الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علي أبو شادي.. «الموظف» المبدع

علي أبو شادي.. «الموظف» المبدع
21 فبراير 2018 20:21
بوفاة الناقد السينمائي والمثقف المصري الكبير علي أبو شادي (1946 – 2018)، يمكن القول إن جيلاً «ثقافياً» بأكمله قد ودع الحياة ولم يبق منه إلا آثاره وأعماله الكبار.. جيلاً لعب أدواراً غاية في الأهمية؛ وارتبطت جذوره ونشأته بسنوات تحوّل كبرى منتصف القرن الماضي؛ تفتح وعيه وتشكلت ثقافته في سنوات المد الناصري، وانكسرت آماله وتبددت أحلامه مع الهزيمة؛ ثم صارت المرارة الكبرى التي لازمت إنتاج هذا الجيل؛ في الأدب والنقد والسينما، وكل مجالات الإبداع الفكري والثقافي، إلى آخر لحظة في أعمارهم. تجربة علي أبو شادي الإنسانية والمهنية والثقافية أكبر من أن يُحاط بها في موضوع أو اثنين؛ أو كتاب أو أكثر؛ كان الرجل رحمه الله من الهمة والنشاط والدأب ما جعله طيلة خمسة عقود متصلة في بؤرة النشاط الثقافي المصري والعربي؛ وفي قلب المشهد مثقفاً وإدارياً ومسؤولاً رفيعاً، إنْ بإسهاماته النقدية وأدواره الفاعلة في الحياة السينمائية المصرية والعربية، وإنْ في مسارٍ موازٍ من خلال المناصب المهمة التي تقلدها في أغلب مؤسسات وزارة الثقافة الرسمية المصرية. سيرة لم تكتب ربطتني علاقة تلمذة وصداقة قوية بالأستاذ علي أبو شادي على مدار سنوات طويلة لكنها توطدت وترسخت في العامين الأخيرين؛ خاصة بعدما اقترحت عليه أنا وصديقي محمود عبد الشكور أن يكتب سيرته الذاتية، بل حرّضناه تحريضاً على ذلك. كنا نستمع إليه بالساعات وهو يروي مواقف ووقائع مذهلة أثناء توليه المناصب العديدة في مؤسسة الثقافة المصرية الرسمية؛ فضلاً عن علاقاته الإنسانية الرائعة التي وصلته بأغلب مبدعي ومفكري ومثقفي مصر والعالم العربي، ما أتاح له أن يكون دائماً في قلب المشهد؛ الكل يجتمع على محبته، ويشهدون له بالاحترام والثقة والكفاءة.. في أكثر من جلسة جمعتنا به، وامتدت لأكثر من ثلاث ساعات؛ ألححنا عليه إلحاحاً شديداً ـ بل لا أبالغ إذا قلت إننا مارسنا ضغوطاً حقيقية ـ كي يكتب مذكراته الشخصية، ويدوّن سيرته الذاتية العامرة بالخبرات والمواقف والمآسي والأفراح. قطعة من الحياة؛ بكل ما فيها من ثراء وزخم وتعقّد وتناقض؛ لكنها هي الحياة؛ هذا هو جمالها. كانت الجلسة الأولى طويلة للغاية؛ على مقهى مسرح الهناجر بالأوبرا المصرية؛ في هذه الجلسة ألقينا حجر أساس المشروع (مشروع كتابة السيرة) لأنه بعفوية مدهشة وذاكرة خصبة؛ متوهجة، حكى لنا بسرد مدهش متسلسل محطات من حياته بدءاً من الميلاد والنشأة مروراً بمحطات التعليم والتخرج والتوظف وصولاً إلى احتراف النقد السينمائي وبداية التدرج في تولي مناصب المسؤولية الكبرى في وزارة الثقافة المصرية. يومها استطرد علي أبو شادي في حكاياته مع كل منصب، حتى أننا بتنا أكثر إصراراً، محمود وأنا، على أن يكتب مذكراته، خصوصاً خلال فترة أو مرحلة رئاسته للرقابة، وهي فترة طويلة كانت حافلة بالأزمات والمشكلات. كان من أبرز ما لاحظناه في تلك الجلسة الطويلة، توقف الكثيرين من مرؤسيه الذين تصادف مرورهم في الأوبرا، لمصافحته بحرارة وسعادة، مع أنه ترك كل مناصبه الرسمية منذ سنوات طويلة، وكان فخوراً وسعيداً بهذه المصافحات والأحضان، ويعتبرها رصيده الباقي، من فترة عمله في الوظيفة، وكان أيضاً، ولا يزال، معتزاً بلقب «الموظف». رحل قبل الصدور قبل وفاته بأسابيع قليلة؛ وعبر الهاتف، قمنا معاً بمراجعة البروفة الأخيرة