الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ميشيل أونفري.. فاشيّ يتقنَّع باليسار

ميشيل أونفري.. فاشيّ يتقنَّع باليسار
22 فبراير 2018 02:16
كُثُر هم الكتّاب الغربيون والعرب الذين تهافتوا في السنوات الأخيرة على الكتابة عن المفكّر الفرنسي ذائع الصيت ميشيل أونفري، مكيلين له المديح في مقالاتهم من منطلق «عمق» فكره و«جرأته» على زعزعة أفكار ونظريات فلسفية وغير فلسفية راسخة في الغرب. وكان يجب انتظار صدور كتابه الإشكالي «التفكير في الإسلام» (دار «غراسيه»، 2016) كي يخفت هذا التهافت من دون أن ينقطع، علماً أن أي قارئ يتمتع بالحد الأدنى من الثقافة قادر على استنتاج، من مختلف كتب هذا المفكّر ومداخلاته الإعلامية التي لا تحصى، ليس فقط سطحيَّته وضحالة فكره، بل أيضاً تخبّطه الفلسفي وحتى فاشيته. قد يبدو نعت أونفري بالفاشي قاسياً بعض الشيء، لكن لنبدأ بقراءته لنيتشه، فيلسوفه المفضّل، التي تتجلّى خطورتها خصوصاً في فهمه كتاب هذا الأخير «العِلم المَرِح» كـ«مُتْعَوِيَّة» (hédonisme)، في حين أنه عكس ذلك تماماً. ففي هذا الكتاب، الذي يشكّل مدخلاً لـ«هكذا تكلم زرادشت»، يصوغ نيتشه أفكاراً قصيرة وقوية ضمن محاولة لمحاصرة طبع الكائن البشري وتشخيص العلل التي تعاني منها مجتمعاتنا. تشخيص سيطوّره سيغموند فرويد لاحقاً في كتابه «قلق في الحضارة» على ضوء نظرية اللاوعي. وبالتالي، مثل كل كتب نيتشه، «العِلم المَرِح» هو تأمّل معتم في المجتمع البشري انبثقت منه ثيمة «الإنسان المتفوّق». وهو ما لم يفهمه أونفري الذي يرى في الإنسان المتفوّق كائناً متحرّراً من وَخْم البشر وشقائهم وألمهم، في حين أن نيتشه قال بوضوح في «هكذا تكلم زرادشت» إن «إنسانه المتفوّق» معجون بعذابات البشر: «البشر كما يتصوّرهم (زرادشت) يتأملون في الواقع كما هو. إنهم أقوياء كفاية لفعل ذلك؛ الواقع ليس شيئاً غريباً وبعيداً عنهم، بل يختلط بهم بحيث يملكون داخلهم كل ما هو مرعب وإشكالي فيه، لأنه بهذا الثمن فقط يمكن للإنسان أن يكون كبيراً». لكن، بإضفائه على فكر نيتشه تلك الصبغة «المتعوية» المتحرّرة من ألم الآخر، يتخلّص أونفري من البُعد الإنسانوي لهذا الفيلسوف، تماماً كما فعل مفكّرو اليمين المتطرّف قبله، وفي مقدّمتهم المفكرّون النازيون. وقد نتفهّم محاولة هؤلاء تحوير فكر نيتشه من أجل إضفاء مشروعية فلسفية على عقيدتهم العنصرية، وهو ما أدّى لفترة إلى اعتبار هذا الفيلسوف «أب» النازية المزعوم، بينما هو غير ذلك على الإطلاق. أما أن يتبنّى اليوم شخص يحمل صفة فيلسوف، مثل أونفري، القراءة المغلوطة نفسها، فهو ما لا يُغتفَر وما يفضح الخلفية الفكرية المشبوهة التي بنى عليها جميع نظرياته. منهج تعميمي النقطة الثانية التي تفضح فاشية هذا المفكّر وتخبّطه