الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفصام الكوني

الفصام الكوني
9 فبراير 2012
a.thani@live.com التعميم سهل، وحين يعمم المرء يسهل عليه التعميم لتسهل عليه حياته ويسهل عليه العالم. وحينما يسهل العالم على أي امرؤ يرتاح. غير هذه السهولة، هنالك صعوبة الفحص والتفتيش والنبش والكشف والتنقيب والبحث، فالذي يبحث وينقب ويتحرك.. حركته تلك ليست مع موضوع خارجي، فهي أيضاً وفي ذات الحين وذات الحركة مع الذاتي منه والداخلي. إن الباحث والمنقب والمكتشف كان قبل بحثه وتنقيبه وأي اكتشاف يحدثه، يعمل على داخلٍ ونفسٍ يظنها معصومة وكاملة وتامة. أما حين يجرح أرض بحثه وتنقيبه واكتشافه فإنه يفتح ثقباً ويجرح أرضاً أو سماء ما فيه. وخصوصاً هنا، أي حين يثقب مرة ومرة واحدة فحسب ثقباً في داخله ويجرح سماء فيه أو أرضاً. فإن ما جرح وثقب هذه المرة لا يلتئم أبداً. ليس بحثي في الذبابة ولا في دبابة، ولا في الكون ولا فيما يكون هو غير أنني أبدأ رحلة قلب وتنقيب في داخلي “أنا”. أناي التي انقلبت وبدءاً من البحث لا إلى صخرة متقفلة وإنما إلى صخرة انبجاس حين تحك فإن أول لهب وحرارة ونار تحدث هي على طريق أطول الى الحجر الصانع العظيم: الى الحجر السيميائي: حجر الفلاسفة. ومن هنا فإن التعميم سهل. أعمم يعني أن ألغي. أختصر لألغي، وأختزل لألغي. التعميم يعني أن التفصيل لا وجود له ولا يغير في الأمر شيئاً. التفصيل لا يقول شيئاً عند المُعَمِّمْ، وبما أن الحياة تفاصيل فلا وجود عند التعميم بالتالي للحياة. التعميم تجاهل والحياة عند التعميم على الدوام ترد الى التعميم، الى الفكرة المسبقة والثابتة. الى الفكرة المؤلهة، وذلك شِرْكٌ ما بعده شَرْك. أعمم يعني أنني أتجاهل وأجهل حياة الآخر، وحياة الأشياء. أجهل وأتجاهل أن الآخر في حياته يتحرك، وأن الأشياء في حياتها تتحرك، وأنني الوحيد حين أعمم لا أتحرك، أو بمعنى أصح لا يتحرك تفكيري تحرك جسدي. هذا الفصام بين لا حركة التفكير في التعميم، وبين حركة جسدي كتفاصيل. هذا الفصام هو ما يتفاقم بي وعليَّ حين لا أستطيع الكف ولا الشفاء من التعميم وحين يكون التعميم حياتي وتكون حياتي أقرب الى الحشف منها الى الحياة. أنا عندما أتحرك في التعميم، أي حين يتحرك جسدي في سكون تعميم تفكيري، لا أبصر. فالبصر حينما يتحرك يتغير فيما يراه. تفصيل ما يراه يُغيره فيتحرك ويتحرك ليغير نفسه، ليتغير البصر وليتغير ما يراه وكيف يراه. والسمع أيضاً حينما يتحرك كذلك، وكذلك الفؤاد. كل ما يتحرك فيّ، كل جسدي حين يتحرك وهو على الدوام يتحرك بي وبما هو سواي فيّ. كل جسدي حين ذاك، أي حين يتحرك، يتغير، يموت ويحيا، يجري ويسكن، يتمزق ويلتئم. ولكن القفز على الفصام بين تفكيري وجسدي هو قفز على هوة عظيمة: تماماً كما هو القفز الذي يمارسه الإنسان كل آونة على هُوتين لا يقدر مقدار الهاوية فيما بينهما وما ذلك إلا لأن هذا الفصام منتشر ومُعدٍ وسائد وعميق. الهوة الأولى، هُوّة بين القدمين: قدم ترتفع في فراغ الهواء، في هواء الفراغ وقدم تستند وتلتصق وتترك أثراً وتقف وقفة نقلة على الأرض. ولو نظرنا الى