الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحمد الواصل في كتابه الرماد والموسيقى يحفر في الذاكرة الغنائية العربية

أحمد الواصل في كتابه الرماد والموسيقى يحفر في الذاكرة الغنائية العربية
9 ابريل 2009 03:12
يعد ''الرماد والموسيقى'' الكتاب الثالث لأحمد الواصل في الدراسات الثقافية عبر الغناء والموسيقى بعد كتابيه: ''الصوت والمعنى'' - 2003 و''سحارة الخليج'' ـ 2006 عن دار الفارابي نفسها· فهو يعتني بمواضيعه، وشخوصه متنوعة بالرؤى مهما تكدرت نوايا الحالة الفنية وعناصرها في الكلم والنغم، أو المبدأ والإيديولوجيا، أو الزمن والتاريخ··· ففي فجر يوم الأحد 19 اغسطس 2008 عرض المؤلف في أولى صفحات كتابه وبديلاً عن التقديم تشبيهه الموسيقى بالحرائق قائلاً: إذا اشتعلت الحرائق، وسألنا عن مشعليها لا يكفي، كما إن سألنا عن سببها لايكفي، كذلك إن سألنا عن موادها لا يكفي· كل الأسئلة لا تكفي· إذن كيف نرى الحرائق؟ يرى بعضنا النيران تتراقص، وتخزّن أبصار آخرين آيات اللهب، وهناك بعض آخر يتطلع إلى جمر وقّاد تحتها، وآخر ينتظر ما تحت الرماد بعد انتحار الجمر· هي أيضاً الموسيقى تشتعل أو تضيء، تنير أو تجرّص لبعض أرواحهم، ولآخرين آذانهم، كما هي تحاور أصابعهم وحناجرهم، كذلك هي تهدم ذاكرتهم وتبنيها··· يعرض علينا أيضاً المقاربة في الأشياء وفي كل شيء من الصناعات، في أي مجتمع أو حضارة، يتصل بنهاية وبداية، وفي ذكره مقولة لإبن خلدون: هذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند إختلاله وتراجعه· ابن خلدون يصف ابن خلدون في كتابه كيف كان، صادقاً وكان أيضاً كاذباً، كما أنه بصير لكنه أعمى أيضاً، فهو كذب على الموسيقى في فهمها مثلما كذب على فهم الفلسفة، ولم ير إلا إبطالها، كما رأى أن صناعة الغناء تحصل آخر العمران البشري، وأول ما ينقطع منه إذا اختل أو تراجع··· صناعة الغناء تحصل أحياناً قبل العمران، ويحتمل اختلالها أو تراجعها في انقطاعه أو دونه· إنه كاذب أو بعين واحدة لا تبصر· إن النغم كان غريزة من غرائز الوجود لا الإنسان وحده، مثلما هي الحكمة غريزة من غرائز العقل لا القلب والبدن وحدهما· الغناء امتداد الروح الى السماء، والرؤيا امتداد العقل الى الماوراء··· يسأل المؤلف هل كان فهم ابن خلدون لصناعة الغناء، بالشعر والنغم مصيباً، بأنها آخر المدنية وأول ما ينهار منها؟ كيف فهم ابن خلدون صناعة الغناء، بأنها ترفيه أو تسلية؟· هل كان أحمقاً ليرمي بالنصف الثاني والأول من صناعة الغناء الى البحر أو الصحراء؟· أهي الذاكرة في حصول الصناعة نفسها، صناعة الغناء، والرماد يعقب في انقطاعها؟· ذاكرة ورماد وفي الإنقطاع كذلك رماد وذاكرة آخرين؟· سؤالي الاول في هذا الكتاب: لماذا الرماد والموسيقى؟