الفلسفي هي نمط تفكيره الذي يقوم على التعميم بشكلٍ منهجي. وفعلاً، يقف أونفري على أرضية فلسفية ملتبسة لقذف تعميمات متسرّعة وغير مبنية على جهدٍ تحليلي وفكري عميق. وهذا بالتحديد ما يميّز نمط تفكير منظّري اليمين المتطرّف ويحدّد القاعدة التي يرتكزون عليها للتمايز عمّن يعتبرونهم «آخرين» مختلفين عنهم وسيّئين. نمط تفكير تصبح معه كل مجموعة من البشر أو النظريات سيّئة ما أن نكتشف (أو نعتبر) أن واحداً من عناصرها سيّئ. هكذا انقضّ أونفري على علم التحليل النفسي ككُلّ لمجرّد استنتاجه (بعد كثيرين قبله) عنصراً سلبياً فيه (صعوبة بلوغ الشفاء بواسطته)، متناسياً التقدّم المذهل الذي سمح هذا العلم به في ميدان الطب النفسي، والمفاتيح التي قدّمها لفهم وولوج أعماق النفْس البشرية. وبالطريقة نفسها، اعتبر أونفري اللاوعي منتجاً تجارياً غايته جلب الشهرة والثراء لمبتكِره فرويد، لعدم رؤيته في هذا العملاق سوى جانبٍ واحد، على صحّته، أي جانب البورجوازي النمساوي الذي وظّف طاقة مهمة لانتزاع اعتراف به داخل محيطه وتحسين وضعه المادّي. ولا ننسى هجومه على الديانة المسيحية واعتباره أنها تحمل في بذورها الشرّ فقط لأنها عرفت في تاريخها مراحل انغمس كهنتها خلالها في التعصّب والعنف، أو تصويره اليهود كشعب ثري وصاحب نفوذ لأن بعض اليهود هم فعلاً أثرياء ونافذون، أو انتقاده الإسلام ككلّ لوجود عدد ضئيل جداً من الإرهابيين يدّعي الانتماء إليه ومعانقة قيمه! ولو اكتفى أونفري بهذا التعميم، في ما يتعلّق بالإسلام، لهانت مصيبته. لكنه ما لبث أن وضع كتاب «التفكير في الإسلام»، تلبيةً لرغبته الملحّة في اغتنام فرصة هجمة اليمين المتطرّف في فرنسا على المسلمين، بعد العمليات الإرهابية التي شهدها هذا البلد في السنوات الأخيرة، من أجل احتلال موقعٍ متقدّم في النقاش الدائر حول هذا الموضوع. كتاب لا يشكّل انتفاءُ أي مرجع أو فهرس فيه عيبه الفاضح الوحيد، وإنما يعكس غطرسة صاحبه ومغالاته في ثقته بنفسه، وبالتالي طبيعة بحثه ومستوى التنظيرات التي تنتظرنا فيه. فإلى جانب فضحه جهل هذا المفكّر كلياً اللغة العربية، على رغم ضرورة إتقانها لمن يريد تنصيب نفسه فيلسوفاً منظّراً في هذا الموضوع، يبيّـن هذا الكتاب أيضاً معرفة صاحبه التقريبية للتاريخ العربي الإسلامي، التي تتجلى في الأخطاء الغزيرة والمرعبة التي وقع فيها لدى محاولته الاستشهاد بأحداث قديمة وحديثة من أجل دعم قراءته المغلوطة لهذا التاريخ. أخطاء لم يعد من لزوم للتذكير بها لأنها أصبحت معروفة اليوم، بعدما توقّف مؤرّخون فرنسيون ملياً عندها في مقالات مُحكَمة، لدى صدور هذا الكتاب. وكنّا غضّينا الطرف عنها ووضعناها في خانة جهل أونفري لموضوعه لولا أنه لم يستتبعها، دائماً في الكتاب ذاته، بمرافعة شرسة دافع فيها