السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثورة قبر

5 يناير 2012
تحذير هذه القصة ضارة بالعشاق مع الضربة الأولى من الرجل البدين صاح القبر: أرحموني ياناس.. ما هذه القساوة؟ يكفي أني تحملتكم كثيرا، وتحملت نتانة تحللكم وتحولكم لدود صديدي يعبث بصدري وينهش جلدي ألا يكفي هذا... مالي أرى اندهاشكم؟ نعم أنا قبر وأبي قبر وكذلك جدي، فنحن أيضا لنا انساب نفاخر بها...ألا تصدقون؟ اذا دعوني أتكلم واروي لكم المسكوت عنه كما تقولون.. انصتوا: وجدت هنا قبل القرية التي تسكنون وكنت وحيداً حين جاء أجدادكم يبحثون عن مأوى فرأوني وصاح شاعرهم: وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر ففرحت بهم فأنا احب الشعراء، وأفسحت لهم واستوطنوا بقربي. أخيراً وجدت من أخالطه.. قلت لنفسي .. ما بالي أرى تململكم انتظروا لتسمعوا ما أريد قصه ولا تقولوا نحن نقص انتن القصص. إنها نتانتكم هل تهربون منها؟ وما أرويه لن تجدوه إلا مني. سأختصر: فبعد أسبوع من إنشاء القرية سمعت نواحا وعويلاً، ففرحت.. نعم فرحت وتزينت تهيأت لاستقبال الضيف. وجرت الأسئلة بداخلي عن كنهه رجل هو أم امرأة؟ شاب أم شابة فأتممتها بقولي هؤلاء البؤساء طيبون. أري تسائلكم من أين لي المعرفة؟ انتم أغبياء كما كان يقول جدي وهو يحدثني عنكم .. أللقبور أجداد؟ - نعم.. ولا تكثروا من الحديث بل استمعوا...منذ وجودي لم أتحدث لأحد وهذه فرصتي ولن أدعها تفلت كما يفعل السياسيون منكم...تقولون إن لديكم جثة تريدون دفنها قبل أن... قولوها أن تتحلل. حسنا هل الدفن يؤخره؟ أم تريدون الهروب من نتانتها؟ لا بأس، سأختصر. بعد ساعة جاء أهل القرية ونبشوا أمعائي وأخرجوها.. ورغم الآلم كنت سعيدا وحين وضعت بداخلي انتابني إحساس طاغ بالفرح وأخذت أضمها واقبلها ولكن بعد يومين لم استطع النوم فأخبرت جيراني فماتوا من الضحك... لم أحدثكم عن الجثة...صبرا.. كانت لشاب غض عرفت ذلك من تحلله السريع وتلك الفتاة التي تزوره مع صديقه. زاراه في اليوم الثاني لسكونه جوفي وكان حينها قد تحلل .. كانت تبكي بحرقة صادقة. الصديق حزين فعلاً رغم استراقة النظرات الفاجرة وتربيتة على كتفها معلنا تعزيته ومخفيا شهوته. وفي الزيارة التي استغرقت ساعة ذرفت فيها الدموع والصديق ملتصقا بها ويهمس: لا تبكي يا... كاد يقول حبيبتي ...لا أطيل عليكم قبل إن تنتهي الزيارة قبلها قبلة ارتجف لها الدود بداخلي – هنا تلفت القبر متبسماً: ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون مع أني لم أتحدث كثيرا فقد حملت اكثر من مائة جثة لتجار وعمال ونسوة شريفات وعاهرات وبنات لا عاهرات لا شريفات... كيف لي معرفة ذلك؟ نعم ... نعم سؤال جميل.. لكل جثة دودها فالتجار مثلاً اسرع تحللاً. دودهم اكثر بياضاً ويتركون دهنا على جداري لا يزول عكس العمال.. ماذا قلتم؟ هل تريدون إن أحدثكم عن واحد .. اذن اختاروا . ارتفع الضجيج تاجر تاجر، عامل عامل، شابة شابة، صاح القبر فيهم اسكتوا لا تختلفوا خذوا الحكمة منا، نحن لا تختلف.. سأحدثكم عن آخر من زراني من قريتكم هذه كان هذا قبل سنوات سبع كنت قد نيست النتانات السابقة فالقبر كأنثى البشر تنسى ألم المخاض وتتجمل لبعلها وفي ذلك اليوم خرجت القرية برجالها ونسائها كغير العادة تحمل جسدا تتجه نحوي، سمعت دبيب الأرجل فهاج شوقي، انتفخت بطني بالرغم من أن جاري قال إن المتوفي مثقف. وضعت الجثة بداخلي وانصرف الناس.. وقبل أن يتلاشى الضجيج شعرت بنار في جوفي والنتانة تملأ المسام وتكتم الأنفاس.. آه ما اقبح أن تحمل بداخلك مثقفاً.. استنجدت بجاري وجاره وجارهما فاجتمعوا على طردي لكن النتانة حمتني؛ فوضعوا أصابعهم على أنوفهم فأصبحت وحيداً. اتحمل. أصدقكم القول كلما تذكرتها يقشعر البدن ومن بعدها آليت على نفسي أن لا أحمل مثقفاً. مالي أرى أيديكم على رؤوسكم.. آه ماذا قلتم مثقف نقي؟، ها ها أين وجدتموه؟ هيهات .هيهات. - قولوا لصاحبكم لا يتعب نفسه لن أحضن هذه الجثة. ضحك الرجل البدين ورفع الفأس وضرب وضرب فما ارتدت!!... لـوحة بكل الفرح الذي وهبته اياه دخل الغرفة، هذه هي المرة الأولى التي لم يهتم برائحتها النتنة ولا لأشيائها التي خاصمت الترتيب أو أرضيتها القذرة - آسف - قذارتها التي اضحت أرضية. هذا الفرح الذي غسل من داخله اسبوعاً من الحزن، جلس على المسمى سرير. أحضر ادواته وبدء يرسم في وجه فتاة تختزنها الذاكرة ويحلم بها صغار الشعراء لوحة عصر فيها ذلك الفرح ولكن ما أزعجه وجعل أوصاله ترتجف ما رآه عليها.. حدق ثم حدق كانت صورة الفتاة تزداد حزنا وتقطب جبينها بل الأدهش أنها مدت يدها ووضعتها على أنفها وكاد يسمع تأففها. تعجب لهذا وانهمرت بداخله الاسئلة. قال لنفسه: انها تتأفف من قذارة الغرفة، امسك بالمكنسة ونظفها، ونظر للوحة مازال التأفف مستمراً.. تلفت يميناً ويساراً وهمس لنفسه: انها رائحة الحذاء لابد، قذف به بعيداً خارج الغرفة، وما زال التأفف مستمراً.. مد انفه ليشم، مدَّه.. مدَّه فلم يشتم إلا رائحة ابطيه، فكاد يصيح “وجدتها وجدتها”. ذهب للحمام يغتسل وظل التأفف مستمراً. صاح باللوحة وهم بتمزيقها وقذفها خارجاً لكن كتلة من “التفاف” بصقتها اللوحة في وجهه شاب لها رأسه وسقط قلبه بين رجليه وانفجرت فيه: قذر! قم، اغسل الروح إن هذه النتانة منها .. أتذكر أكثر من مائة مرة رسمتني حزينة حتى ادمنته الآن تريدني أن ابتسم لك هيهات. في صبيحة الغد رأى الناس فناناً تشكيلاً مشهوراً يلج مرسماً يعج باللوحات يمزق فيها بتشنج ثور رأى زميله يذبح أمامه ويهتف.. إنها حرام حرام حرام .. * كاتب سوداني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©