هذه الهُوّة، الى مشية الإنسان من نقطة فوتوغرافية لوجدنا أن ما بين القدم المرفوعة لتسقط ككارثة دقيقة على الأرض، وتلك الساقطة لترتفع كطيران مبدئي. وكل جدل منطوٍ على هوة ملامستها هو الوعي الأشد نقاءٍ. إن هُوّة لا وجود قدمين مرفوعتين على الدوام في المشي (إذ في هذا تعذره) ولا وجودهما أيضاً جالستين على الدوام إلا وسميت تسمية أخرى غير المشي وكانت حالة أخرى هي الوقفة. هذه “الهُوة” لم تكن خلف حلم “الطيران” الإنساني فحسب، بل وكانت أيضاً خلف حلم الوقفة تماماً كما تحقق متمثلاً ومتصوراً في النص الفذ المخاطبي لعشيق السفر: النفري. جدل المشية مظهر من الهوة. ثمة جدل اللحظة، فالترحال مادياً كان راو مجازياً في المكان هو الممارسة هو الحركة في الزمان. والحاضر هُوّة كتلك التي بين قدم مرفوعة وأخرى في وضع “الوقفة”. إذ أن الحاضر هو مفرق وافتراق وفرق بين زمن مضى وولى وذهب، وزمن لم يأت بعد وقادم ليذهب. إن المستقبل حين يحدث يحدث ونتخيل حدوثه هذا كحاضر، إلا أنه وتلك المفارقة (الهوة التجلي الأعظم للمفارقة: ذلك درس مسرحي بلا شك) وبمجرد ما يحدث، ما يكون حاضراً. بمجرد ما يصل يتحول إلى مُوّلٍ ومغادر وراحلٍ وماضٍ ومفقود (لهذه المخيلة ربما استعادة قصيدية ـ حتى لا أقول مقصودة ـ لذاكرة الفقدان). لقد كان الماضي قبل أن يمضي مُستقبلاً قبل قليل إلا أنه الآن مرّ وعبر. وغذى ذلك المستقبل المنتظر والمرتقب قبل قليل ماضياً الآن. (القلق الوجودي يُمارس بانتظار لا معنى له). إن هاتين الهوتين، هوة وَحْدَة، التقاء النقطة العليا والوقفة الكبرى بين جسدي وتفكيري. وحين يلتقي جسدي بتفكيري وينعقدان في الزمان/ المكان، يغدو انعقادهما هذا جسر إليّ، إلى ما لم أكنه بعد، إلى أناي كرغبة وشغف ومستحيل لا أناي كواقع وسكون ومقر. والجسر المنعقد كقوس قزح روح إنما هو منعقد على هاوية جارية وذاهبة ذهاب أنهار الجحيم إلى محيطات اخضرار سُرة المرايا. الجسد والتفكير هكذا بإمكاننا أن نلمس الآن لماذا يرتعب الناس من لقاء الجسد والتفكير (الجدلي) ولماذا يأنسون إلى الفصام (نسيان ما هو مؤلم). وهكذا أيضاً بإمكاننا أن نعرف الآن لماذا الرعب والجفلة من التفصيل ولماذا إيثار التعميم (والإلغاء). مرعب لقاء الجسد والتفكير، ومرعبة النقطة: ثقب الكينونة، كما ومرعبة الوقفة: جلال كل شلال. مرعب لقاء كل ما يتحرك بي، أي ما يموت بي، ولقاء أي ما يتصل بي بكل ما ينفصل عني مرعب. قائمة لغة تفكير الإنسان، وتفكير لغته على خسارتها وانفصالها (اللغة والفكر هي أعلى انفصال بين الإنسان والآخر والواقع والطبيعة والكون، وهي أدق انفصال بين انعكاساته الذاتية أيضاً). ولربما هذه الخسارة المنطوية عليها لغة الإنسان أي تفكيره هي السر وراء انبعاثه وحشره عند أقرب وأمعن اتصال (العشق الإلهي كما العذري مؤجل إلى قيامة الكون لا قيامة طرفي هذا العشق، فالعشق هذا بدئياً يُقَص ويحدث من طرف واحد، لا زواج في العشق). ولا ثقب في مشيتي (نقطة الطلل) ولا جلال لوقتي (الخلاص من الخلاص) حين الفصام. وتفكيري الميت يحيا عند الفصام بعلته وبقوة مرضه، فهو يملك (ومالك) أما