الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بركة

بركة
7 مارس 2010 21:20
الأمور لا تسير معي على ما يرام على ما أعتقد.. لا بد أن هذه الخاصية المدعوة (البركة) ليست في صفي. لاحظت هذا للمرة الأولى عندما حسبت معدلات إنفاقي الشهرية.. لم أترك مليماً هنا أو هناك، وقمت بعمل جدول مفصل على جهاز الكمبيوتر.. للمزيد من الدقة قمت بحساب عدة أشهر ثم حسبت المتوسط الشهري.. في النهاية عرفت أنني أنفق مبلغاً فلكياً أصابني باكتئاب شديد. المشكلة أنني لا أجد مليماً يمكن الاستغناء عنه أو يدخل تحت بند التبذير.. كل مليم مهم، وفي موضعه بالضبط.. أمضي الكثير من الأمسيات مع صديقي هذا في كافتيريا في الهواء الطلق، حيث يدخن النارجيلة كل ليلة تقريباً.. لما حدثته عن معدلات إنفاقي الشهرية قال في ذهول: ـ «لا بد أنك أخطأت الحساب أو أنت مخبول.. بيتي لا ينفق أكثر من ألف جنيه شهرياً!». عدت أستوثق من الرقم.. هل أنت متأكد؟.. مع الغلاء الحالي لم يعد هذا المبلغ كافياً لشراء علب ثقاب. وماذا عن مصاريف المدارس والدواء؟ عاد يكرر في ثقة وهو ينفث الدخان: ـ «ألف»..! ـ «وماذا عن النارجيلة اليومية وجلسة الكافتيريا ووقود السيارة»؟ ـ»ألف»! هكذا اقتنعت أن هناك أناساً يتمتعون بخاصية البركة.. هؤلاء يمكن أن يتناولوا الغداء في مطعم (ماكسيم) بباريس والعشاء في فندق (أستوريا) بنيويورك يومياً وبرغم هذا لا ينفقون أكثر من بضع جنيهات. صديقي هذا يتمتع بالبركة بشدة.. خالتي أيضاً تتمتع بخاصية البركة، فقد كنت أحكي لها كيف أن علبة مسحوق تنظيف الثياب من زنة ثلاثة كيلوجرامات لا تعيش عندي أكثر من أسبوع، فقالت في دهشة: ـ «لا بد أن زوجتك لا تجيد الحساب.. هذه العلبة تعيش عندي ستة أشهر..! وبشرط.. هو أنني أغسل يومياً!» ستة أشهر من الغسيل اليومي؟.. نحن لا نتحدث عن علبة مسحوق غسيل إذن، بل عن شيء قادم من عوالم الأساطير.. مثل البئر التي لا تفرغ أبداً.. هكذا أصابني الاكتئاب، وعرفت أن كل الناس أخيار شديدو الطهر، ينعمون بالبركة، وأنا الوغد الوحيد الذي كتب عليه أن ينفد ماله ويفلس.. زرت صديقي في بيته لأبكي قليلاً عنده، وأصارحه بهواجسي.. أجلسني في مكتبه إلى أن ينتهي من استبدال ثيابه، هنا وجدت ورقة صغيرة على المكتب.. بدافع الفضول ألقيت عليها نظرة، فوجدت أنها حسابات الشهر.. ألفا جنيه للطعام فقط.. خمسمائة جنيه فاتورة كهرباء.. ألف جنيه لدروس الأطفال.. خمسمائة جنيه مكالمات بالمحمول.. إلخ.. هذا الرجل ينفق أكثر مني ثلاث مرات على الأقل.. عندما عاد وجدني أنظر للورقة في ذهول.. قال مفسراً: ـ «نعم.. عندما سألتني لم أقم بحساب مكالمات المحمول ولا الطعام ولا فاتورة الكهرباء ولا الإيجار».. ـ «إذن ما الذي كنت تعنيه بألف جنيه بالضبط؟.. ثمن أعواد الخلة التي تنظف بها أسنانك»؟ هكذا فهمت.. الأمر لا يتعلق بالبركة، بل يتعلق بالغباء وعدم الدقة وولع الناس بالتظاهر بالحنكة والبراعة. عندما أطلب بيانات دقيقة فأنا أتوقع أن تكون دقيقة، لكن لا أحد يفكر بهذه الطريقة.. ازددت يقيناً عندما أخبرت زوجتي باستهلاك خالتي المثير للإعجاب لمسحوق الغسيل، فقالت ضاحكة: ـ «لأن خالتك لم تغسل بنفسها يوماً واحداً.. هناك من تأتي لتنجز لها هذه الأعمال»! هكذا شعرت براحة عميقة، بعد ما شعرت بأن لعنة إغريقية غامضة تطاردني أنا بالذات. من الممتع أن تدرك أنك لست أسوأ من الآخرين، بل يصير من حقك أن تلومهم على كل هذا التبذير الذي يعيشون فيه! د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©