الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السرد·· وقائع المجتمعات المتخيّلة

السرد·· وقائع المجتمعات المتخيّلة
20 مارس 2008 02:53
يثير عنوان رواية ''مستعمرة المياه'' لجاسم عاصي ملاحظة تمتد نحو طبقات السرد الداخلي وأعني به المجاز البلاغي الذي انطوى عليه العنوان ''مستعمرة المياه'' وكثيراً ما هيمن المجاز على السرد، بما في ذلك المجاز الثقافي، وكأن القاص يمارس عملية ترحيل من النقد التداولي الثقافي إلى السرد وسيادة المجاز في السرد والتنويع فيه، أضفى على الرواية خصائص، دفعت بالسرد من تعدديته إلى شعريته وحيازته على صفة المعتق وكأننا نقرأ نصاً أو مدونة قديمة، ومثلما عرفته المخطوطات أو المدونات الما قبل· والقاص يطوّر ممارسات تقنية، لجأ اليها قبله عدد من القصاصين العرب، ولعل جمال الغيطاني أكثرهم حضوراً، وخصوصاً في ''الزيني بركات'' و''وقائع حارة الزعفراني'' ويبدو لي أن القاص جاسم عاصي أكثر ميلاً نحو السرد المعتق في هذه الرواية فقط· واعتقد بأنه الآخر بعد القاص جهاد مجيد ظل محكوماً بالتاريخ أو السعي للتماهي معه والإيحاء بالاقتراب إليه، حتى يوهم بأن النص هو إعادة صوغ لوقائع تاريخية وأحداث وقعت، اكتشف فيها القاص جهاد تناظراً مع الواقع وأسطورته وغرائبية العلاقة بين المواطن ونماذج السلطة السائدة· لكن الوقائع التي تضمنتها دومة الجندل هي نتاج للمخيال وتطوير له· أما تجربة القاص جاسم عاصي في روايته ''مستعمرة المياه'' فهي تجربة استعانت بالسرد المعتق والحكي الذي الفته المدونات العربية القديمة وهذا النوع من السرد ينفتح أمام الشعرية وحصراً المجاز· وقد اعتنى القاص كثيراً بمجازية المكان الثقافية كما في الشويعرية القرية ذات المركز السردي الذي التمت حوله طاقات السرد الغرائبية كي يضفي على الشويعرية غرائبية ولا معقولية، مثلما جعل منها بؤرة الحلم والاستشراف الصوفي والأسطوري، كما كانت في الواقع السياسي مركزاً لفعل المقاومة وأعمال الكفاح المسلح، الشويعرية ذات الوجه المنطفئ مثل غيرها من القرى المنتشرة على حافات الاهوار ذات الجدران التي تراقصت فيها أعواد البردي كيما تزيد من متانتها ومنعتها وجبروتها المتمثلة بهذا العناق الدائم للفضاء (ص14)· القرى المماثلة للشويعرية هي التي أشعلت النار، ويلاحظ التضاد الدلالي الذي صاغه السرد، نار مشتعلة وسط أماكن مائية··· وهنا المجاز وأيضاً الثقافي، فالثورة والسطوح المائية دلالة على الضدية في الثنائيات، إلا أنها ضدية إيجابية، لكن الذي تغير هو الثورة في أنفسنا، والنار المستعرة كالموقد، والتي تفوق حدّة الوهج الضارب إلى كل الأرجاء· ويحقق السرد تطوره اللافت ويتشظى ويتماهى المعتق مع الموروث والمرويات، ويكون التوحد والتلاقي ويفوز المكان الغرائبي بإنتاجه للأسطورة والقيم المائية، ذات الجذور الأولى الممتدة عميقاً في الذاكرة والحاضنة لمخيال ممتد منذ آلاف السنين ولا يفقد المكان توهجه، بل يتضاعف ويحوز اللامعقول بوصفه معقولاً ومتداولاً في الحياة اليومية والثقافة الشعبية· ويتحول الهور مصدراً للحلم والانتظار، إنه حلم التوقع / والترقب وشفرة الآتي والمستقبلي، لدرجة أن الحلم ظل حلماً حتى بعد الوصول إلى كوت حفيظ وهذا الارتقاء الروحي والمادي في آن هو الذي جعل من أفعال الماصيص حضارية وثقافية وتتمركز في ذاكرة الأجيال، ويتبادلها أبناء الماصيص موروثة وكأنها من خاصياتها الروحية والمادية· لذا انتقل الحلم من الجد إلى الأب وبالتالي إلى الابن وحقق هذا الارتحال توارثاً إلزامياً وكأنه بعض من وقائعهم وأحلامهم في آن· وأضفى على الارتحال حركة على الحياة، حاضرها ومستقبلها، ومن غير تجاهل للماضي، بوصفه ذاكرة صانت تاريخ الاهوار وأساطيرها ومروياتها، المنتقلة جيلاً بعد جيل، حتى العلامات المميزة للعوائل والأبناء، تلك العلامات موروثة هي الأخرى وانفرد بها الماصيص عبر تاريخهم الطويل ''وضعت عصاها على الأرض، ثم رفعت يدها ولامست بكفها كتفه، ضاغطة عليه، لمست الآخر ونزعت القميص متجهة نحو الكتف الأيمن، حتى بان متكوراً أبيض كالحليب، تسللت كفها إلى سطح ظهره، وراحت تتلمسه وتمسده··· وحين سحبتها على عجالة احتضنته وأخذت تبكي وتنشج، لكنه بدا قولاً حاسماً: ـ اقترب مني أكثر يا ولدي، والله من صلب الماصيص كما قلت (ص88)· وفي علاقة السرد مع الموروث تنحرف دلالة بعض الشخوص كالجد والجدة، الأب، الأم، وتنطوي على فضاء رمزي متعدد ومتنوع، حتى يكاد الجد/ الأم يندغمان معاً ويصير الواحد منهما مركزاً للمرويات والموروثات· ومن هنا يتمثل القاص هذه الثنائية وبقوة ويوحد بين الماضي/ الجد/ الجدة وبين الموروث/ السرد المعتق والذي اقترب كثيراً من سرود الإخبار، وشاع في الرواية الغرائبي وهيمن على السرد، وذلك بسبب حركية المخيال وطاقته على التوليد الأسطوري إلى درجة توحد كل شيء بما فيها الحكايات مع الأساطير وصارت تلك الغرائبية ملمحاً لحياة الناس في مستعمرة المياه· والمياه لعبت دوراً بارزاً في تشكيل الوعي وبلورته، مثلما هي اللحظة المولدة للسرود ذات الطاقة الخارقة والمساهمة في رسم وتأطير هوية المكان هنالك، هويتهم الثقافية والروحية والماصيص مثل سمك ماء الهور وحيواناته لا يطيب لهم غير التمرغ في رغوته، وشم رائحة فواحة، لقد تداخلت فيك الأزمنة يا مردان، وولدت مرات ومرات، ما إن تخرج من محنة حتى تدخل منها على غير هيئتك، فمن ذا الذي سيخرجك من محنتك هذه الآن···؟ (ص90)·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©