الجسد، جمال الجنازة حينئذ فهو العبد والمملوك. هكذا الفصام يتفاقم دون أن يعني تفاقمه استسلام جسدي ذلك الذي هو خيال (الخيال المادي) لمجمل عناصر الكون. إن كون جسدي (جسدي الكوني) يتدخل حين يقصيه الفصام بقوة المرض وبفعالية تعميمي وفعالية سواي في الذي هو سواي، فيما هو الداخلي في الخارج الاجتماعي والخارج الطبيعي والخارج الفلكي. عند التعميم سيقوم جسدي ينهبني، سيطلق وحوشه وزلازله وبراكينه، سيطلق حتى الصعب وحتى الرقيق فيّ علي سيهتك روحي ويمزقها ويجعدها. سيملؤها بالصراخ والقيح والدمامل والقيء والبثور وإمساك الفاضل (الزائد في الجسد) عن الفضول (السؤال، وكإثارة في الروح). وقت ذاك كيف بإمكان الإنسان التصرف في جسده. إذ أن جسده حين الفصام الروحي هذا سيعتدي عليه (كل الأمراض النفسية والفيزلوجية متأتية من هذا الفصام)، وستقوم حينئذ أيضاً شهوات الجسد لتأكل “نقطته” فلا يبقى من زمنه إلا الفحيح. وستقوم حينذاك كذلك (كيف أن التكرار الروحي للكاف ـ كاف التشبيه جغرافياً) ستقوم حُفرة (من مجموع الحفر) وحظائظه (عن التقاء الحظيظ والحظ) و(الحضيض والحَضْ - دعوى الإرادة الفردية فيما هو نجو جماعي). ستقوم عندئذ مهاوي كل مرض، فلا يبقى في المريض إلا الرائح والغادي من القاذورات. جسدي إذن لن يترك روحه بعيدة عنه، إذ أن الروح هي تفتح الخيال الشكلي للجسد والجسد هو التفتح، تفتح الخيال المادي فيه (راجع باتلار) إن جسدي لن يكون تفتحه إلا إذا كانت حواسه من سمع وبصر وفؤاد، إلا إذا كانت الوردة منه (أي تفتحه المجاني، لا النفعي)، إلا إذا كانت الروح عنه هي بعيدة وصوته، حركاته وسكناته، صمته الموغل به، وعينه التي لا تراه “من” الجسد الذي رأى نفسه يرقص “من”؟، وكان على الرقص أن يستدير حتى يطير أو يتلف، وروحي أيضاً لن تترك جسدي يستقيل وينأى: وحينما تقطع روحي قطع “حزَّة” من البحر عن البحر، تركد روحي حيثما تقطع روحي عن تفاصيل جسدي الذي هو جسدي والذي هو تفرق أعضاء تفاصيل واجتماع تفاصيل أعضاء. تخرج اللغة بروحي أجل. باندفاع وهياج وصبر وارتقاب وكمون وحدس واستبطان روحي أجل. إلا أن اللغة تتجسد حين يصحب جسدي روحه في نزهة ملكية الى غدير يصحب جسدي روحه في نزهة ملكية إلى غدير اللذة وإلى المعشوشب من اخدود ما هو مقطوع عن الجسد وقاطع للروح. سأكتب هذا. سأكتب باسترسال وتداعٍ و”الية”، وذلك لأنني حين أكتب باسترسال وتداعٍ و”الية” ينهض جسدي مني ويقوم جسدي ليكتب ومن رأس القلم تتدفق روحي كما تطفر من رأس الدماغ قطرة حبر. سأكتب هكذا. سأكتب بلا تفكير وما ذلك إلا لأن التفكير لجم جسدي وقيده وأذابه في المثال حتى غدوت أنا والمثال على انشقاق. أخدع التفكير لأكون ويخدعني حتى لا يكون وهنا التفكير، تفكيرين. تفكير فصام عن جسدي وروحي معاً. وتفكير وقفة عليا ونقطة كبرى لجسدي وروحي معاً. في تفكير الفصام الفكر لا يفكر جسده الخاص، ولذلك هو لا يفكر أي جسد، أي آخر لا يفكر. إنه يعمم ويعومُ على سطح كل شيء يستهلك ولا ينتجُ يقول ما لا يقول ويصمتُ على مر يرغبُ يقمع ويقتل كل حي فيه
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©