الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مرايا الناس والأمكنة

مرايا الناس والأمكنة
9 فبراير 2012
يمثّل المعرض السنوي العام لدورته الثلاثين الذي تقيمه جمعية الامارات للفنون التشكيلية للسنة الثلاثين على التوالي محطة بارزة في المنجز التشكيلي الاماراتي مثلما يمثل محطة بارزة في مسيرة الجمعية التي ارتبطت منذ ولادتها بهذا المعرض. وتاريخيا، لطالما عبّر المعرض السنوي العام عن الكثير من الاتجاهات والأساليب الفنية السائدة في الفن التشكيلي الاماراتي والتي توجه حركته بهذا الاتجاه أو ذاك. جهاد هديب إنه المرآة الأكثر سعة التي تعكس واقع التشكيل الاماراتي وأسئلته الخاصة، إذ رغم إرسائه للبعض من تقاليد غائبة عن الساحة التشكيلية لجهة صلتها بالمجتمع مثل فكرة المعرض والذهاب إليه دون دعوة خاصة من قبل الجمهور ومرورا بفكرة الاقتناء وتداول الكلام، سواء أكان نقديا أم لا، حول عمل ما أو معرض لفنان بحيث يمثل ذلك حدثا ثقافيا، وليس انتهاء بفكرة ان يكون هناك اهتمام إعلامي على مستوى الصحف المقروءة بما يجري عرضه، ومن ثم إصدار كتب متخصصة بالفن التشكيلي والتنظير الفكري النقدي له بممارسة نقدية من قبل متخصصين أو أقلها متابعين من طراز جيد لهذا الحراك.. هذا كله أفضى في آخر الأمر إلى أن يحتل المعرض السنوي العام للجمعية موقعا مميزا في الذاكرة التشكيلية الاماراتية كما في ذاكرة الفنانين شخصيا. إن المؤثرات التي هبّت رياحها على الفن التشكيلي الاماراتي ليست مختلفة كثيرا عن تلك التي هبّت على سواها من الحركات التشكيلية في البلاد العربية رغم تأخرها بعض الشيء، ورغم أن أسئلة قد تفجرت في جوار قريب من الامارات، كالبحرين مثلا لا حصرا، كانت سابقة على انفجارها هنا إلا أن أصداءها بالتأكيد كانت قد سُمعت وتحديدا في البدايات، أي خلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي عندما كانت الحركة التشكيلية الاماراتية تنجم عن سطح الأرض وقد تلوّنت بمختلف ألوان الطيف التشكيلي السائد آنذاك. لقد استطاعت الحركة التشكيلية الاماراتية أن تشق طريقها بسرعة وتكثيف جعلها حركة موازية تقريبا في سيرورتها التاريخية لما يجري في البلدان العربية الأخرى. وربما أن حضور الفنان التشكيلي العربي، زائرا أو مقيما لسنة أو أكثر، قد ترك تأثيره على الحراك التشكيلي الاماراتي، بما جلبه عمله التشكيلي من أداء على مستوى معالجة السطح التصويري أسلوبيا وتقنيا، وينطبق الأمر ذاته في مرحلة لاحقة على الفنانين الأجانب، غير أن الاستجابة لهذا المؤثر أو ذاك تظل نسبية تماما لارتباطها على نحو ما بالاستعداد الفردي لدى الفنان الذي يحدد مساحة هذا التأثر وكذلك الجهد الشخصي ومدى المقدرة على تقبّل الأفكار الجديدة والسعي إلى استدخالها لبنية ثقافية فردية عميقة بحيث يظهر هذا الأثر وقد تفكك إلى عناصره الأولية التي تجد تجلياتها في العمل التشكيلي على هذا النحو أو ذاك. في أية حال يبقى القلق الشخصي وسعي الفنان إلى المعرفة، لا سعي المعرفة إلى الفنان، هي التي تركت الأثر الحقيقي في عدد من التجارب المهمة إماراتيا والملحوظة عربيا مثل حسن شريف وعارف الريس ونجاة مكي وعبد الرحيم سالم ومحمد أحمد ابراهيم وسواهم من