الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لينا كيلاني تسرد حكايات الواقع العلمي

لينا كيلاني تسرد حكايات الواقع العلمي
13 أغسطس 2007 02:22
كاتبة ومبدعة سورية تعيش في القاهرة، تستثمر معرفتها العلمية بالزراعة في تنمية الطاقات العقلية والوجدانية للأطفال والشباب، حيث تتوزع اهتماماتها على مجالات البحث والأدب والخيال العلمي، لكنها تقع للمرة الأولى على تخوم إبداعية تربط بين هذه الأطراف العديدة في بؤرة واحدة متوهجة· تبتكر ما يمكن أن نسميه حكاية ''الواقع العلمي'' في روايتها الجديدة الصادرة بعنوان ''بذور الشيطان''، إذ تمسك بالجذر البحثي الضارب في أعماق نظريات العلم المعاصر، لتستخلص نتائجه المنظورة في تهديد منظومات القيم الإنسانية وتشويه تناغمها، وذلك عبر عدد من النماذج البشرية التي تكوّنها بمهارة فائقة· ابتداء من الراوي الذي يقدم نفسه في السطور الأولى قائلا: ''أنا ـ من ينقل إليكم أحداث هذه الرواية أميركي ·· نعم أميركي الجنسية والإمكانية الحضارية ·· لكنني من أصل آسيوي، وملامحي تدل على ذلك ·· فجدي المباشر هو الذي هاجر إلى أميركا، وعمل والدي في إحدى المزارع الشاسعة في كاليفورنيا كمشرف عام على العمال· وخصوصا أثناء حصاد الحبوب، ونال ثقة مخدومه إلى أبعد الحدود· أما صاحب المزرعة فهو الذي رعاني وأنفق على تعليمي في أرقى الجامعات باختصاص نادر هو مزيج من علوم النبات أو تخصيب النبات وعلوم أخرى· وعندما توفي والديّ وجدت نفسي وحيدا إلا من الرجل الشامخ صاحب المزرعة ·· وقد أوكل إليّ عملا فيها يقرب من اختصاصي''· نلاحظ في هذا التقديم البسيط والمباشر للراوي أن الكاتبة تفيد كثيرا من تجربتها في كتابة أدب الأطفال، فالأسلوب سهل مفعم بالمعلومات الضرورية عن الراوي المهجن الهندي الأصل، المهيأ لمهمته المستقبلية في مباشرة الأبحاث التطبيقية في الزراعة، فهو بالفعل أميركي بإمكاناته الحضارية، لكن روحه المنقوعة في تراث سلالته تمنحه حسًّا أخلاقيًّا يقظا يفتقده البيض الذين أبادوا الهنود الحمر بدم بارد· لكن الطريف أن الكاتبة لا تتردد في اختيار راويها رجلا يعبر عن منظور القص، مما يجعل نماذجها النسائية هامشية لا دور لها إلا في المواقف الحرجة التي تعني منعطفا وجدانيا بالغ الحساسية في سير الرواية ومصير أحداثها· فراعيه السيد ''جو'' ينتدبه لمهمة غامضة لإجراء بعض التجارب في وديان أفغانستان الشرسة· وتحاول ابنته ''مريام'' أن تسرّ إليه بشيء قد يمنعه من القيام بالرحلة لكنه لا ينتبه لتحذيرها المكتوم ويمضي جوا إلى العاصمة ''كابول'' حيث يستقل القطار إلى إقليم ''قندهار''، لكن أحلامه لم تكن بالجنان ولا وعود الخصب والنماء، بل كانت ''كوابيس رهيبة، رأيت فيها أفاعي وقردة وأشخاصًا ممسوخين بثياب عجيبة ·· رأيت أني أمد رأسي من نافذة القطار فأبصر شيطانا يتمدد على سطحه، يقهقه مني ساخرًا ·· ويقرب فمه من أذني ليصب فيها