الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنت وأنا الرحى والطحين

أنت وأنا الرحى والطحين
9 فبراير 2012
كنت على الرحى تسحقين التعب، وتغسلين الطحين بالعرق، وتعجنين اللظى بالتشظي، وتحرقين الهوى بالأناشيد النبيلة.. على يدك نامت حبّة قمح، واستتب الدقيق عند أطراف الأنامل، وكانت المسافة ما بين الدمعة واللمعة، أفصح من تضاريس الأرض، أوضح من شعاب ووديان، أشرح من سيقان الغاف المتكئة على زند الجبل، أفدح من أخاديد وصنوف الجريد المتهاوي عند قارعة الأزمنة القديمة.. كنت تحدبين، وتخرفين العذوق النيئة وتلقين بالشهقة عند حياض النخل وتمضي مبتهلة، مرتلة أغنيات الصيف بوداعة الناعسات، بورع الكواكب الكحيلات، هيفاء كنت كغصن اللوز، تستدرجين هديل الحمام بشهامة لابسات الثوب المنقط بخوص النعيم المرقط نبش الحياة الأبدي.. كنت تأتين من “الحديبة” وعلى الرأس رمق الحياة يودع قطراته على الجبين اللجين، ويبلل الشفتين، فتبتسم الأرض، والتراب المهذي يتوسم حشمة وقيمة وثيمة وقامة واستقامة، وقوامه وقيامة الذين تتلون أحلامهم بالفرح كلما نزَّ ريق المزن بالرضاب.. كنت تجلدين العيون، بنظرة فابتسامة وأنت تطوين سجل الأيام بخطوات مباركة يحدوها الأمل، بأن يعيش الصغار بلا شظف أو مداهم مستخف أو شيء من الأسف.. كنت وبالثوب الفضفاض تهفهفين على النار فيشتعل النهار مستيقظاً على جمر وأمر وصبر الراهبات المتألقات بزينة القيم، وزخرفة الشيم، وزهو النفوس والشكيمة العالية.. كنت تخضبين ضرع الأيام، فيتساقط ما درَّ من أحشاء البهيمة الحليمة فيكرع الصغار يهرعون إلى الأزقة وفي بيوت الجارات منتشين منتعشين رائعين كزهرات البرسيم وقت الطلع، وعندما تلامس ضلع الأرض بشغف الانتماء ولهف الاحتواء.. كنت السيدة الوقور، كليمة التراب الأصيل بنت المكان المبجل، بشرف الأتقياء وتلف الانقياء، صوفيون أولئك الذين سكنوا محاريب التلاقي والتساقي كانوا تواقين لأجل إخضرار عودك، ومجيء الساعة التي ينبت فيها العشب، ويزهر الزرع، ويخضر الحقل، وتمضين أنت في الريعان، رافلة بالعنفوان، وفي الخصلات يستقر البخور وخضاب الحلم.. كنت حورية تطل من كثبان، ووديان محملة بأشجان البقاء والدفاع عن الوجود بصرامة الأوفياء، وشهامة النجباء وكلما اشتد وطيس شمس، كلما حمى دمك واشتعلت شجاعة فانفتحت أسارير الصحراء ملبية النداء الوجودي مستبسلة لأجلك ولأجل من ينتظرون عودتك الحميدة.. تاريخ التاريخ كنت من تاريخ التاريخ، من قبل التقنيات تجيئين بحطب الحياة وتخشبين الغاف والسمر، والأشخر، ثم تعودين فرحة بالهطول تعودين بابتسامة ألمع من إشراقة الشمس، أسطع من لألأة النجوم، تعودين بأحمال وأثقال حتى قالت الأرض يوماً “يا حامل الأثقال خففها شوي” “ذا حمل ما ينشال”.. وكنت تسخرين وتضحكين، وتمضين بلا مبالاة وعلى رأسك، يلتئم شمل وحمل وجمل ينثرها وجدان إنسان قدره أن يعشق الصحراء وسمته أن يكتب على الصفحة الأولى أن السماء لا تمطر ذهباً وإنما الإنسان، وبالأخص المرأة، عندما يكون ليد رحاها عزف المواويل، ونزف الهادلات عند القمم الشم، ورجف المتلفات ساعة الرحيل الطويل.. كنت وكنت وكنت الرقم الأصعب في أحداث التاريخ وكنت العنوان الأعرض في مجريات السنين، وكنت النسق المتناسق مع الكينونة والصيرورة، وكنت اللحظة المتعافية من شوائب وخرائب، وكنت الومضة القابضة على حلقات العمر، وكنت الحظ والحض المتسابق مع السابق واللاحق، وكنت الطرْف والطرَف، وكنت ناقل الأحوال ضلع مقيم مستقيم، لا يعوج مهما اشتدت ريح ومهما عصى جرح وكنت الكائن المتكون من جملة كائنات ما شابها شائه ولا وصمتها علة التسويق.. كنت الجذل والعذل والجزء والكل، والبعض والأصل، كنت ولا مبالغة التضاريس التي لا تهرق الماء ولا تغرق باليم، بل كنت رصانة السماء ورزانة الأرض، وأمانة القيم ومكانة المقام.. كنت كسائر الخالدات في الدنى وعبر التاريخ الجملة الفعلية والخبر المرفوع.. أنت وحدك التي أخذت بزمام المبادرة، حين شح التراب وعزفت الأرض عن الإنجاب، فأخذت صرة الحياة، وحملتيها فوق الرأس، وجبت الأزقة بحثاً عن يد