسبة لست أنا فقط من يحلم بموت أبي، بل أشقائي الثلاثة أيضاً.. يرتكبون الحلم نفسه”. كان أبوه متسلطاً وجزءاً من بقايا عسكري متقاعد، يمارس القسوة على الأم والأبناء الأربعة حتى جعلهم إلى حد بعيد من المقموعين نفسياً والذي انعكس على طبيعة أداء أجسادهم أدوارها في الحياة. كان الأب “يستخدم أفحش الكلمات عندما يسب أمي أو نجاة أو ثريا من دون خجل”. وطوال القسم الأول يحاول ناصر عراق أن يقدم صورة بانورامية للتركيبة النفسية لبطله محمد عبدالقوي بكامل إحباطاته ورؤاه المنسحقة وأحلامه الفاشلة. في مقابل محمد عبدالقوي يقدم ناصر عراق شخصيته الثانية الموازية وهو ابن خالته وصديقه “منصور” الذي نشأ في أسرة منفتحة على الأفكار والحياة. هنا استطاع ناصر عراق أن يقدم شخصيتين متناقضتين تماماً ما بين المكون الأسري وثقافة منصور وجهل محمد عبدالقوي وانتماء الأول إلى اليسار المصري وضياع الآخر فكرياً. كان كل شيء مختلف بين عائلة الأختين أم محمد عبدالقوي وأم منصور، وكان ناصر عراق قد أمسك بمفاصل الحياة البسيطة بجزئياتها القلقة والمربكة، والصغير وبتصورات العسف الذي مارسه الأب “عبدالقوي” على ابنتيه ونصائح خالتهن “عنايات” أم منصور أن ينزعن الحجاب. تظل الرواية في إطارها الذاتي ونحن نرصد رؤية محمد عبدالقوي لابن خالته منصور وكيفية تشكل وعيه الشعري والسياسي، ومن خلال وعي منصور يخرج ناصر عراق إلى العالم الخارجي، حركة المجتمع والفن وما يقدم من إنجازات إبداعية. رؤى متعددة في الكون والسياسة والأخلاق والله والوجود والعدم وفي الأدب، كلها ينفذ إليها ناصر عراق ليتحدث فيها من خلال شخصية منصور الذي أصبح بوابته لطرق مفاهيمه، بالمقابل فإننا نجد عمق الذات، صراعها، رغباتها، هواجسها، التشهي الجسدي، الرغبات المحمولة، كلها ينفذ إليها ناصر عراق ليبثها فيها من خلال شخصية محمد عبدالقوي الذي أصبح بوابته لطرق اللاشعور. التحويل في الضمائر يحول ناصر عراق لغة السرد من المتكلم إلى المخاطب عندما يجد من الضروري تأجيل الحكي: “عموماً سأقص عليكم ما روه لي فيما بعد!”. وبذلك يؤجل سردياً محمد عبدالقوي الحديث عن علاقة منصور “داخل السجن عندما ألقي القبض عليه كونه يسارياً” بشخصية “بدر المنياوي”. ومع ظهور كل شخصية جديدة يلتقي بها “منصور” يظهر قسم من أقسام الرواية حيث يفرد ناصر عراق قسمه الرابع لـ “بدر المنياوي” الرجل الأربعيني والسياسي المخضرم. ويلتقي محمد عبدالقوي ببدر المنياوي أيضاً ويبدأ ناصر عراق في تفتيح وعي سارده الذي يفاجأ بزواج عرفي لابن خالته منصور من “صفاء الشرنوبي” صاحبة القسم الخامس وهي ابنة المناضل سعيد الشرنوبي الرسام الذي عشق القاهرة القديمة. هكذا تتكون هذه الرواية في بنية سردية تعاقبية تخترقها بنى سردية أخرى وخلاصات لأزمان طويلة حيث يعج زمن القص، أقصد زمن الحكي، لا زمن الحكاية، بالكثير من التحولات السريعة: “بعد ذلك بفترة طويلة وبعد أسابيع قليلة”. “عامان وسبعة أشهر وثمانية عشر يوماً هو عمر هذا الزواج العرفي”. ويلخص ناصر عراق كل هذه الأحداث: “رأيته “منصور” عائداً من القناطر الخيرية، تاركاً زوجته ومعشوقة فؤاده صفاء سعيد الشرنوبي جثة هامدة في قاع النيل”. ولكن أتساءل لماذا يلخص ناصر عراق الأحداث وبسرعة فائقة في نهاية القسم الخامس بينما تبقى له ما يقرب من خمسة وعشرين قسماً لاكتمال الرواية، وأجيب إن ناصر عراق لا يهمه أن يروي عما حصل من أحداث لشخصياته، بل الذي يهمه كيف انغرس محمد عبدالقوي في بنية المجتمع اليساري المثقف الذي كان غائباً عنه؟ وكيف تشكل وعيه؟ وهذا ما يريده ناصر عراق كما أظن، كي يتحول محمد عبد القوي الى كاتب يكتب في نهاية الرواية أحداثها لا بمعنى الأحداث، ولكن بمعنى النظرة إلى تلك الأحداث وكيفية تشكلها روائياً. صراع التكوين يبدأ صراع “التكوين” كما أسميه لشخصية محمد عبدالقوي من القسم السادس الذي هو “دبي” حيث يلتحق منصور الذي سبقه واشتغل صحافياً في إحدى صحف دبي وكذلك أخوه حسن الذي اشتغل في “كارفور” دبي مسؤولاً بسيطاً. يصاب محمد عبدالقوي بدهشة المكان. ويبدأ ناصر عراق بالاشتغال على هذا المكان المدهش، ويترك ـ في زمن سردي قصير ـ شخصياته التي لم تدخل لحد الآن في صراع يستحق، أن تستحوذ على البنية السردية، لقد كان محمد عبدالقوي “مذهولاً” بالمكان، وبعفوية وبراءة ساذجة يتحدث عما يصادفه في لحظته الأولى، ويبدأ ناصر عراق يضخ أسماء أحياء وشوارع مدينة دبي جزءاً وراء آخر. ومن خلال هذا الوصف ينقل ناصر عراق بطله “محمد عبدالقوي” من عالم ساهم في إلغاء وتصغير شخصيته بيتهم في القاهرة إلى عالم أكثر رحابة يصفه بـ “مذهولاً بالمكان” بيته المتوقع في دبي. هذا الذهول تطلب بالضرورة أن يقابله وعي في كيفية فهمه والتعامل معه.. وهذا فعلاً ما أصبح فيه هم “الروائي”. منطقة التبئير لنقل إن البؤرة “منطقة التبئير” في الرواية قد تغيره ما بين عالم ضاغط عاشه محمد عبدالقوي في أسرته بالقاهرة وعالم منفتح سيعيشه محمد عبدالقوي في دبي، وبين هذين العالمين تتجسد لحظة أطلق عليها المؤلف “الذهول”. وما بعد الذهول نفسه يبدأ الروائي في تشكيل مبنى حكائي جديد قائم على تنويع علاقات شخصية بطله الذي بدأ يعيش حالات من الدسائس “في العمل” ومن علاقات إنسانية لم يستطع أن يصل بها إلى حالات جسدية ناجحة، بسبب مؤثرات العالم الضاغط الذي عاشه بين أسرته وفي حياته بالقاهرة والذي صار يلاحقه ولم يعطه الفرصة لتحقيق أحلامه التي أطلقها في أول كلمة بالرواية وظل على ما هو عليه معها حتى آخر كلمة من الرواية. “نعم أنا لم أتمكن من تقبيل أي فتاة طوال حياتي”. يفشل محمد عبدالقوي في إقامة علاقة جسدية مع زميلته المغربية، يفشل أيضاً في التواصل العملي مع المتسوقين الذين يتداولون علاقاتهم باللغة الإنجليزية، ويفشل في التواصل مع زملائه في العمل وهم “ثلاثة من فلسطين واثنان من سوريا وفتاة مغربية ومثلها فلبينية وشاب باكستاني وشاب لبناني”. ويبدو أن من بينهم من أراد إقصاء محمد عبدالقوي عن عمله مستغلاً عدم قدرته في اللغة هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد من بينهم “الفتاة هند المغربية” من تحاول أن