الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مفهوم الثقافة قراءة فلسفية (2)

22 مارس 2008 02:27
إن ثمرة الثقافة لا تُنال في طريقة البناء التقني، وإنما تنشأ من عملية تكوين وتثقيف داخلية؛ وذلك يبقى دائماً في حالة من الثقافة المطردة· وليس من قبيل المصادفة أن كلمة ثقافة تُشبه، بهذا الصدد، كلمة الطبيعة phisis لدى الإغريق· فالثقافة، كالطبيعة nature ليس لها غايات خارج ذاتها· وعندما لا يكون للثقافة غايات خارج ذاتها، فإنها تتجاوز المفهوم الذي يقتصر على أنها مجرد تثقيف للمواهب؛ ذلك المفهوم الذي استُمدّتْ منه· إن تثقيف موهبة ما هو تطوير شيء ما معطى؛ ولذلك فالممارسة والتثقيف هما مجرَّد وسائل لغاية ما· وعلى ذلك، فالمضمون التعليمي لكتاب في قواعد لغة ما إنما هو ببساطة وسيلة وليس غاية في ذاته· وهو أيضاً يقوم بتطوير القدرة اللغوية للمرء· وخلافاً لذلك، تصبح الثقافة التي يتشكَّل المرء بها ومن خلالها شيئاً خاصاً به· وفي نطاق معين، يكون كل شيء نتحصَّل عليه مستنفَداً، ولكن ما هو مستنفَد في الثقافة لا يشبه وسائل فقدت وظيفتها· وحريٌّ بنا القول أن لا شيء يختفي في حالة الثقافة المكتسبة، بل كل شيء يُحفَظ· إن الثقافة فكرة تاريخية أصيلة، وهي مهمة للفهم في إطار العلوم الإنسانية بسبب من سمة ''الحفظ'' التاريخية هذه· وهكذا، تطلعنا النظرة الأولية إلى التاريخ اللغوي للثقافة على دائرة المفاهيم التاريخية التي كان هيجل أول من أماط اللثام عنها في عالم ''الفلسفة الأولى''· وفي الحقيقة، كان هيجل قد استنبط بذكاء ما تعنيه كلمة الثقافة· ونحن نتبعه في ذلك ابتداء· فقد رأى أيضاً أن فلسفة (ولعلنا نردف العلوم الإنسانية) ''تتضمّن شرط وجودها في الثقافة''· وذلك لأن وجود الروح له ارتباط أساسي بفكرة الثقافة· يتميّز الإنسان بالصراع مع الحاضر والمألوف اللذين يقتضيهما منه الجانب الثقافي والعقلاني من طبيعته،''وهو في هذا العالم ليس بطبيعته ما يجب أن يكون عليه''؛ ومن ثمّ هو بحاجة للثقافة· يعتمد ما يدعوه هيج بالطبيعة الشكلية للثقافة على كليتها· ومع مفهوم الارتقاء نحو الكلي، عرض هيجل تصورا موحدا لما كان يفهمه عصره من كلمة الثقافة Bildung· ولا يقتصر الارتقاء نحو الكليّ على الثقافة النظرية، ولا يعني فقط توجّهاً نظرياً مقابل توجّه عمليّ، بل هو يشمل الخاصية الأساسية للعقلانية الإنسانية ككلّ· إن الطبيعة الكلية للثقافة الإنسانية هي التي تنصِّب نفسها كائناً ثقافياً كلياً· وأيّاً كان الذي ينغمس في خصوصيته الجزئية فهو غير متشكِّل؛ أي ذلك الذي يتيح للغضب أن يعميَه من دون اعتدال أو إحساس بالاتساق· ولقد بيّن هيجل أساساً أن مثل هذا الإنسان تُعوزه قوة التجريد· فهو لا يستطيع أن يُداول نظرته بينه وبين شيء كليّ، الأمر الذي من خلاله يتحدد وجوده الجزئي من حيث الاعتدال والاتساق· ومن هنا، فالثقافة، في ارتقائها نحو الكلي تكون مهمة إنسانية· فهي تتطلَّب تضحية بالوجود الجزئي لصالح الكليّ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©