الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيت حُدُد سرقة صوت من لا صوت لهم

بيت حُدُد سرقة صوت من لا صوت لهم
22 فبراير 2018 02:16
مع ذلك فإن سرقةً أدبيةً يمكن أن تهون في حجمها ودرجة فداحتها لو اقتصرت في حدودها على أن تكون مجرد سرقة، ولم تتحول إلى جريمة لها صلة بعذابات الآخرين والآلام التي تجرعوها، فضلاً عن أحلامهم وتطلعاتهم لأن يتمكنوا من تجاوز هذا كله، والنهوض لبناء حياة جديدة.. واقعية بطريقتها «بيت حدد» رواية للكاتب السوري فادي عزام صادرة عن دار الآداب عام 2017، وهي من روايات اللائحة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في نسختها الحالية 2017 - 2018. تتناول الرواية في أحد فصولها تجربة الاعتقال التي يتعرض لها (أنيس) الطبيب السوري العائد إلى بلده من بريطانيا، وهي تجربة مليئة بالمرارة، وتوثق لأشكال من عمليات التعذيب والامتهان والإذلال والاستهتار بقيمة الحياة قد تفوق الخيال في بشاعتها. والذي نقدّره أن فادي عزام واجه صعوبة في التعامل مع أجواء كهذه، أو أنه فهم أن الواقعية في الفن تعني تصوير أحداث وقعت فعلاً، بتفاصيلها وشخوصها ومكانها وزمانها، وأن أي تدخل للخيال سيخلّ بمصداقيتها وقيمتها، أو أنه كان على عجلة من أمره فلم يجد وقتاً للاشتغال على هذا المشهد بالاعتماد على جهده الخاص.. أياً كان السبب أو الدافع فإن مؤلف الرواية اعتمد في صياغة الفصل الخاص باعتقال (أنيس) على تجربة حقيقية للطبيب السوري الشاب ضياء سرور الذي اعتقل في الفترة بين آب/‏ أغسطس 2012، وشباط/‏ فبراير 2013. وقد نشر سرور وقائع تجربته في صفحته على «الفيسبوك» على شكل يوميات، ثم جاء عزام فنقلها لتكون فصلاً كاملاً في روايته، مع تغييرات بسيطة أهمها الانتقال بالسرد من ضمير المتكلم (لدى سرور بوصفه متحدثاً عن تجربته هو) إلى ضمير الغائب (لدى عزام باعتبار أن الرواية قائمة أساساً على هذا الضمير). أدلة إثبات وقبل الخوض في دلالات الفعل ومدى فداحته وما يمكن أن يفضي إليه من نتائج على مستوى الأشخاص (الطبيب الضحية)، ثم على مستوى الجو الأدبي العام (إشاعة نوع من الشك في صدقية ونزاهة الكثير من الأسماء)، قبل ذلك نعرض لأمثلة تبيّن طبيعة ما جرى: 1- «يسمونه مهجع الموت، تستبدل فيه يومياً جثة رجل حيّ أو أكثر بجثة ميت من نزلائه... الموت والعدد أربعة وأربعون ثابتان هناك. كان عليه، بأضلاع مكسورة وركبة متورمة وظهر متشقق، التعايش مع عالم جديد على مساحة بلاطة ونصف بلاطة». الرواية ص: 253. «مهجع الموت كما كانوا يسمونه. لا يكاد يمر يوم إلا وتستبدل فيه جثة حي أو أكثر بجثة ميت من نزلائه. الموت والعدد ثابتان هنا. بضلعين مكسورين ومرفق متورم كان يجب أن أتأقلم مع عالم البلاطة والنصف الجديد». يوميات ضياء سرور. 2- «مهجع الصدر. مساحة لا تتعدى ثلاثين متراً مربعاً يتكدس فيها تقريباً ما بين مئة وستين ومئة وسبعين معتقلاً. شروطه أحسن قليلاً، فالشمس تدخله، أما المتهمون فيه فهم شرائح من كل أنحاء البلاد. مراهقون وعجزة، أغنياء وفقراء، متدينون وملحدون، أبناء ريف وأبناء مدن، بدو رحّل وأكراد. يعملون في كل أنواع المهن، أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون وعمال مياومون ومزارعون. كانت البلاد معتقلة لأن أهلها طلبوا مساحة أكبر من قبر، فأعطوهم هنا مساحة بلاطة ونصف». الرواية ص: 256 - 257. «مهجع الصدر وهو الأكبر بالفرع 215. كان يحوي بين 160 و170 معتقلاً بمساحة لا تتعدى 30 متراً مربعاً. كان مهجع الميؤوس من خروجهم. تهم تجمع الكوميديا والتراجيديا