تلتقط ثمار التعب، وأنت وحدك التي مددت للهوى يداً، وأسرجت وريداً، ونسجت من الجريد سياجاً لعريش وخيمة، دفأت الصغار وحفظ ود المرحلة بابتسامة وسنبلة، وأيقظت شجون الأرض بنعال الدأب والحدب مهما كان للخطب من صهد ورعد سرت بخفى وانتعلت أشواقك ومنحت أحداقك فرصة اللوعة باتجاه أحلام وأيام وآلام، وخصام ووئام، وإضرام وانسجام، كنت وحدك سيدة الملكوت والكون المؤزر بنجوم طالعات، ومزن تمتلك الفراغ ولا تمطر، لكنك كنت الشرارة التي تخضب وتخصب، وترطب، وتهذب وتشذب وتقطب أحياناً ثم تسكب الرحيق في الثنايا والنوايا وتحفر المزايا في الدروب، حتى صارت الفسيفساء لون القضاء والمنمنمات زخرفة الأرض.. أنت وحدك راهنت على البقاء بقوة الإرادة، فانتصرت وصفق المدى مبتهلاً، مجلجلاً منشداً باسمك مطلقاً أغنيات الصيف الجميل “القيض ما طول زمانه شهرين والغالي مشوبه”.. شهامة التراب مشيت.. مشيت بخيلاء البدويات وشهامة التراب الصلب مشيت بعنفوان العاشقات ونجابة النخلة النبيلة، غسلت الطرف وحذفت من الحواشي بقايا طين مبلل بالكد، طهوت الندى والعرق، بحرقة وأرق، وغنيت مع الحمام ولوحت لعصفورة تائهة لعلها تحل وتطل من بعيد على نزف وعزف، لعلك تطردين الأسى بجناحين شفيفين وتمنحين القلب فسحة الأمل.. أنت وحدك طاردت الشعوذة بحرز الإرادة، قاومت ولا ساومت، حين حلقت فوق رأسك طيور الأبابيل، وسورتك أغلال وأهوال وخرجت من أدغال الذكورة سالمة معافاة لأنك تحزمت بالأمل وعزمت على التحليق بأجنحة القوة الكامنة تعرفت جيداً على داخلك حتى انفجرت أسارير وقوارير ساورت الغائص والغامض فتماهت الأرض بك، فانجبت نخلة ونحلة وفتحت مقلة وسنبلة ولأنك بنت التراب وأم الترائب، ما داهمك طقس ولا باغتك نحس، بل كنت الوجيهة المبجلة والنجمة المجلجلة، والنعمة المزلزلة، والهواء الشمالي، الرابض عند الشغاف المتهجي حروف النوى متعرفاً على تفاصيل ومواويل. وحدك كنت في الخيمة المتكئة على خاصر القديم، المسترخية عند شفة الأديم، كنت تخيطين جلباب الصيف بشفافية الحلم، ومن سم الخياط تخرج أنفاسك الساخنة ومعها رضاب المساءات المتأخرة، حين يحتد وطيس العتمة ويشتد نعيم الجزل، ويمتد شعاع النور ليلامس سقف الخيمة أو ركناً في زاوية معتمة فتنهضين، منتشية للطلوع النبيل، متغشية كأنك الصباحات الندية، متوائمة كأنك ورقة لوز بللها عزف التغاريد الشجية.. كنت وحدك تقارعين رهط القيظ بمهفة ورفرفة وعلى أثرها تكرعين قطرات العرق، المنسحبة عند الشفتين.. كنت وحدك المسافة اليانعة ما بين الماء واليابسة، وحبل وصلك شهيق يغرق الكون بالبلبلة، ويصفد أطراف الأرض، ويهدي الرجل مأمناً ومكمناً، ومحسنات بديعية يحتاجها حين تصحو اللواعج، وتنمو في العروق التلاوات القديمة، وتتوازى اللحظة باللحظة والومضة بالغمضة، والرمضاء بحميم الجسد. كنت وحدك تعقصين الجدائل وتحمسين الجداول، وتتوسدين مناهل الهوى لعل وعسى، يعود الماء إلى مده، ويخضر عشب الأرض، وتكتسي الوديان الناشفة بكل ما يفع ونفع وبلغ مبلغ العطاء الجزيل، ثم تعودين ثانية وثالثة وأكثر، ضارعة متوهجة تتألق عيناك ببريق البحار المتهدجة تتعملق قامتك بيفوع الأشجار الطالعة، تتعمق صلتك بالأرض ورائحة إنسان رسم على قارعة الطريق لوحة تشكيلية لوَّن أحشاءها بالقاني والأماني وطوَّق أطرافها ببياض أجنحة النورس العريق.. وحدك تشاطرين السدرة المعقودة في كل مكان هم البقاء وسر النقاء وكل الاحتواء وبعض الارتواء وتشتاقين دوماً للأنوثة الشرسة تشتاقين لجذع السدرة ونبق اللذة المتوارية وتشهيات الأمل البعيد، وما تكسر من أواني الليل البهيم، وما تخثر من دماء ساعة الصغر، يوم عفى الله عما سلف، ونمت نومة أهل الكهف، وتخليت عن مسؤولية الأحلام العظيمة واكتفيت باللحظة الراهنة تبحلقين في وجه الغريبة البائسة، بجبروت كسول ملول، يحتسى كبرياءه من فراغات مراحل ما بعد العدم.. والآن وبعد حلم طويل الحلقات أيقنت أنك تملحين البحر وتحصدين الفراغ، وتكتبين على سطر وتتخلين عن سطر، وتمضين في التيه بلا جدوى..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©