الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصيدة واللوحة.. قرابة الرمز والمعنى

القصيدة واللوحة.. قرابة الرمز والمعنى
1 مارس 2017 19:13
غرضنا في هذا المقال أن نتفهم صلة القرابة التي تربط بين فني الشعر والتصوير، وهو فهم يتجاوز التمييز التقليدي الذي يفصل بين الشعر والتصوير كما نجده في تصنيف لسنج Lessing للفنون الذي يميز بين فنون صوتية زمانية أو إيقاعية تعبِّر عن تتابع الأصوات والأفعال في الزمان (كالموسيقى والشعر)، وفنون تشكيلية مكانية تعبِّر عن الأجسام المرئية في المكان (كالمعمار والنحت والتصوير). وعلى هذا، فإن التصوير يتمثل الأفعال بواسطة الأجسام، وهو يقوم بتثبيت الفعل في لحظة زمنية واحدة منتقاة، بحيث تعبر عما يسبقها وما يتبعها من لحظات، وبذلك يتم تثبيت اللحظة في المكان. وفي مقابل ذلك، فإن الشعر يمكن أن يصور الأجسام، ولكنه يصورها من خلال الأفعال وتتابعها الزماني عبر سياق من لحظات ترتبط كل لحظة فيه بغيرها وتضيف إليه صوراً جديدة. تداخل الفنون غير أن هذه القسمة الثنائية بين الفنون (ومن ثم بين الشعر والتصوير) لا تستند إلى أساس متين، وبالتالي يمكن تقويضها وزعزعة دعائمها، وهذا ما اضطلع به إتين سوريو Etienné Souriau حينما كان بصدد تقديم تصنيف بديل معاصر يقوم على فهم ما هنالك من علاقات وتداخلات بين الفنون. فهو يبين لنا أن البعد الزماني يكون مفترضاً في الفنون التي تسمى بالفنون المكانية كفن المعمار، كما أن البعد المكاني يكون مفترضاً في الفنون التي تسمى بالفنون الزمانية كفن الموسيقى على سبيل المثال: فالبناء المعماري لا يمكن الإحاطة به من نظرة واحدة، وإنما من خلال نظرة تتابعية تستغرق زمناً ما، كما أن مشهده يتغير بتغير الساعات والفصول التي تتبدل من خلالها الخلفية التي يظهر المشهد في ضوئها. وفي مقابل ذلك، نجد أن العمل الموسيقي- على سبيل المثال- يفترض المسافات والكتل الهوائية التي تملأ فضاء الحجرة أو القاعة، وهي أمور تتحدد بفعل الترتيب المحسوب لوضع الآلات والعازفين في المكان الذي يجري فيه العزف أو الأداء الموسيقي. وفضلًا عن ذلك يمكننا القول إن الموضوعات التي تعبر عنها الفنون، لا يمكن تقديمها إلا من خلال إطار زماني مكاني، لأن لا وجود- لا في الفن ولا في الحياة- للزمان الرياضي المجرد الذي يمكن تصوره مجرداً تماماً من علاقته بالمكان، كما أن لا وجود لمكان مصور في عمل أدبي ما- على سبيل المثال- إلا في إطار زماني لعالم ما. ناهيك عن أن الأعمال المعمارية لا يمكن تصورها أصلاً بمنأى عن العالم التاريخي الذي تنتمي إليه. وربما أمكن القول بأن مادة الفن ذاتها هي التي يمكن أن يغلب عليها طابع زماني أو مكاني: فمادة الموسيقى (وهي الصوت الموسيقى)، ومادة الشعر (وهي الكلمة) لهما طبيعة الامتداد الزماني وقابلية التشكيل الإيقاعي. وربما يكون أيضاً هذا الطابع الزماني الأصيل في كل من الشعر والموسيقى هو ما شجع كثيراً من الفلاسفة والمنظِّرين على البحث فيما هنالك من صلات وثيقة بين هذين الفنين. ومن