تستعيده لذاتها كونها معجبة به، وبذلك تحاول الاشتغال ضد الإقصاء، عبر إنقاذه من حوارات غير ناجحة أي غير قادر على إدارتها مع المتسوقين. البنى التضادية هنا أصبحت لدينا مجموعة من البنى التناقضية في الرواية وهي: العالم الضاغط/ العالم المنفتح وبنية تضادية الإقصاء/ ضد الإقصاء، لنكتشف بيئة جديدة تضادية ثالثة عندما يلتقي هند المغربية بعلاقة جسدية فاشلة بسبب عجزه النفسي لا الجسدي وهي الرغبة / الانطفاء، وأعتقد أن هذه البنى الثلاث هي ما ستقوم عليها الرواية بمجملها. ناصر عراق عرف كيف يشتغل على المهمل واليومي والعادي ليحول كل ذلك إلى استثنائي وغرائبي عندما يحاول تفجير الطاقة الجسدية لبطله محمد عبدالقوي غير أنها لم تظهر، ولن تظهر مطلقاً، وهذا بتقديري هو أروع ما قدمه الروائي، إذ أن ناصر عراق لو أطلق إسار تلك الرغبة الجسدية وتحققها فعلاً وتفريغ المحتوى الذي أصر على إخفائه طوال الرواية، قلنا لو تحقق التواصل الجسدي فعلاً لفقدت الرواية غموضها وتشوق المتلقي لمعرفة نهاية هذا الغموض. ولا أقول إن هذا فقط هو المحور الرئيسي، بل العكس هناك محور مهم وهو هذا التوتر الذي خلقه ناصر عراق في مسألتين هما: أولاً حين أودعت هند حقيبة يدوية مغلقة لدى محمد عبدالقوي لم يفهم ما بها.. ثانياً عندما ينشأ غموض وقع بحق محمد عبدالقوي بعد أن ضبط في شقة ايرينا الروسية التي قتلت. هذه الأحداث لم تكن تسلسلية “تعاقبية” في الرواية بل هي متداخلة، فيها من التقديم والتأخير الذي لا يخل بتماسك الرواية، بل لا يشعر المتلقي بأن هناك لعباً على الزمن تم بشكل دقيق ومن يد محترف ماهر، إذ تم العمل على التعاقب في نقطة بؤرية هي في الأقسام (27 الجريمة) ثم (28 الزفاف) ثم (29 السجن). كسر الزمن في القسم 27 الجريمة: تقتل ايرينا الروسية وقد ضبط محمد عبدالقوي وصديقه أمجد عند القتيلة في شقتها. في القسم 28 الزفاف: يزف محمد عبدالقوي في القاهرة على زميلته عزة سليمان التي تعمل معه في شركة الحبتور للسيارات التي ساهم عبدالله راشد الذي وصفه السارد بـ “النبيل” بتوظيفه، ويبدو أن زمن القسم 28 الزفاف لاحق عند زمن القسم 29 السجن.. حيث تم الزفاف ما بعد خروج محمد عبدالقوي من السجن في القسم 29 السجن. اذا هناك تأخير مرتبة لا زمناً حيث يسجن محمد عبدالقوي عشرة أيام ثم يطلق سراحه. وهذا القسم مرتبط بالقسم 27 الجريمة أي هو لاحق له وبالضرورة فإنه لابد أن يحل محل الفصل 28 الزفاف ويتأخر هذا الفصل ليصبح الفصل 29 وهنا يستقيم التسلسل الزمني للرواية. أعتقد أن كسر هذا التسلسل التعاقبي في الزمن قد خلق نوعاً من التشويق لدى القارئ - ليس أكثر من ذلك، أراد منه ناصر عراق أن يلعب على رغبات القارئ في معرفة ماذا سيحصل لطاقة محمد عبدالقوي الخامدة ليلة زفافه من عزة سليمان أولاً وثانياً أن يلعب قليلاً من الفنية على زمن روايته أي أنه اشتغل على الزمان والحدث، وأعتقد أن اللعبة السردية في الرواية كما يقول “جيرار جينيت” قائمة على هذين العنصرين. حسناً.. يبقى المتلقي مشدوداً إلى غموض “الحقيبة اليدوية” التي حين يقرأ محمد عبدالقوي في الصحيفة أن هنداً قد أُلقي القبض عليها في إحدى سفراتها فإنه يسارع إلى فتح الحقيبة التي حالما يفتظها مع ابن خالته منصور يكتشف أنها ملأى بالمخدرات. انكشاف هذا الغموض يولد غموضاً آخر يلخص في سؤال مهم وهو أين سيذهب محمد عبدالقوي بهذه الحقيبة وكيف سيتخلص منها؟ وحينها تأتيه المساعدة من ابن خالته منصور حينما يأخذها بسيارته ليلقيها في إحدى حاويات النفايات في دبي. بنى كلاسيكية لنلاحظ أن ناصر عراق يعتمد على بنى كلاسيكية في تشكيل الأحداث وهي تقوم على عناصر ثابتة مكونة للحكاية وهي: “البطل.. القضية.. المساعد.. الأخبار.. الخدعة.. الانطلاق.. والاكتشاف.. والنجدة.. الانتهاك.. الانتصار.. تغيير الهيئة”. أما البطل فهو “محمد عبدالقوي”، والقضية هي “التخلص من حقيبة المخدرات المخيفة”، والمساعد هو “منصور”، والأخبار “القبض على هند”، والخديعة “نوايا هند” في إيداع الحقيبة لدى محمد عبدالقوي، والانطلاق هو “حمل الحقيبة لإتلافها”، والاكتشاف هو “المخدرات في الحقيبة”، وتغيير الهيئة “تحول خوف محمد عبدالقوي إلى فرح”. تلك هي عناصر كلاسيكية حددها النقد الأدبي الكلاسيكي في أي حكاية، وهي عناصر ثابتة في الحكي، وجميعها أتت لدى “ناصر عراق” في رواية هذا الجزء من سرده بشكل اعتباطي، ونجح في صنعها، وتشكيل مبنى روائي لها، حتى الانتهاء من غموض الحقيبة، حيث أُلقيت في حاوية القمامة فأقفل الروائي هذه الحكاية. بذلك الفعل الذي استفاد منه الروائي في بناء شخصية محمد عبدالقوي، حيث بدأ يضخ إليه مواقف شبيهة كي يبني شخصية قوية، قابلة لأن تتصدى لكتابة رواية فيما بعد، اسمها “العاطل” رواية العاطل التي اتفقنا على أن ساردها الأول الظاهر ليس ناصر عراق، وإنما هو “محمد عبدالقوي”، إلا أن ناصر عراق “السارد الثاني الخفي” هو من يغذي شخصية محمد عبدالقوي، ليقدمه في نهاية الرواية لنا سارداً مكتملاً ومقنعاً. ولو افترضنا جدلاً أن ناصر عراق قد أعلن في بداية الرواية عن أن هذه الرواية يسردها “محمد عبدالقوي” لما تم قبول هذا الافتراض، لأن شخصية عبدالقوي لم تكن ناضجة في بدء العمل، ولكن عندما خاضت هذه الشخصية تجاربها، وجدنا أن شخصيتها قد اكتملت وأصبحت مؤهلة للاضطلاع بالسرد، وأصبحت غير منذهلة، حيث غادرها الذهول الذي اصطدمت به حال أن وطأت قدماها أرض دبي. تبقى شخصية محمد عبدالقوي غير قادرة على اختراق الأنثى “عزة سليمان”، وتبقى هذه الأخيرة ناضجة لكي تتعدى مع محمد عبدالقوي المحنة التي خلقها زمن قهر الأب الذي أُزيح بموته، حيث يهيئ ناصر عراق مسببات الوصول إلى الخرق، ولكنه لا يعطي الرواية انفتاحاً بخرقها، بل ظلت هذه الرواية مغلقة، حين لم يصل محمد عبدالقوي إلى تفريغ شحنة جسده المنطفئ ، وهنا فإن هذه النهاية تصنف بالنهاية المغلقة، ولا أريد أن أتحدث بشكل أكثر عن الرواية، وأترك للقارئ تأويل الكثير من أحداثها حين قراءتها، لأنها تستدعي الاهتمام بها وقراءتها كونها عملاً مشوقاً يثير الانتباه.. حقاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©