الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هاينر مولّر.. البرليني المقسوم

هاينر مولّر.. البرليني المقسوم
12 فبراير 2014 22:27
قبل يوم واحد من انطفاء عام 1995، فقدت ألمانيا هاينر مولّر الذي يعتبره رجال المسرح، ونقّاده «خليفة» برشت، وأحد أكبر كتّاب الفنّ الرّابع في النّصف الثاني من القرن العشرين. وقد ولد هاينر موّلر في منطقة «السّاكس» عام 1929،العام «الأسود» نفسه الذي اكتسح أوروبا، وساعد النّازييّن على التّغلغل في أوساط العاطلين، والمفلسين، وضحايا الأزمة الاقتصاديّة العالميّة. وكانت والدته تعمل في معمل لصناعة النسيج. أمّا والده فكان اشتراكيّاً. لذا تمّ اعتقاله من قبل الميليشيّات النّازيّة حالما تسلم أدولف هتلر كرسيّ الحكم عام 1933. وقد ظلّ مشهد اعتقال الأب حاضراً في ذاكرة الطّفل. وحين كبر راح يصفه، ويرويه من خلال أصوات مرعبة تشقّ اللّيل، وصوت أبيه الذي كان يناديه يائساً، ومفجوعاً. أمّا الطفل فيتصنّع النوم، ولا يجيب. لذا ظلّ الإحساس بارتكاب جريمة الخيانة مبكّرا يعذّبه، ويؤرّقه حتى النهاية. بعد أشهر، أطلق سراح الأب، فانتقل مع أسرته الصّغيرة إلى «فارن» في «ماكدوبورغ». وهناك أمضى سنوات البطالة تاركاً ابنه يلتحق بـ«الشبيبة الهتليريّة» لكي يرتكب «خيانة ثانية». كما يساعده على كتابة موضوع إنشائيّ فيه يمجّد «الأوتوسرادات» التي كان يبنيها النّازيّون من أجل مجد الرّايخ الثالث. مع ذلك، ظلّ الوالد محافظاً على قناعاته الاشتراكيّة. وفي عام 1941، تمّ إيقافه من جديد ليرسل إلى فرنسا ضمن كتيبة عسكريّة تأديبيّة. وفي عام 1944، جنّد هاينر مولّر رغم أنه لم يدرك بعد سنّ البلوغ، والتحق بالجبهة ليعيش تجربة مريرة تحت قصف طائرات الحلفاء في منطقة هامبورغ: «كانت الطائرات تمرّ فوقنا على علوّ خمسة عشر متراً. وسبب قصفها الشديد لنا، كان علينا أن نختفي في أيّ حفرة تعترضنا. تلك كانت تجربتي في الحرب. وكان ذلك كافياً بالنسبة لي». في عام 1951، غادر والد هاينر مولّر إلى غرب ألمانيا. أمّا هو، ففضّل البقاء ليعيش في ظلّ النّظام الشيوعي في ما أصبح يسمّى بـ«ألمانيا الشرقيّة». وعندما سئل في ما بعد عن سبب أختياره ذاك، أجاب قائلاً: «الضّرائب في الشرق أقلّ ثقلاً من الضّرائب في الغرب». وبعد صمت قصير، يضيف قائلاً: «هل تطلبون من فرنسيّ مثلا لماذا فضّل البقاء في فرنسا؟». وها هو في برلين الشرقيّة يعمل في الصحف بشكل منتظم، وينضمّ إلى اتحاد الكتّاب هناك، ويحاول أن يكتب.عقب وفاة برشت عام 1959، نشر مولّر نصّاً حمل عنوان «الصّليب الحديديّ»، وأصبح أحد أعضاء أسرة تحرير مجلّة «الفنّ الشّابّ». ومع زوجته آنغة كتب مسرحيّة، وحصل على جائزة هاينريش مان. وعندما انقسمت برلين إلى شطرين، منعت مسرحيّته الثانية «المهاجرة»، فتمّ طرده من اتحاد الكتّاب، وانتحرت زوجته. غير أن مولّر لم يصب بالقنوط، بل واصل العمل لكن مستنداً إلى تراث الإغريق في هذه المرّة. وما أن نبلغ السبعينيات، حتى تغزو مسرحيّاته مسارح غرب ألمانيا، والعديد من العواصم الأوروبيّة، خصوصاً باريس، وزيوريخ. وخلال عام 1971، قدّم مولّر مسرحيّة شكسبير الشهيرة «ماكبث»، غير أن الرقابة الشيوعيّة أصدرت قراراً بمنعها نظراً لنزعتها التشاؤميّة، المناقضة لـ«التّفاؤل الاشتراكي». وعندما فرّ الشاعر، والمغنيّ الشعبيّ الشهير فولف بيرمان إلى غرب ألمانيا احتجاجاً على سياسة الحزب الشيوعي، سانده مولّر غير أنه رفض مغادرة برلين الشرقيّة. ورغم المضايقات الكثيرة التي كان ضحيّتها، ظلّ يتمتّع بهامش من الحرية، فسافر إلى أميركا، وفرنسا، وسويسرا، وإلى بلدان أخرى ليحضر عروضاً لمسرحيّاته. وبعد انهيار جدار برلين عام 1989، صرّح هاينار مولّر بأنه لم يكن معادياً للاشتراكيّة، بل كان «مؤمناً بها إلى حدّ مّا». بسبب هذا التّصريح، شنّ عليه بعض المثقفين الألمان هجوماً عنيفاً متّهمين إيّاه بالعمالة لجهاز المخابرات الشيوعيّة «ستازي» خلال فترة النظام الشيوعي. غير أن مولّر لم يتأثّر بالتّهمة، وظلّ يشرب الويسكي، ويدخّن السيجار الكوبي الفاخر غير عابئ بالعاصفة. وعندما ألحّ عليه أصدقاؤه طالبين منه الردّ على التّهم، اكتفى بالقول: «نعم كانت السّلطات الشيوعيّة تطلب منّي من وقت إلى آخر رأيي في هذه القضيّة، أو في تلك... وكنت أجيب عن الأسئلة رغم أنني كنت أعلم بأنني لا أتحدّث إلى ملائكة. كما كنت أعلم متى يكون الكذب مجدياً ومفيداً»...عقب وفاة مولّر، كتب أوليفييه شميدت يقول: «مولّر بلا شك كاتب كبير بالمعنى الحقيقي للكلمة. فمن خلال قراءته لقدماء الإغريق، والرومان، وأيضاً من خلال قصائده،ومسرحيّاته، وقصصه القصيرة، استطاع أن يكون خليفة شرعيّاً لكلّ من برشت، وبيكت، وجينيه في الوقت نفسه. فلقد ابتدع لغة جديدة استطاع من خلالها أن يرسم صورة للعصر، وأن يكون شاعر الجراح الإنسانيّة في النصف الثاني من القرن العشرين». وكان مولّر قد قال ذات يوم: «في ألمانيا كلّ شيء يحدث إمّا قبل الأوان، أو بعد الأوان. وفي هذا المجال، تكفيني قولة ماركس: الألمان لن يكونوا أحراراً إلاّ يوم يرمون في القبر»، ولا نعرف إن كان مولّر مات قبل الأوان أو بعد الأوان، غير أن المؤكّد انه عاش حرّاً في حياته رغم العراقيل، وكتب الملحمة الألمانيّة بطريقة رائعة وفريدة من نوعها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©