تلك أن هناك طابعاً موسيقيّاً في الشعر لا يمكن تجاوزه، يتمثل في الإيقاع الذي يرد عبر سياق تتابع الكلمات، فضلاً عن الإيقاع الذي تختص به الكلمة في ذاتها. ولكن هذا الارتباط الوثيق بين الشعر والموسيقى لا يعني أن نضع الشعر في جانب الموسيقى بمعزل عن غيره من الفنون التشكيلية، خاصة فن التصوير. غير أن الصلة بين الشعر والتصوير قلما تنال حظاً من التأمل، رغم تجلياتها العديدة. وهذا ما سنحاول الكشف عنه الآن. تجليات العلاقة إن أول ما يتبدى لنا من تجليات الصلة بين الشعر (الذي نظن أنه فن زماني خالص) وفن التصوير (الذي نظن أنه فن مكاني خالص)، إنما هو ذلك الترتيب المكاني للوحدات والعناصر التي يتألف منها العمل الفني في كليهما. وهذا الترتيب الذي يتبدى في اللوحة لأول وهلة، يتبدى لنا أيضاً في القصيدة من خلال ذلك التشكيل المكاني لأبياتها ومقاطعها الذي يصطنعه الشاعر عن قصد فني، وهذا الترتيب المكاني يفرض ذاته على الشاعر حينما يمارس فن إلقاء القصيدة باعتباره فناً قائماً بذاته. يتجلى هذا الترتيب حتى في القصيدة التقليدية العمودية حينما تقسم البيت الشعري على نحو مخصوص، ولكنه يبلغ ذروة تجليه في الشعر الحديث حينما يصور القصيدة في شكل هندسي (وهو ما يُعرَف أحياناً بالقصيدة الهندسية)، أو حينما يعمد إلى استخدام فواصل ومسافات مكانية (لها طبيعة إيقاعية) بين الكلمات والسطور. كما أننا يمكن أن نتأمل الصلة بين فني الشعر والتصوير على مستوى اللغة التي يعبر بها كل منهما، رغم اختلاف الوسيط المادي في كليهما. حقاً إننا يمكننا القول - مع سارتر- بأن «هناك اختلافاً بين أن يمارس الفنان نشاطه باستخدام اللون أو الشكل أو الصوت، وبين أن يمارس نشاطه باستخدام الكلمات». ولكننا لا ينبغي أن نفهم من ذلك أن سارتر يفصل بين نشاط المصور ونشاط الشاعر، بل إن العكس هو الصحيح: فما يقصده سارتر هو أن فرقاً بين أن يستخدم الفنان اللون أو الشكل أو الصوت، وأن يستخدم الكاتب الكلمات في لغة النثر، لأن الكلمات في هذه اللغة الأخيرة أشبه بالإشارات التي تتجه خارج ذاتها لتشير إلى دلالات ومعانٍ محددة، أما المصور- على سبيل المثال- فإنه لا يعبر عن شيء أو موضوع يكمن خارج اللوحة، تماماً مثلما أن اللحن لا يعبر عن شيء خارجه. ولذلك فإن المصور الرديء يسعى إلى تصوير النموذج أو النمط، فهو يصور المرأة أو الطفل أو طبقة العمال، بينما المصور الجيد يعرف أنه لا يوجد في الواقع- ولا في نسيج لوحته- نموذج المرأة أو الطفل أو طبقة العمال. فالمصور إذن لا يقدم لنا معاني أو أفكاراً ومفاهيم، لأنه لا يتعامل مع إشارات لها دلالة خارجية، وإنما هو يقدم لنا أشياء بعينها لا صلة لها بالواقع الخارجي، إنه يقدم لنا موضوعاً لونياً له حضور الأشياء. وعلى النحو ذاته يستخدم الشاعر الكلمات، أو- إنْ شئت قل- إنه لا يستخدمها على الإطلاق، فهو لا يتعامل معها كأدوات، بل ينظر إليها على أنها أشياء، تماماً مثل العشب والأشجار. أما الناثر، فإن نظره يكون موجهاً نحو الموضوع الذي تشير إليه الكلمات، فالنثر