لفحا من اللهيب وهو يقول لي: اعرف نفسك، واعرف هدفك''· ومن الواضح أن لعبة العقل الباطن التي يصورها الباحث المخدوع في هيئة كوابيس شيطانية شديدة الاتساق مع حسه الإنساني، وهو يشارك في تجربة لا تلبث أن تتكشف عن كارثة، لكن براعة الكاتبة تتمثل في تصميم موقفه بحيث لا يدرك من أمر هذه التجربة إلا بالقدر الذي سيكتشفه بنفسه ويحدد طبقا له طبيعة رد فعله تجاهه· يتعرف ''فرانك'' ـ وهذا هو اسم الراوي ـ في القطار ذاته على نموذج عجيب، لشخص أفغاني يسمى ''موهاد'' ـ وهو تحريف غربي لاسم محمد، فيتوجس منه شرا في البداية، ثم لا تلبث الأحداث أن تجعله دليله وهاديه، إذ يصل إلى القرية ويستقبله الفريق العلمي الذي أعد الأرض وجهز المحاليل، دون أن يطلعوه على أسرار التجربة ولا غايتها النهائية· ثم لا يلبث أن يثير اهتمام فتاة من أهل القرية، يغريها ''موهاد'' بالسعي إليه وإعانته في أمور عيشه، كان اسمها ''آيشه'' ـ المحرف بدوره عن عائشة· يحترم فرانك جمالها ونبلها ويستشعر عطفا قويا تجاه أهلها، لكنه يفجع عندما يطلع مصادفة على أحد التقارير العلمية التي خبأها الفريق المتعاون معه، والذي كان يعمل لحساب مؤسسة أميركية كبرى بالتعاون مع سيده· فأقصى ما كان يعرفه عن البذور التي يجربونها أنها مخصبة وراثيا، تنتج أضعاف المحصول دون أن تصلح لإعادة الاستزراع مرة أخرى· ومع ما يضمره ذلك من خديعة للأهالي فقد كان يبشرهم بالخيرات· لكن صاحبنا يفاجأ في التقرير السري بعبارات طبعت بحروف غليظة قاتمة اللون تقول: ''بفضل تقنية انتحار النبات هذه أو قتله لأجنته التي في داخله سوف يقع أمن العالم الغذائي في أيدينا، هذه التقنية الجديدة تستوجب إجراء تجارب على البشر·وعندما تبدأ سموم هذه البذور في إثمار نتائجها المأساوية، يكتشف فرانك مزيدا من المعلومات عن التجربة وأخطارها والخداع الذي تمارسه المؤسسات الكبرى بدعوى أن ''تعديل البذور والخضراوات يتيح الفرصة لإنتاج لقاحات لبعض الأمراض المستعصية، والثمار هي الموز الجيني والتبغ المضاد للتسوس، والطماطم المضادة لداء الكلب والأرز المضاد للعمى، وثمار أخرى يقطفها سكان العالم الثالث والدول النامية''· عندئذ يتضح لفرانك أن واجبه الأخلاقي يحتم عليه إتلاف هذه المزروعات الملوثة والتي بدأت تطل من الأرض برؤوسها المشابهة لأعضاء البشر من أيد وألسنة وعيون، ساعده ''موهاد'' في إتمام المهمة الصعبة طوال الليل، واتخذ فرانك قراره بعد تردد طويل بالاقتران بعائشة بعد أن تأهب نفسيا وقرأ ما تيسر له من ترجمة القرآن إلى الإنجليزية التي أهدتها له فتوثق شعوره بالانتماء إلى هذا العالم النبيل وانتصر لنموذجه الحضاري الأصيل· وإذا كانت الكاتبة أمينة في الكشف عن رسالة روايتها بهذا الوضوح الطفولي الجميل في النهاية السعيدة، فإن ما تثيره من إشكاليات خاصة بأخلاقيات العلم يعد مجالا حيويا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©