من الكتاب الذي أعدّه عنه صديقي الكاتب والناقد القدير محمود عبد الشكور؛ بمناسبة تكريمه في الدورة الجديدة من مهرجان الإسماعيلية الدولي.. لكن أبت الأقدار أن يشهد علي أبو شادي تكريمه، وأن يرى بعينيه الكتاب الذي قرأناه معاً وراجعنا متنه حرفاً حرفاً؛ وضبطنا تواريخه وأضفنا التعديلات التي طلبها في ما يخص بعض معلومات السيرة أو الوقائع المتعلقة بالفترات التي تولى فيها المسؤولية في مؤسسات وزارة الثقافة المختلفة. كان، رحمه الله، دقيقاً غاية الدقة؛ ممسوساً بالمراجعة والتوثيق والتأكد من أقصى سلامة ممكنة لكل المعلومات الواردة بشأن أسماء الأفلام والأشخاص والحوادث.. إلخ. «علي أبو شادي في رحاب السينما والثقافة».. هو عنوان الكتاب؛ وأعتبرُ ثلاثتنا شركاء متضامنين في غرس بذرة هذا الكتاب الذي بزغ كفكرة ذات أمسية من صيف عام 2016، نواته حوار طويل أجراه محمود عبد الشكور مع أبو شادي عن حياته ومحطات سيرته الذاتية المفصلية؛ ويتوقف محللاً وقارئاً لها؛ ثم يقوم بين يدي الدراسات والمقالات المختارة (التي تنشر لأول مرة بين دفتي هذا الكتاب) بدراسة تحليلية مفصلة لرؤية أبو شادي ومنهجه النقدي. هذا الكتاب يمكن اعتباره نواة السيرة الذاتية أو المذكرات الشخصية التي ألححنا على أبو شادي في كتابتها لكن القدر لم يمهله؛ وإن كان في ما سجله من معلومات وأجاب عن أسئلة وإيضاحات، يمكن اعتباره بصورة ما خلاصة مركزة ومكثفة ووافية لرحلة عطاء علي أبو شادي. الجامعة والوظيفة في العام 1946، وفي قرية ميت موسى مركز شبين الكوم بالمنوفية (إحدى محافظات الوجه البحري بجمهورية مصر العربية)، ولد علي أبو شادي لأسرة بسيطة لم تكن لها اهتمامات ثقافية أو سينمائية على الإطلاق، توفي والده عام 1960، وعمره 14 عاماً، سيلتحق بقسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة عين شمس، وقبل أن يتخرج فيها عام 1966 سيعين موظفاً في وزارة المالية، وسيتعرف على الصديق الذي سيغيّر مسار حياته ويجعله يتجه بكليته إلى دراسة السينما والتفرغ لها؛ فتحي فرج؛ وهو واحد من أربع أو خمس شخصيات لعبت أكبر الأثر في حياة علي أبو شادي. ثلاث سنوات جمع فيها بين الجامعة والوظيفة، التي احتفظ بها عقب تخرجه، ورفض ترشيح القوى العاملة له بالعمل مُدرساً في الإسكندرية، وتمسك بوظيفته في وزارة المالية، حتى تمت تسوية حالته في الوزارة بعد حصوله على المؤهل العالي، عام 1967. ثم يستهل علي أبو شادي مرحلة جديدة من حياته مع تأسيس (جماعة السينما الجديدة) التي ستترك بصماتها المهمة في تاريخ السينما المصرية والعربية معاً. كان هناك جيل جديد من النقاد والسينمائيين يحلمون بسينما مختلفة، وتبلور هذا الحلم في شكل بيان جماعة السينما الجديدة في العام 1968، التي سرعان ما تم إشهارها كجمعية في العام 1969، فانضم إليها، واستمرت الجمعية في نشاطها حتى العام 1976. خلال تلك الفترة شارك علي أبو شادي في إدارة جماعة السينما الجديدة لمدة عام، ثم أصبح أمين صندوقها، ثم سكرتيرها العام، وكان مقرها 36 ش شريف، وتنظم عروضاً سينمائية، وندوات، وتصدر نشرة، وكان سمير فريد ينظم برامج سينمائية، ويدير حلقات نقاش مهمة، حققت هذه الحركة أصداء كبيرة، وخصصت لها مجلة «الكواكب» مساحة من صفحتين بداخلها بعنوان «مجلة الغاضبين» كان يشرف عليها فتحي فرج. كما ساهمت الجماعة في إنتاج فيلمين روائيين طويلين هما «أغنية على الممر» للمخرج علي عبد الخالق، و«الظلال في الجانب الآخر» لغالب شعث.