الفنانين الذين تثير أعمالهم الجدل حولها. ولعل غياب حضور مرجعية ريادية لهؤلاء الفنانين الذين تميزوا بما تميزوا به من أعمال فنية هو الأساس الذي أتاح أمامهم الفرصة في الذهاب عميقا نحو التجريب واختبار المادة وطاقاتها التعبيرية وأفق الاستجابة الذي قد تخلقه لدى الجمهور. وبهذا المعنى فإن الفنان الاماراتي الذي بدأت تجربته الفنية تؤتي أُكلها بدءا من الثمانينات هو أوفر حظا من قرينه العربي الذي “تكبله” مرجعيات ريادية فنية يشكل “اللعب” معها أو كسر رسوخها أو تجاوز إشكالياتها منطقة تثير الخوف بحيث يبقى التجريب نسبيا إلى حد أن يمكن وصفه بأنه تجريب غير ناجز أو مكتمل. في هذا السياق، وعلى نحو ملحوظ، فقد أسس رواد الحركة التشكيلية في الامارات للفنان الاماراتي أن يتجاوز نفسه دائما ويُبقي صنيعه الفني مطرح جدل خاص بين الفنان وذاته وأن يعطيه أي منجز المقدرة على التجريب دائما والانقلاب على الذات بين حين وآخر. لذلك، على الأغلب، ليس من السهل على أي متابع أن يتفهم ابتعاد فنان إماراتي عن عمل تركيبي يستفيد من عناصر التقنية الحديثة في إنتاج العمل التشكيلي أنجزه خلال مرحلة سابقة إلى عمل تشكيلي ينتمي إلى واقعية تعبيرية محمول على لوحة توضع على جدار ويمكن اقتناها ببساطة في بيت أو متحف أو مؤسسة. هذه الانتقالات التي قد تجعل من العسير ملاحقة الحركة التشكيلية الاماراتية بأدوات التأريخ الفني المعهودة وطرائقه بل تحتاج إلى تفهُّم خاص يأتي من طبيعة فهم سياق تطور أو تحوّل كل تجربة على حدا، أي أن تكون هناك مؤسسة ترعى أي جهد نقدي يهدف إلى متابعة تجربة فنية في سياق اكتمالها. طبعا، يعني ذلك أن هناك عددا من التجارب التي ما تزال في طور استكمال عناصرها الخاصة بها كي تنضج بحيث يصبح ما يقوم بإنجازه صاحب هذه التجربة من أعمال فنية لا اختلاف حول شرطها الفني إنما حول ما يحيط بها من شروط موضوعية وذاتية ومقدرة لدى التلقي بذائقته السائدة على تقبّل الجديد منها والتعامل معه. إنما من بين ما يفضي إليه أي مسعى للتأمل في الحركة التشكيلية الاماراتية، فضلا عن النزعة إلى التجريب والتي هي نزعة تأسيسية، أن ما قد يجدي نفعا في مقاربتها بالقياس إلى التجارب التشكيلية العربية الأخرى نظرا لاحتشادها بأسماء وأساليب فنية ومحاولات للخروج على التصنيف الأكاديمي المسبق كلها تجعل من الصعب النظر إليها وفقا لتحقيب تارخي كرونولوجي كما هي الحال عربيا مع نشأة المدارس والجامعات الأكاديمية وحضور الاستشراق ودوره في “بعث” الفنون التشكيلية العربية من رقادها وما إلى ذلك مما تطول القائمة في ذكره. هنا، ربما أثّر أمران: الأول عام ويتصل ببنية الدولة التي تأخر نشوؤها عن سواها من الدول العربية وبالتالي لم تتأثر الحركة التشكيلية بما هو غير عربي إلى حدّ بعيد في بداياتها لكن التأثيرات الغربية انتقلت إليها من اللوحة العربية ما أفسح مجالا أمام الفنانين لتقديم اقتراحات واجتهادات خاصة بكل واحد منهم. أما الأمر الأخير فهو الفنان التشكيلي الاماراتي بأصفى صور تميزه التشكيلي الفردي والخاص وصنيعه الابداعي النابع من داخله مهما اختلفت مصادره الفنية والمؤثرات التي تركت أسئلة ظلت تتردد أصداؤها في اللوحة مثلما في وعي الفنان. أي أن الجهد الفردي الذي انطلق بناء على تضافر من الفضول المعرفي لدى الفنان وما هو متوفر من بنية تحتية توفر للفنان مستلزمات حراكه الفني وتضمن لهذا الفن أن يمارس دوره اجتماعيا ويظهر على الملأ، أي الجمعية، قد أسس منذ البدايات لاجتهادات مختلفة اقترحها الفنان التشكيلي الاماراتي عبر السنوات الثلاثين السابقة. إنما “الآن، وهنا” وبدءا من هذه اللحظة أين تقف الحركة التشكيلية الاماراتية بحسب هذا المعرض؟ واقع الحال، أن المقاربة ها هنا تبدو صعبة، وما تشير إليه أعمال الفنانين الاماراتيين في المعرض وهي الأكثر تواجدا إلى أن ما هو ملحّ لدى الفنان التشكيلي الاماراتي هو الاتصال مع ما يتم تقديمه على مستوى الفنون التشكيلية عالميا، كما لو أن هناك دافعا يحرك الفنانين الاماراتيين بهذا الاتجاه بسبب تنوع مصادر إلهامهم الشخصي وإطلالاتهم على مجريات الفن العالمي سواء ما يصل منه إلى صالات العرض المحلية في العاصمة ودبي أو ما يتسنى للفنانين الاطلاع عليه وفقا لما هو متاح من منحات خاصة أو ورش عمل مشتركة هنا أو في الغرب وكل ما من شأنه أن يفسح للفنان مجالا يشعر من خلاله بالتفرد. وهنا يمكن الاشارة إلى سطوة الصورة الفوتوغرافية بمختلف مدارسها، وتعدد معالجة السطح التصويري الذي يستخدم هذه الصورة، فلكل فنان قام بمقاربة ما من هذا النوع تجد لديه استخداما مختلفا للصورة الفوتوغرافية قد يمكن استيعابه من وجهة نظر ذائقة التلقي وربما لا. وبالنسبة لكاتب هذه السطور فإن لصور جاسم ربيع وطريقة معالجة الصورة والتعامل معها تشكيليا هي الأقرب إلى المشاعر والأحاسيس الفردية. صنيع هذا الفنان لا يتجاوز مجرد التقاط الصورة من زاوية مختلفة وبحساسية مختلفة بدورها وعلى نحو شديد الواقعية لكن المعالجة البسيطة التي تظهر دلالات أخرى وتجربة أخرى في التعايش مع المكان هي التي تجعل هذه الصور أقرب إلى النفس. بعد الفراغ من حضور الصورة على السطح المعدني الرقيق والقبل للطيّ “جَعْلَكَ” أو “طَعَجَ” السطح المعدني أو هرسه بين يديه، لا أدري ما هي العبارة الصحيحة بالفصحى والقادرة على التعبير، بحيث بدت الصور وكأنها قد خرجت من ذاكرة ما هي ذاكرة قديمة يشعر المرء معها أمام المشهد أن هذه الذاكرة تخصه أيضا. وفيما يتصل باللوحة التشكيلية فإن الدخول إلى جناح الفنان عبد الرحيم سالم هو دخول إلى “محراب” بالأبيض والأسود، فهذا الرجل لديه مقدرة على الإدهاش مثيرة حقا، بل وربما كامنة في حاجة المتلقي إلى تكرار أكثر من تجربة جمالية مع هذه الأعمال التي هي تجريدية تماما بلا أي رموز وغير مانحة لأي معنى لكن فيها المعنى الذي تبحث عنه أنت كمتلق لهذه الأعمال. وهذه الأعمال لا تستدر الكلام عليها بل التأمل والصمت. جاسم العوضي وعبد الرحيم سالم تجربتان فيهما قدر كبير من الاختلاف والتميز، غير أن الأعمال التركيبية أو أعمال الفنانين العرب أو حتى طلبة أقسام الفنون في الجامعات الاماراتية التي حضرت فيها الصورة الفوتوغرافية على نحو لافت وربما غير منطقي لفنان يبدأ الممارسة التشكيلية تحتاج كل منها إلى وقفة خاصة، تستعرض الصنيع الفني وموقعه ولا تسعى إلى أن تقيّمه أو تطلق حكما عليه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©