الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من بداية الطريق.. إلى الحريق

من بداية الطريق.. إلى الحريق
9 فبراير 2012
غلبت الجوانب السياسية والاقتصادية على أعمال المؤرخين ودراساتهم وغابت جوانب أخرى لم تجد الاهتمام اللائق، ومنها الجوانب الثقافية، وشعرنا جميعا بافتقاد هذا البعد حين تعرض مبنى المجمع العلمي المصري في القاهرة مؤخراً للاحتراق، فقد تبين ان الكثيرين لا يعرفون موقعه، رغم انهم يمرون عليه يوميا، ولا يعرفون شيئا عنه، وهذا ما يدعونا للاحتفاء بهذا الاصدار “التاريخ الثقافي لمصر الحديثة.. المؤسسات العلمية والثقافية في القرن التاسع عشر” وهو بالأساس رسالة نال بها المؤلف وائل الدسوقي درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس. يهتم الباحث بالمؤسسات العلمية وليس التعليمية، ومن ثم لم يتوقف عند إنشاء المدارس بمختلف أنواعها ومستوياتها ولا المدارس العليا التي كانت تمهيدا لانشاء الجامعة المصرية. بداية فرنسية على رأس المؤسسات الرسمية يأتي المجمع العلمي وقد انشئ في القرن الثامن عشر وأسسه نابليون بونابرت في أغسطس 1798 وضم علماء الحملة الفرنسية لكنه توقف عام 1801 بجلاء الحملة عن مصر، حيث عاد العلماء ومعهم الأبحاث التي قاموا بها والدراسات التي جمعوها، ونسي أمر المجمع نهائيا حتى كان العام 1859 حيث قدم المستشرق “كونج” وكان سكرتيرا في قصر والي مصر محمد سعيد باشا ومعه عالم المصريات “اوجست مارييت” طلبا الى سعيد باشا لاعادة تأسيس المجمع وحددوا الفوائد التي يمكن ان تعود على البلاد في العلوم والفنون لو اعيد المجمع مرة اخرى. واستجاب الباشا واصدر المرسوم الذي يقضي بافتتاح مجمع علمي في مصر على غرار المجمع القديم واطلق عليه اسم “مجلس المعارف المصري” وانهالت طلبات الاشتراك في المجمع من كبار العلماء من مختلف انحاء العالم، خاصة ان سمعة المجمع القديم كانت في تألق بعد صدور كتاب “وصف مصر”، وأخذ المجمع في العمل والاجتماعات ومن البداية كان اعضاء المجمع مشغولين بضرورة تطوير العمل العلمي المشترك أو ما نسميه اليوم فريق العمل، لأن الجهد الفردي يؤدي الى نتائج إيجابية لكن جهد الفريق يختلف ويؤدي الى نتائج كبرى، ولم يكن كتاب “وصف مصر” سوى نموذج لذلك. بدأ المجمع العمل في عام 1859 بعدد اعضاء بلغ 44 عضوا، وكانت هناك عضوية شرفية تقرر ألا تزيد على خمسين عضوا يختارون بالاقتراع السري من الاعضاء العاملين، وهناك كذلك أعضاء مراسلون اي يتابعون للمجمع من الخارج وتقرر ان تكون العضوية مفتوحة بلا شروط الجنسية والمهم هو النتاج العلمي، ولذا كان بين اعضائه فرنسيون وايطاليون وبريطانيون وألمان، ومن بين المصريين والعرب يبرز اسم الامير عبدالقادر الجزائري باعتباره عضوا شرفيا واسماء اخرى مثل سعيد الحفناوي افندي من الاسكندرية ورئيس مكتب التجارة الخارجية بالاسكندرية عبدالله مسعود افندي وعالم الفلك محمود بك الفلكي والطبيب محمود علي مدرس الطب في مدرسة الطب بالقاهرة. وكان المسيو جومار عضوا في المجمع عام 1859 واختير رئيسا فخريا له عام 1861 وكان هو الوحيد الذي عاصر وشارك في المجمع الأول زمن نابليون. وقدم سعيد باشا رعايته الكاملة للمجمع ولعلمائه، وانضم عدد من العلماء الى المجمع لينالوا هذه الرعاية مثل “رينو موشلر” عالم النباتات والذي كان