معاً. متهمون موزعون على كل أنحاء البلاد. كل البلاد متهمة. طلبة جامعيون. حرفيون. أساتذة. عمال. فلاحون. قاصرون. عجزة ومسنون. رياضيون. فنانون. صحفيون. عسكريون. أطباء ومهندسون. نعم. الشعب كان يقبع هناك وعلى بلاطة ونصف». يوميات ضياء سرور. 3- «بدأ روتين العذابات رتيباً. ترقب مكرور. قصص معادة للمرة الألف. أنين توجع مكظوم. دعاء واستجداء للسماء البكماء. يتصمّغ الزمن... كان شاهد عيان على أمراض وأوبئة تعد منقرضة، ولم تعد تدرّس إلا في تاريخ الأدب الطبي: سلّ، جرب، بثور إنتانية غريبة، موات والتهابات نوعية وغير نوعية، إسهالات وهستريا وانهيارات عصبية، جوائح تفتك بالعشرات خلال زمن وجيز. كان هذا نتيجة طبيعية لغياب الشمس والهواء النقي وتردي حال النظافة والاكتظاظ الشديد وسوء التغذية كمّاً ونوعاً وكيفاً». الرواية ص: 257 - 258. «بدأ روتين العذابات رتيباً. انتظار يتكرر. قصص مكررة. آهات وأوجاع مكررة. صلوات وأدعية مكررة. الزمن يتوقف هنا... كتب عليّ أن أشاهد هنا أمراضاً وعللاً عدت منقرضة أو من الأدب الطبي. سل وجرب وبثور وموات والتهابات نوعية وغير نوعية وإسهالات وهستيريا وانهيارات عصبية. جوائح تفتك بالعشرات خلال زمن وجيز. كان هذا نتيجة طبيعية لغياب الشمس والهواء النقي وتردي حال النظافة والاكتظاظ الشديد وسوء التغذية كمّاً وكيفاً». يوميات ضياء سرور. هذه نماذج لما تم ارتكابه من سطو، وهناك العشرات مثلها، بل إنه يمكن القول بكل طمأنينة أن الفصل كاملاً (بصفحاته الإحدى عشرة: 251 - 261) هو للمعتقل الطبيب ضياء سرور، ولا يد فيه لفادي عزام أكثر من تعديلات طفيفة من نوع إضافة كلمة لا معنى لها (كمّاً ونوعاً وكيفاً) إلى عبارة د. سرور (كمّاً وكيفاً)!!!.. أو أن يصبح (شيخ القصير) في يوميات سرور (شيخ الخالدية) لدى عزام!! وهكذا.. والواقع أن المرء يمكن أن يتفهم فعلاً من قبيل أن يستفيد روائي من تجربة حقيقية أو شهادة لإغناء عمله، خصوصاً إذا كان من المستحيل أن يعيش هو نفسه هذه التجربة، وذلك بصياغة لغوية وأسلوبية خاصة يبتعد فيها عن الأصل حرصاً على حقوق الآخرين أولاً، ثم لضرورات فنية تمليها عليه طبيعة العمل الذي يشتغل فيه، كي لا يحدث أي شرخ أسلوبي، أو تفاوت في مستويات اللغة وأدوات التعبير.. لكن الأمر يصبح غريباً ومثيراً للشك عندما يتجاوز هذه الحدود، لتنتقل إلى العمل الجمل والتراكيب والمجازات، فضلاً عن التفاصيل الدقيقة والشخوص والوقائع والأسماء والأرقام وسواها!! ومع ذلك يظل استئذان صاحب العلاقة ضرورة لا يصح تجاهلها في حال من الأحوال، ولا تحت أي ذريعة من الذرائع، لا سيما بوجود شق إنساني بحساسية قضية الاعتقال والتعذيب.. سرقتك.. ولكن لمصلحتك واستباقاً لما يمكن أن يؤول إليه الموقف، وبعد أن وصله أن صاحب اليوميات كشف الحقيقة، كتب عزام على صفحته في الفيسبوك منشوراً حشر فيه كلاماً طويلاً عن قراءته لمئتي صفحة من شهادات المعتقلين وخاصة في الفرع 215 - والفرع 248، وصيدنايا، وسجن تدمر، ومتابعة كل الصور التي سربها (قيصر)، بالإضافة لتقرير منظمة العفو الدولية (الأمينستي)، وتقرير (الهيومن رايتس ووتش)، وتقرير المنظمات العربية والسورية لحقوق الإنسان... ثم أضاف كلاماً غريباً حول اضطراره إلى نقل هذه الوثائق إلى عمله، مبرراً ذلك بأنه يقدّم خدمة إلى المعتقلين بأن يوصل صوتهم إلى العالم: «أردت أن أقول لمن لا صوت له، إن لك صوتاً يجب أن يسمع، وإننا لن نترك هذا الأمر يمر، وإن تجربته لن تذهب سدى وإن مستقبل هذا البلد الغامض يبدأ من تصويب عدالة الحياة والواقع يوماً، ورد