الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إسماعيل كداريه

إسماعيل كداريه
12 أغسطس 2007 01:46
كان علي أن انتظر ثلاث سنوات لتكر الصدفة سبحتها، وأراه ثانية· هو من الكتاب القليلين الذين شكلوا إحدى علامات القرن العشرين وما بعده· أعجبت بعوالم كتاباته الروائية الشاسعة العميقة والمحمولة على موضوعات التاريخ الألباني غالباً وخصائصه الروحية والجغرافية، وانطلاقاً منها يتحول الأدب إلى المجال الإنساني والكوني بأزمنته وأمكنته المختلفة· كنت قادماً من نزهتي النهرية اليومية، متجهاً نحو حديقة (اللكسنبورج)، حيث أجلس على حافة البحيرة الصغيرة أراقب السمك والبط بخفة في هذا الفضاء الندي المشع خضرة بأمطار الليل· أرفع رأسي لأرى الرجل بنظارته السوداء التي يبدو أنها من النوع الطبي، حيث كان مع زوجته بشعرها الأبيض وملامح ذلك الجمال الغارب الحزين· كان معها يتأمل أفراخ البط الصغير تعوم وتتصايح وراء أمهاتها· بذلك المرح واندفاع الأطفال على الرغم من زحف الشيخوخة المحيق بين الفترة والأخرى، أراه ينفصل عن رفيقته وعن العالم المحيط، يسبح في فضاءاته الأسطورية، تلك التي صاغ من مياهها وصخورها وبشرها آثاره الخالدة· بقيت هكذا مستمتعاً بالتحديق والمراقبة البريئة: اسماعيل كداريه وزوجته، البحيرة والبط وذلك العبور الخفيف للنسيم، وسياح يحاولون تجميد الزمن في صورة فوتوغرافية قبل التلاشي والاضمحلال· حين همّا بالنهوض بدأ قدوم الظلام الذي يتأخر كثيراً في صيف باريس، رأيته في صحة جيدة، يساعد زوجته على القيام· يبدو أن الزمن ترك تأثيره عليها أكثر· ويبدو اسماعيل كادريه بحيوية وصلابة قامته أفضل من رؤيتي له في المرة السابقة قبل ثلاث سنوات· ربما اتبع حمية غذائية ونظام رياضة ما· هو الذي لم يصدر أي رواية أو كتاب منذ فترة ليست قليلة على كاتب مثله· وهو في هذا السياق يشبه قرينه (ميلان كونديرا) على اختلاف العوالم والأساليب· ربما كان الاثنان في هذا العصر الأكثر قرابة للحقيقة الإبداعية في تجليها الكبير بالغوص في أعماق الكائن وظلاله وخفاياه· *** كنت وأنا أراقبه بمرح مع المرأة التي افترضت أنها زوجته بناء على حدس وليس معلومة أكيدة· وأعتقد أن ذلك من حقي، تجاه من زوج وطلق وخون شخوصاً وأمماً عبر مخيلته الإبداعية الفذة· وأنا أراقبه على ذلك النحو، كنت أستحضر رواياته التي قرأتها أكثر من مرة بتمعن الذي استبد به النص واحتل كيانه بالكامل· أستحضر (مدينة الحجر) (نيسان مقصوف) (جنرال الجيش الميت) (تبير سراي) أو (قصر الأحلام) هذه الرواية المكثفة المرعبة التي تؤرخ للفترة العثمانية التي كانت ألبانيا ضمن منظومتها الإمبراطورية من خلال الأحلام والكوابيس الليلية، حيث يأتي مفتشون من أنحاء الامبراطورية، يسجلون كل حلم رجل أو امراة أو طفل وربما حتى أحلام الحيوان، لتجمع كلها وتحمل على ظهور البغال والحمير وعلى الجمال والعربات، إلى قصر الأحلام ليتم تحليلها وتأويلها وفي ضوء النتائج المقرة من قبل أباطرة التفسير الغامضين، ينال كل إنسان العقاب أو الثواب· بعض الدواب التي تحمل ملفات الأحلام تجفل وتهيج، حين تكون الأحلام كابوسية· وبعضها يموت من فرط ثقل الحمولة وعنفها الرمزي· ترى، إلى أي مدى تطورت أجهزة سبر الأحلام وتفتيش الضمائر والأعماق، منذ الفترة العثمانية وحتى البرهة التكنولوجية التي نعيش··؟ وإلى أي مدى أحكمت القبضة الرقابية على هواجس هذا الكائن الأعزل التائه في دهاليز التاريخ المظلم في كل حضاراته وأطواره وإن بدرجات متفاوتة··؟ إلى أي مدى أحكم أباطرة قصر الأحلام على الكائن والكون، إذ أن عبقرية العصر الحديث وثمار عقلانيته تجلت أكثر في مجال العدوان والشر، وفي تطور آلة الفتك التي بلغت أقصاها، ترتد إلى افتراس ذاتها كما يتجسد في الحروب الكبيرة ومظاهر العنف الأخرى· üüü يعرف كدرايه، حق المعرفة، أن هذا الجهاز أو هذه الآلة ليست حكراً على العثمانيين ودولتهم وإنما هي القاسم المشترك بين كل دول وامبراطوريات التاريخ، وصلت سطوتها الآن إلى القدرة على تحليل الأحلام ليس على صعيد الأحياء وإنما شملت عالم الأموات ومن يرقدون تحت الأرض· كلام يشبه الفانتازيا لكن ما الفرق بين الواقع وما خلفه بعصور من خفاء أسطوري؛ بين أدب متورط بهذا القدر التراجيدي في المصير والتاريخ، وبين ملاعبة فراخ البط التي تتعلم العوم سعياً وراء الأمهات· لم أشأ أن أقتحم عزلة الكاتب الكبير من أجل صورة معه، أنا الذي لا يجد أي عزاء في تجميد الزمن في لقطة فوتوغرافية، ربما أحبذ سيلانه الطليق هكذا·· من هنا لا أكاد أحتفظ بالصور، ولا أملك منها شيئاً عدا ما أراه مع الأصداقاء الذين يحتفظون بألبومات وأراشيف·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©