· يأخذنا المؤلف الى قراءة هذا الماضي الذي مررنا عليه عبر فكر وتحليل ابن خلدون، وطريقة الفهم المتحصلة حين عاش بواقع ما نحن فيه من مستقبل كان بالنسبة له، أو ربما لم يفكر به أو هو منقطع عنه بالأصل، وما هو حاصل من أن هذه صناعة الغناء، التي فهم منها ما هو مرفه ومسل، تختل وتتراجع في العمران البشري نفسه، كانت قبله بخير وستصبح بعده بخير أوفر، نحو ما هو متقن في صناعته وزاد في مغذاه للروح البشرية جمعاء· إن أولئك المنتظرين من الرماد شيئاً هم الذين يرون في الزمن حال دوران بقدرة تجاوز وارتقاء، مثلما غنت فيروز (لبيروت مجد من رماد ـ 1987) ذروة الحرب الأهلية في بطن ثمانينات القرن العشرين حتى الإجتياحات الإسرائيلية ما بين 1978- 2006 حين تواجه البشاعة فيها بـ (بحبك يا لبنان)، ومن يرون في الرماد صورة الدمار والخراب هم الذين يرون في الزمن تاريخاً ينتهي أو يقف سواء بقيامة أو معاد منتظر، وهم حال حكيم المعرّة، وفيلسوفها أيضاً ـ وليغضب حمقى النقد ـ ابي العلاء المعري بقوله: واللبيب من ليس يغتر بكون مصيرة للفساد من الذين خيبتهم الآلهة بوعودها·· أما سؤالي الثاني في هذا الكتاب: لماذا نطالع في ذاكرة غنائية عربية؟· العربية، لغة وتاريخاً، أو حضارة ومدنية، تعنى صفحة من تاريخ الشعوب السامية بكل أشكالها وأطيافها، عصر البطركة الأبوية، خاصة: العبراني، السرياني والعربي· ليس لها إلا لغتها وتاريخها، ومن اللغة يأتي الصوت في الكلم والنغم، سواء في المعابد أو الخلاء، وليس المدن التي تأخرت بسبب تديين التاريخ، فهي الذاكرة الدائمة، سواء تقادم فيها الزمن أو تجدد، إنها مطحنة الأجيال، والذاكرة تحمل تراث وفنون الشعوب التي لا تنسجم إلا معهما، وحال الطحن حضارياً تمضي لأبعد مما نتصور في حراكها، تفرز وتنتقي، فمنها عناصر تبقى وأخرى تبيد· هي حال الزمن، بين الوجود والمصير· كما هي في رماد النغم كذلك في ذاكرتها· إذ من الرماد يضيء جمر، ومن الذاكرة نستقبل زمناً· غناء الحروب يتراءى لي أنني أرى خلال الحروب ذاكرات تبقى: كالحرب الأهلية في لبنان نهاية الربع الأخير من القرن العشرين، مثال، وحال السلم، تنجز ذاكرة تبقى أيضاً: كحداثة غناء القرن العشرين في القاهرة منتصف القرن العشرين من أوله·· ويتراءى لي أنني أرى خلال حال الطوارئ السياسية لا الحربية، أن الذاكرة مستعارة مؤقتاً كالغناء في فلسطين الأنتدابية منتصف القرن العشرين في أوله، مثالاً، وحال طوارئ سياسية أخرى أن تبنى ذاكرة من زجاج: كأغنيات وأناشيد الثورة العربية منتصف القرن العشرين في ثانية·· إن حال صناعة الغناء الذي يقصده ابن خلدون، كان إما في القصور كما يسمع وإما في الصحارى كما يذكر· إنما لم يره هو نفسه في عصره، فما نتحدث عنه الآن ليس نقداً لإبن خلدون بل هو أن نشهد تهاوي تحليله وتحلله· إن صناعة الأغنية، كانت تمر في مخاض دائم ارتج في بنيوية هيكلها: عملاً فنياً، لا تلفيقاً وتهويماً، وفي قوالبها: أهازيج وقصائد، وصيغها من غناء ارتجال ومقطعية أو موقع الغناء أيضاً· ووظيفتها: طقسياً وشعائرياً من المعبد، الكنيسة والمسجد الى المجلس، الصالون والديوانية· إن صناعة الأغنية، من صميم صناعة الفكرة في الكلمة، وهي شعلة الحرب، بصيغة سعير إيديولوجي صارخ، في قالب: النشيد الحماسي والمهيج، مثل فن العرضة ـ نشيد الحرب: (هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها؟) عند جنود بادية نجد من الإخوان الوهابيين في تجليهم الأكبر خلال الثلث الاول من القرن العشرين، وهي أيضاً شرارة طافرة لحداثة غناء، من تكوين رومانسي مضيء، في مناجاة: (إن كنت أسامح وأنسى الأسية) الذي سكه محمد القصبجي، في وقت متقارب، تحديداً في الربع الأول من القرن العشرين، بين النشيد والمناجاة، إنما الأهداف مختلفة، فالعمران ليس قائماً في الأولى، والغناء مصنوع قبلها··· أما الأخرى عمرانها قائم، بينما تقنية عمرانها كملت توّاً· إن ما يشغل فصول الكتاب هو حالات الصعود والهبوط، بحسب عناصر كيمياء الشخصية الثقافية في ذراها وقاعها، من ملامحها وتصورها، أو إنعكاسها وفعاليتها· هذا ما يتمثله الفصل الثاني محمد عبده وجزء من الثالث كاظم الساهر والسادس مروان خوري· أما ما له عناية بمفاهيم القالب والهيكل الموسيقيين، فهو ما اشتغل عليه في الفصل الثالث، بجزئه الأول أسماء المنور ويوسف المهنا· أما ما هو متصل بالحالة الاجتماعية، وأزمة ذاكرتها، سواء في هويتها القومية المستعصية من تكوين موقف أو حال صناعة جراء حدث سياسي موروث أو قائم، فهو معتنى في الفصل الرابع فلة الجزائرية، والفصل الأول واصف جوهرية· وأما في تحولات استعصاء الهوية القومية بوعيها المفجوع إيدولوجياً فنموذجها الفصل الخامس رجاء بلمليح· إن فصول الكتاب كتبت في أوقات متباعدة، تتصل بعالم من الإشكالات النقدية، المختصة بأمر الموسيقى والغناء، دور الفضاء الاجتماعي والطموح الفردي فيهما· ففي هذا الإنجاز نرى المؤلف أنه كان مشاركاً ببعض الهموم مع القارئ والتواصل معه وهذه طريقة من طرق أخرى تغرقها الذاكرة في رمادها وفي الموسيقى خالصة منهما· إن ما يلفت في مضمون الكتاب نماذج كثيرة تكاد تغطي أصواتاً وأنغاماً من امتداد جغرافيا العربية وموسيقاها، لكنها ما بين لعنة الإرث القديم في تشعبات ظلاله المنصهرة والعصيّة على ذلك، وتنوع القوالب واختبارها ما بين ضمورها وإبطالها· إضافة الى إرتباك وقلق الشخوص الفنية بآفاتها واستقبال منجزها هذا هو النقد واعد بتراكم يحمل سمات الوعي والجدية حاضراً بكل بصيرته الجمالية والذوقية· أخيراً يقنع بكتابه بأن الثقافة العربية من المحيط الى الخليج هي نهر عظيم برغم تعدد وتنوع روافده· ونرى أيضاً في كتابه هذا أنه لم يتكئ على محسنات لفظية او تعبيرية· جمله كانت إخبارية سردية يرتكز على التفاصيل الدقيقة التي لاتكاد تشغل بالنا· تفجر الدهشة في نفس المتلقي وجديرة في القراءة· قطرات واكتشافات من خلال مسيرته الثقافية في عنصريها الفني والأدبي· وكلما ارتويت، تأججت غلتك أكثر وطالبت بالمزيد، كالمقولة التي رسخها الفراعنة ورددها المصريون: ''من يشرب من ماء النيل، لا بد من عودته ثانية''· ؟ الكتاب: الرماد والموسيقى ؟ المؤلف: أحمد الواصل ؟ الناشر: دار الفارابي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©