الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نـازك الملائـكة (4)

نـازك الملائـكة (4)
15 أغسطس 2007 00:46
ظل السؤال عن سبب مرض الاكتئاب العضال الذي أصاب نازك الملائكة يؤرقني، خصوصاً بعد أن أصدرنا كتاباً تذكارياً عنها ،1985 اشتركت فيه مع عدد من زملائنا وعارفي قدرها من دارسي الأدب وتصورنا أن صدور الكتاب سوف يخفف من وقع المرض، ولكننا كنا واهمين، فقد ظللت أراها بين الحين والحين، سائرة مع زوجها المرحوم عبدالهادي محبوبة، وعيناها زائغتان، ووجهها على امتقاعه، متعلقة بيدي زوجها كغريق يتعلق بيد تنتشله من الغرق، ولم أتوقف عن سؤال نفسي عن سر هذا التحول الغريب في تغيرها، والنهاية الحزينة التي انتهت إليها، ويبدو أن كثرة أسئلتي قد أضاءت في ذهني نوعاً من الإجابة، فوطنها العراق يحكمه ديكتاتور بشع هو صدام حسين، ومع تكريم هذا الوطن لأمثال السياب والبياتي، والاحتفال بأبرز شعراء العراق وتكريمهم، أو محاولة شراء الذين بقوا على الحياة مثل عبدالوهاب البياتي الذي أُبعد عن العراق بحجة تعيينه مستشاراً ثقافيا في مدريد التي قضى فيها ما لا يقل عن خمس سنوات، جعلت منه صديقا للمستعربين الإسبان، وعلى رأسهم صديقنا المشترك بدرو مونتابث الذي ترجم مختارات من شعره، لكن الخوف من بطش صدام لم يفارق البياتي، وأذكر آخر لقاء لي معه في بغداد، وكان مذعوراً يتلفت حوله دائماً، ولا يتكلم إلا همساً وفي حذر، ولذلك لم أستغرب أنه استغل الفرصة التي أتيحت له، فهرب إلى دمشق التي سبقه إليها الجواهري، واستقر هناك، ومنحته الحكومة السورية سكناً ومعاشاً أتاح له ولابنته حياة مستورة· أما نازك فكانت قد تركت العراق قبل ذلك بسنوات واستقرت في الكويت، وأبلغنا زوجها أنه قرر أن يستقر في مصر بعد أن ينتهي عمله في الكويت، ويظل ما بقي له من العمر مع نازك فيها، ومعهما ابنهما البراق، وبالفعل حقق الرجل ما خطط له، وضم رفاته، وبعده رفات نازك، تراب مصر التي أحباها، وبادلتهما حبا بحب، خصوصاً الأجيال التي عرفت قدرهما وكان من الطبيعي أن يتجاهل الإعلام العراقي، في عهد صدام، نازك الملائكة تماماً، ولا يتعرض لها، أو يشيد بذكرها، كما لو كان صدر حكم بإعدامها إعلامياً، والنتيجة أن توقف النقاد والدارسون في العراق عن ذكرها أو الإشادة بدورها الرائد في ابتداع قصيدة الشعر الحر، تلك التي نسبوا ريادتها إلى بدر شاكر السياب فضل الريادة لها، لأنه كان قد نشر قصيدته ''هل كان حباً؟'' في الشهر الذي نشرت فيه نازك قصيدتها ''الكوليرا'' في العام نفسه، وكلي ثقة بأن حملات التشكيك في ريادة نازك لحركة الشعر الحر قد تركت جرحاً عميقاً في نفسها، لم تبرأ منه قط، بدليل رسائلها التي نشرها أحد الدارسين مؤخراً، ونسي كثيرون أنها هي التي أطلقت على هذا النوع من الشعر اسم ''الشعر الحر''، وذلك بسبب تحرره من نظام العروض الخليلي ونظام القافية القديم في الوقت نفسه، وأتصور أنه من أوجع الأمور وأشقها على نفوس الرواد تجاهل ريادتهم، بل تجاهل وجودهم نفسه، وتواصل إبداعهم، وأذكر أن نازك كانت قد أصدرت في هذه السنوات ديوانها الأخير ''للصلاة والثورة'' الذي