يجري ابحاثا حول النباتات البرية بمصر وقدم له المجمع معونات هائلة لانجاز البحث، وكان مقر المجمع في الاسكندرية لأن المدينة ارتقت كثيرا في عصر محمد علي وامتلأت بالجاليات الاجنبية، وكان افتتاح قناة السويس قد أعاد الاهتمام الى طريق البحر المتوسط ومن ثم الاسكندرية وكان محمود الفلكي المصري الوحيد عضوا في مجلس الادارة وكان رفاعة الطهطاوي عضوا في ادارة النشر، وكذلك يعقوب آرتين الأرمني المتمصر الذي تولى رئاسة المجمع فيما بعد ليكون اول مصري أو متمصر يشغل هذا الموقع بعد الاوروبيين وكان من بين الاعضاء علي باشا مبارك لكن لم يقم بدور بارز فيه اذ كانت لديه شواغل اخرى. التأسيس الثاني كان هناك فريق من العلماء ضد إعادة تأسيس المجمع في مصر، لذا ورد في أول إصدار علمي للمجمع بعد عام من اعادة تأسيسه “نحن لا نريد سوى بعض الوقت لكي نستطع ان نثبت ان أرض مصر ليست قاحلة وانها نبع العلوم والفنون والآداب واثبات ذلك للمتظاهرين الذين لا يعرفون بما يكفي”. كانت اول خطوة للمجمع تأسيس مكتبة علمية كبرى، تضم كتبا في مختلف فروع المعرفة، لذا تمت مخاطبة عدد كبير من العلماد ليقوموا باهداء اعمالهم وجزءا من مكتباتهم للمجمع، وقدم المجمع شكرا للعلماء الذين استجابوا واعلن للعالم ان هذه المكتبة سوف تكون نواة لاعادة احياء مكتبة الاسكندرية القديمة، الأمر الذي أثار حماس الكثيرين في مصر والعالم. وكان من بين العلماء الذين ساهموا في المكتبة “كريمر” الذي اهدى كتاب “طبوغرافية دمشق” المطبوع في فيينا عام 1855 وكذلك كتاب “المساهمات في شمال سوريا” المطبوع في فيينا عام 1852 واهدى لينا دي بلفون الى مكتبة المجمع ذاكرة بحيرة قارون. واهتم علماء المجمع في السنوات الاولى بعلم المصريات والاثار المصرية ثم قضية المناخ والبيئة في مصر والحالة الصحية والامراض المتوطنة في بعض المدن المصرية كما شغل المجمع بقضية تعداد السكان في مصر، صحيح انه منذ ايام محمد علي كانت قضية التعداد تقوم بها الحكومة إلا انه تبين للعلماء عدم دقة التعداد الرسمي، لان الاهالي لم يكونوا يفرقون بين مندوب التعداد ومندوب الضرائب لذا كانوا كثيرا ما يخفون البيانات الحقيقية. وفي عام 1875 تعرض المجمع لأزمة مالية طاحنة بسبب الازمة المالية التي كانت تعانيها مصر في نهاية حكم اسماعيل باشا وظلت هذه الازمة حتى عام 1880 حتى تمكن العالم أوجست دجرز نائب رئيس المجمع من اقناع المراقب المالي الانجليزي أوكلاند كالفن بمضاعفة المبلغ المالي المقرر للمجمع، ومنذ عام 1880 بدأ التفكير في نقل المجمع العلمي الى القاهرة لان العاصمة شهدت تطورا ثقافيا كبيرا من حيث انشاء الجمعيات العلمية بها والمطابع والمكتبات والصحف، فضلا عن العديد من المدارس العليا مثل مدرسة دار العلوم وكذلك انشاء “دار الكتب المصرية”. وبات نقل المجمع ضرورة لكن احداث الثورة العرابية والاحتلال الانجليزي لمصر عطل ذلك المشروع حتى بدأ النقل زمن الملك فؤاد، حين كان سلطانا، ونقل الى موقعه الحالي في المبنى المقابل لمقر الجامعة الاميركية بالقاهرة وكان من قبل مقرا للجامعة المصرية عند افتتاحها عام 1908 اي ان المجمع انتقل كي يكون مقابلا للجامعة. وانتقلت الجامعة حالياً إلى القاهرة الجديدة وبقي هو في موقعه الى اليوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©