الاعتبار له»!!! نعم.. بهذه الطريقة يخدم عزام من لا صوت لهم: بأن يسطو على أصواتهم، ويستثمرها في عمل أدبي، ليصبح بعدها مرشحاً لنجومية ولاستضافات ولقاءات ومبيعات وحفلات توقيع وابتسامات أمام كاميرات التصوير، في حين يبقى أصحاب المعاناة الحقيقية في الظلّ يكابدون أوجاعهم في صمت لا أحد يبالي بهم أو يدري عنهم شيئاً.. يخدمهم بمحو أسمائهم، وتجريدهم من تجاربهم الحية التي دفعوا ثمنها دماء وصرخات، ليحوّلها إلى حكايات على الورق تباع وتشترى، وتقدم إلى الجوائز!! وفي اعتراف صريح بما أقدم عليه، ومحاولة لتبرئة ذمته تجاههم، يتفضل عزام على ضحاياه (ويبدو أنهم كانوا كثراً) فيعدهم في ختام منشوره بأن يذكر أسماءهم في الطبعة الثانية من روايته، معتذراً بكلمتين للدكتور ضياء سرور: «أعتذر، فقد كان من الواجب الحديث معك قبل النشر». بهذه الطريقة يحاول عزام إغلاق أفواه ضحاياه، غير مقدّر لما كان يتطلع إليه المعتقل السابق من تحويل يومياته إلى عمل أدبي أوّل يحمل اسمه وتوقيعه، مربّتاً على كتفه ومطيّباً خاطره بالقول: «أنا واثق أنك ستكتب روايتك وستكون كما أسميتَها مولوداً سورياً جديداً».. وفات السيد عزام أن رواية هذا المعتقل لن ترى النور لأنه سرقها منه وهي جنين يتكوّن.. كما فاته أن يقترح عليه إذا رغب في كتابة رواية جديدة أن يدخل المعتقل مرة أخرى، ويعيش الموت كما عاشه من قبل.. لعلّ ذلك يلهمه موضوعاً جديداً مناسباً.. أريد كلماتي وإنصافاً، ولكي لا نظلم أحداً، فإن فادي عزام يمتلك طاقة إبداعية مهمة وغنية، وهذه الطاقة يمكن تلمسها في رواية «بيت حدد» نفسها، كما في روايته الأولى «سرمدة» التي وصلت هي الأخرى إلى اللائحة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2012، كما في نصوصه الشعرية اللافتة، غير أن هذا لا يلغي أبداً فداحة ما أقدم عليه، خصوصاً في ظل عدم رضا ضحيته الطبيب ضياء سرور الذي كتب لي: أريد كلماتي. أخبروا فادي عزام أنني لا أكرهه، لكنها كلماتي، وعليه أن يعيدها إليّ. كنت أخطط لكتابة رواية تحمل اسمي، وجاء فادي فسرق مني حلمي.. والقضية الآن بين يدي فادي عزام.. عليه أن يفكر بطريقة يعيد فيها لضياء سرور كلماته.. وقائع سرقة مشهودة بين روائي ومعتقل في عقر دار (البوكر العربية) تظل ظاهرة (السرقات الأدبية) واحدة من أبرز عيوب ثقافتنا، مؤشّرةً في ما تؤشّر لا إلى انعدام الإحساس بالمسؤولية تجاه حقوق الآخرين أصحاب الجهد الأصيل فقط، بل كذلك إلى انعدام الوعي بحساسية الحقل الأدبي في اتساعه وشموله للعقل والشعور والضمير والأخلاق وكل ما له علاقة بالعالم القيمي والروحي للإنسان. عن الروائي بحسب التعريف الذي يضعه الموقع الرسمي للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، فإن فادي عزّام هو كاتب سوري من مواليد السويداء، جنوب سوريا، عام 1973. تخرج في كلية الآداب بجامعة دمشق سنة 1998 ونشر في الصحف العربية مقالات ونصوصاً، وكذلك العديد من القصص في مجلات عربية. كان مراسلاً ثقافياً وفنياً لصحيفة «القدس العربي» بين 2007 و2009. صدر له كتاب نصوص بعنوان «تحتانيات» (2010)، ورواية «سرمدة» (2011) التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية سنة 2012 وترجمت إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية، و«رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء» (كتاب في أدب الرحلات، 2016)، ورواية «بيت حُدُد» (2017). فادي عزّام مقيم في لندن ويعمل في المجال الإعلامي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©