عن رُسُل الإسلاموفوبيا في فرنسا اليوم (ألان فينكيلكروت، رونو كامو، إيريك زمّور، وميشيل أويلبيك) وحقّهم في التعبير عن رأيهم و«صواب» تشخيصاتهم لـ«مرض» الإسلام والمسلمين! الأمر الذي كشف تبنّيه لهذه التشخيصات الذهانيّة، وبالنتيجة عنصريّته. هدم وإنكار النقطة الثالثة التي تبيّن أننا لا نقسو على هذا المفكّر بنعته بالفاشي هي تركيزه كل جهده وكتاباته على هدم الصروح الفكرية التي سبقته وتفضح بعمقها وقيمتها ضحالة فكره. فكتابه الشهير «نفي اللاهوت» مثلاً نتلقّاه كـ«قرار اتّهام» في غاية الضعف هدفه النيل من الفيلسوف واللاهوتي مار توما الأكويني عبر اتّهامه -ويا للخطيئة العظمى!- بـ«الوقور القاتم والسقيم» لتسلُّط هاجس الموت على فكره. بعبارة أخرى، يلوم أونفري هذا الفيلسوف، والمسيحية من خلاله، بالانشغال قبل أي شيء بما يشكّل الشرط الأول لحياتنا، أي طبيعتنا الفانية، غير مكترث إطلاقاً للوضعية الصعبة فلسفياً -كي لا نقول المضحكة- التي يضع نفسه فيها بهذا اللوم، أو للتناقض الذي يضع نفسه فيه حين يحاول لصق التهمة ذاتها («الوقور المسيحي القاتم») بالكاتب الفرنسي الماركيز دو ساد ومواطنه المفكّر والكاتب جورج باتاي، عبر سعيه الفاشل إلى تقليص أهمية الثورة التي أحدثها كل من هذين العملاقين على المستويين الفكري والأخلاقي، بردّه إياها إلى حضن المسيحية، سواء من منطلق طبيعتها السوداوية أو من منطلق استهدافها أخلاقية هذه الديانة فقط بشحنتها الانتهاكية، الأمر الذي يُبقي هذه الثورة، في نظره، ضمن حوار داخلي مع المسيحية، مهما كان هذا الحوار نقدياً وانقلابياً. ونستنتج التناقض نفسه في قراءة أونفري لماركس أو فرويد أو ميشيل فوكو أو كثيرين غيرهم. تناقضٌ ينبع في الواقع من عدمية عمياء لا هدف لها سوى التنكّر مما سبقها، وتنتج كتابة لا تفتقد فقط للحد الأدنى من الجدّية الفلسفية، بل تمنح بشحنتها الإنكارية المجانية مجداً ونوعاً من النشوة لصاحبها. وهنا أيضاً، يعلّمنا التاريخ أن التوتاليتاريات فعلت الشيء نفسه، أي نبذ المفكّرين الذين اعتبرتهم خطراً عليها، ما أدّى دائماً إلى رفضها جميع المفكّرين الذي جاؤوا قبلها أو إلى «إعادة مراجعتهم» بطريقة راديكالية خاطئة. يساريّة مزعومة وعلى ضوء كل ما سبق، يحقّ لنا أن نتفاجأ بتمكّن أونفري لفترة طويلة من الظهور غرباً وشرقاً بحلّة الفيلسوف اليساري، في حين أنه لم يكن يوماً فيلسوفاً ولا يسارياً. فبدلاً من بلورة فكر فلسفي جديد، انحصر جهد هذا الشخص في الترويج الإعلامي لـ«عبقريته» ومعاركه الدونكيشوتية، من دون أن ينسى طبعاً المشروعٍ «الفلسفي» الذي رفعه، وهو في الواقع مجرّد شعار فارغ المضمون قد يفتن عامّة الناس بطابعه الرنّان، لكنه غير قابل للتطبيق لدعوته إلى «إنزال الفلسفة من فضاء النخب