في عام 1971 ومع إنشاء نوادي السينما التابعة للثقافة الجماهيرية التي تم تعميمها في محافظات مصر كلها؛ بدأ نشاط علي أبوشادي وحركيته المتدفقة؛ وظل يسافر ويتنقل من بلد إلى بلد، ومن محافظة إلى محافظة مناقشاً وناقداً وناشراً للثقافة السينمائية إلى أن تم نقله نهائياً وتسوية وضعه الوظيفي من وزارة المالية إلى وزارة الثقافة؛ تحديداً عام 1978 في الثقافة الجماهيرية؛ ليبدأ علي أبو شادي رحلة صعوده المهني بكفاءة واقتدار؛ ويتدرج في الدرجات والمناصب حتى يصل إلى أعلى مستوى من المسؤولية في أغلب مؤسسات وزارة الثقافة المصرية؛ تولى رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ وأمين المجلس الأعلى للثقافة؛ ورئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية لمدة ثمانية أعوام متصلة؛ وترأس مهرجان الإسماعيلية الدولي لأكثر من عشر دورات متصلة.. وغيرها من المناصب التي أثبت فيها كلها كفاية ودراية شهد له بها الجميع في مصر وخارجها. لم يكن علي أبو شادي من نوعية المثقفين المهادنين أو الذين يجبنون عن تحمل المسؤولية؛ بل ربما كان من القلّة التي كانت تتحمل مسؤولياتها بشجاعة ونبل للدرجة التي ترغم حتى من اختلف معه على احترامه وتقديره؛ برز ذلك بوضوح وجلاء في كل المناصب التي تولاها والأزمات العاصفة التي واجهها بكل شجاعة وقوة لا تلين. وكانت مواقفه الشجاعة وهو رئيس لهيئة الرقابة على المصنفات الفنية أكبر دليل على انحيازه لحرية الرأي والتعبير وكيفية التعامل بوعي وإدراك لمواءمات الوظيفة وحساسيات السلطة مع ضمان إعطاء أكبر لقد خسرت السينما والثقافة المصرية والعربية مثقفاً كبيراً.. مثقفاً حقيقياً وشجاعاً. مخرج يشيد بالرقيب سيسجل التاريخ مواقف علي أبو شادي المشهودة في أزمات رقابية كبرى مثل أزمة فيلم «هي فوضى» التي استطاع أن يتجاوزها بكثير من الحكمة والتأني وقليل من التحايل على العقليات الجامدة وأصحاب الهواجس الأمنية. وأيضاً أزمة فيلم «المصير» للمخرج الراحل يوسف شاهين؛ في العام 1998، فقد شاهد أبو شادي الفيلم قبل عرضه في مهرجان «كان»، وبادر بكتابة رأيه فيه كناقد، ثم وافق على عرضه رغم تحفظاته، وفي المؤتمر الصحفي ليوسف شاهين في المهرجان، بعد عرض الفيلم العالمي، فوجئ بأن شاهين، الذي كان يتحدث بالفرنسية، يذكر اسمه، وأن هناك تصفيقاً من الحضور، فسأل أبو شادي الجالس بجانبه، عن ترجمة ما يقوله شاهين، فقال إنه يشيد بدور أبو شادي كرقيب مستنير في إجازة تصوير الفيلم وعرضه، هذه اللقطة من الأشياء التي لا يمكن أن أنساها، ففي مهرجان كبير مثل «كان» تعرض فيه أفلام خارج الرقابة، وجهت التحية لأول مرة إلى الرقابة، وعلى لسان مخرج كبير مثل يوسف شاهين، وقد حصل شاهين في هذه الدورة على جائزة مهرجان «كان» عن مشواره الطويل. حاسبوني على الحرية تولى علي أبو شادي مسؤولية الرقابة على المصنفات الفنية مرتين، الأولى خلال الفترة (1996 - 1999)، والثانية خلال الفترة (2004 - 2009)، وخلال تلك المدة الطويلة شهد أبو شادي أزمات كثيرة كان شاهداً عليها، خلال الفترة الأولى استعادت الرقابة بريقها وأهميتها. وكان يقول «حاسبوني على الحرية»، كما كان يقول إن مما ساعده كثيراً في تجاوز تلك الأزمات أن علاقته كانت ممتازة مع المبدعين، وكان يحقق لهم ما يريدون، دون الإخلال بالقانون، وكانت النتائج دَوْماً ممتازة وإيجابية، لم تكن هناك في الحقيقة أزمات مع المبدعين، ولكنها في الأغلب كانت أزمات سياسية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©