لم يهتم به أحد، ولم يكتب عنه من تعوّد الكتابة عن إبداعها الشعري، في سنوات ألقها· هذا السبب الأول تضافر في تقديري مع سبب ثان، أوسع من العراق، وهو سبب يرجع إلى حملات الاحتجاج العنيفة، وأشكال الرفض الحادة التي أثارها كتابها ''قضايا الشعر المعاصر'' سنة ،1962 وكانت المشكلة الرئيسية التي أثارها الكتاب أن نازك أرادت أن تضع نظاماً عروضياً للشعر الحر وتلك مفارقة صعبة، بدا معها الأمر كما لو كانت رائدة الشعر الحر قررت أن تسجنه في نظام من صنعها، وهو ما رفضه كل شعراء الشعر الحر بلا استثناء على امتداد الأقطار العربية، خصوصاً أنها لاحظت ما بدا لها أنه خروج على الأذن العربية، وذلك حسبما تصورت هي ما تقبله هذه الأذن وما لا تقبله، وهي مسألة خلافية وشائكة لأبعد حد، إذ لا يمكن لأحد، مهما كان قدره، ومهما كانت معرفته بالتراث الشعري العربي أن يزعم القدرة على تمثيل هذه الأذن العربية، وأضيف إلى ذلك أشكال النقد السلبي التي ترتبت على مسألة العربية هذه وتوجه هذه الأشكال إلى أغلب شعراء الشعر الحر بوجه عام· ولا يستطيع أحد أن يتصور عاصفة الهجوم على كتاب نازك ورفضه من أبرز أعلام الشعر الحر، وكانت البداية من مجلة ''شعر'' اللبنانية بمنحاها الليبرالي الذي كان معادياً للتيار القومي الذي تولت مجلة الآداب تمثيله، وإبراز الشعر المنتمي إليه، وفي الصدارة منه شعر نازك ومقالاتها، وبالطبع رأى شعراء مجلة ''شعر'' وأعلامها ''يوسف الخال، وأدونيس، وأنسي الحاج، وجبرا ابراهيم جبرا، وغيرهم'' في كتاب نازك الملائكة نموذجاً للنقد الرجعي الذي يعمل على إرجاع القصيدة التفعيلية إلى الوراء، بل وجد من ألح على التشكيك في التسمية من منطلق أن ''الشعر الحر'' مصطلح أوروبي ـ أميركي يطلق على الشعر المتحرر من الوزن والقافية تماماً، ولا يعتمد إلا على الإيقاعات الداخلية للغة· ولا أزال أذكر المقالات الحادة التي كتبها عبدالقادر القط ولويس عوض ومحمد النويهي، فضلاً عن صلاح عبدالصبور وأقرانه من الشعراء، في نقد كتاب نازك واتهامه بالمحافظة، وهي التهمة التي انتقلت من الكتاب إلى شعرها الذي أصبح كبار شعراء حركة الشعر الحر ينظرون إليه على أنه شعر محافظ يتذبذب ما بين الأفق القديم والجديد، الأمر الذي جعل المتحمسين للخروج على التقاليد من أبناء جيلي، وكنت منهم في ذلك الوقت، يرون في أدونيس والبياتي والسياب وصلاح عبدالصبور النماذج الواعدة في أفق التجديد، وصناع الذائقة الشعرية والإبداعية الجديدة التي لا ينبغي أن تسجنها قيود، أو توضع حولها السلاسل· وكانت النتيجة خفوت الأضواء عن نازك شيئاً فشيئاً، مع بعض الإحباطات الشخصية وهو الأمر الذي ظل يتفاقم مع الوقت إلى أن غرقت نازك في مرض الاكتئاب الذي ظل ملازماً لها في السنوات القليلة التي عاصرتها فيها في الكويت، وسنوات العزلة الكاملة التي فرضتها على نفسها، في القاهرة، إلى أن أدركها الموت برحمته، رحمها الله رحمة كبيرة جراء كل ما قدمت من إنجازات ستظل باقية في تاريخ الشعر العربي والتنظير له، بغض النظر عن الاختلاف حولها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©