الجامعية إلى الفضاء العمومي»، ولأن صاحبه يرتكز لتحقيق مشروعه على نظرية «المتْعَوِيَّة» التي صاغها وترى في الفلسفة «فنّاً للوجود» وتحدد لها هدفاً واحداً هو «الوصول إلى السعادة المطلقة عبر المتع الحسّية والفكرية»؛ نظرية لا تتضمّن في الحقيقة أي إشراقة فلسفية جديدة لكونها عبارة عن حصيلة بائسة وكيفما اتفق لبعض تعاليم فلسفات الشرق الأقصى القديمة ولبعض أفكار الحركات الطلائعية الأوروبية التحرّرية. أما في ما يتعلّق بيساريَّة أونفري المزعومة، فقد يقال لنا إنه كان فعلاً يسارياً لفترة، وإن تطوّره السياسي -من اليسار إلى اليمين القومي المقرّب من حزب مارين لوبين المتطرّف- هو مجرّد تطوّر فردٍ يبحث عن نفسه. لكن هذا أيضاً غير صحيح، لأن جميع كتاباته ومداخلاته الإعلامية تحفر بمنهجها وكراهيتها ومَكامِن افتتانها «أخدوداً» يبيّـن أن هذا المفكّر (بنفسه فقط) لم ينحرف فجأةً إلى أقصى اليمين، كما عند منعطف طارئ، فبوصلة فكره منذ البداية كانت تشير إلى هذه الوجهة، وطريقه المعوجّة كانت مرسومة سلفاً ومحتمة. أخطاء مرعبة وضع كتاب «التفكير في الإسلام» تلبيةً لرغبته الملحّة في اغتنام فرصة هجمة اليمين المتطرّف في فرنسا على المسلمين، بعد العمليات الإرهابية التي شهدها هذا البلد في السنوات الأخيرة، من أجل احتلال موقعٍ متقدّم في النقاش الدائر حول هذا الموضوع. كتاب لا يشكّل انتفاء أي مرجع أو فهرس فيه عيبه الفاضح الوحيد. فإلى جانب فضحه جهل هذا المفكّر كلياً اللغة العربية، يبيّـن هذا الكتاب أيضاً معرفة صاحبه التقريبية للتاريخ العربي الإسلامي، التي تتجلى في الأخطاء الغزيرة والمرعبة التي وقع فيها لدى محاولته الاستشهاد بأحداث قديمة وحديثة من أجل دعم قراءته المغلوطة لهذا التاريخ. «تفوّق» نيتشه تحمل قراءة أونفري لنيتشه الكثير من الخطورة، خصوصاً في فهمه كتاب «العِلم المَرِح» كـ «مُتْعَوية»، في حين أنه عكس ذلك تماماً. ففي هذا الكتاب، يصوغ نيتشه أفكاراً قصيرة وقوية ضمن محاولة لمحاصرة طبع الكائن البشري وتشخيص العلل التي تعانيها مجتمعاتنا. وبالتالي، مثل كل كتب نيتشه، «العِلم المَرِح» هو تأمّل معتم في المجتمع البشري انبثقت منه ثيمة «الإنسان المتفوّق». وهو ما لم يفهمه أونفري الذي يرى في الإنسان المتفوّق كائناً متحرّراً من وَخْم البشر وشقائهم وألمهم، في حين أن نيتشه قال بوضوح في «هكذا تكلم زرادشت» إن «إنسانه المتفوّق» معجون بعذابات البشر: «البشر كما يتصوّرهم (زرادشت) يتأملون في الواقع كما هو. إنهم أقوياء كفاية لفعل ذلك؛ الواقع ليس شيئاً غريباً وبعيداً عنهم، بل يختلط بهم بحيث يملكون داخلهم كل ما هو مرعب وإشكالي فيه، لأنه بهذا الثمن فقط يمكن للإنسان أن يكون كبيراً».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©