هو إمبراطورية الإشارات، بينما يكون الشعر في جانب التصوير والنحت والموسيقى. وربما يثير هذا التساؤل عن وضعية قصيدة النثر، فلا شك أن ناثر القصيد يواجه صعوبة كبرى حينما يضحي بالموسيقى الظاهرة للغة، لأنه يضحي بشيء من حسيتها وحضورها المرئي والسمعي، ولكن هذا نفسه هو ما يجعله يبحث عن تجليات أخرى للإيقاع الباطني للسياق اللغوي، وعن تكثيف مناحي أخرى من الحضور الحسي للغة، وهذا أمر عسير لا يقوى عليه إلا قلة من ناثري القصيد. والواقع أن فن التصوير لا يرتبط بفن الشعر وحده، بل يرتبط بسائر فنون اللغة أو القول. ذلك أن أسلوب التعبير عن الرؤية أو المنظور في فن التصوير- كما يبين لنا ميرلوبونتي Merleau-Ponty- إنما يناظر تماماً أسلوب التعبير عن المعنى في الأدب. فاللغة لا تعبر عن المعنى أو تقصده كما لو كانت تترجمه، وإنما توحي به بحيث تضمره في السياق اللغوي على النحو نفسه الذي به يضمر فن التصوير الرؤية في الأسلوب التعبيري، أي في الأسلوب الذي به تتشكل الإشارات المحسوسة الصامتة (الخطوط والألوان) في منظور ما. وهكذا فإن لغة الأديب تصل إلينا من خلال العالم الصامت بين الكلمات، مثلما تصل إلينا «لغة» المصور من خلال العالم الصامت للخطوط والألوان: فالقصد الدلالي للكلمات لا يوجد خارجها، ولا يكون محدداً بشكل سابق عليها، وإنما يكمن في السياق الذي تخلقه العلاقات الكائنة بين الكلمات، تماماً مثلما أن التعبير أو القصد الدلالي يكمن في التأثير الكلي لعلاقات البقع والخطوط والألوان في اللوحة. الرمزية ولا شك أن هناك تجليات أخرى تتحقق فيها الشعرية في علاقتها بالفنون الأخرى، خاصة فن التصوير الذي نعنى هنا بعلاقته بالشعر. ونحن يمكننا أن نتأمل هذه التجليات كما تتبدى من خلال مفهوم «الرمزية في الفن». فهل يمكن أن نجد في مفهوم «الرمز» أساساً تقوم عليه الصلة بين الفنون، ومن ثم الصلة بين الشعر والتصوير؟ وهذا السؤال يستتبعه سؤالان هما: ما الذي يرمز إليه الفن؟ وعلى أي نحو يرمز إليه؟ إن ثورة الفن الحديث بدأت من الموسيقى حينما بدأت تنزع نحو التعبير من خلال لغتها الخالصة... لغة الأصوات التي تصدر عن الآلات الموسيقية وحدها، دون حاجة إلي إلى أي وسيط فني آخر كالكلمات على سبيل المثال. إننا هنا نشعر بأننا إزاء بنية متسقة من المعنى، ولكنه معنى تم تشفيره. ولقد انتقلت هذه الثورة في التعبير إلى فن التصوير، حيث أصبح فن التصوير يميل إلى إخفاء المعنى أو المضمون التمثيلي في عناصر السطح الخاصة بالخطوط والألوان وتكوين الأشكال التجريدية منهما. وهذا أيضاً هو التطور الذي حدث في مجال الشعر الخالص، حيث إن الشعر هنا تخلى عن ارتباطه بالملحمة والدراما، وأصبح يميل إلى ترميز عالمنا من خلال لغة تجريدية تميل إلى خلق حالة مزاجية وجدانية من خلال التلاعب باللغة الشعرية ذاتها. ولا شك أن المضمون التمثيلي لم يختف من أشكال الفن الحديث، وإنما تم إخفاؤه فحسب. وكل هذا يقودنا إلى السؤال الثاني عن الكيفية التي يعبر بها الرمز في الفن. إن فهم الرمز في الفن باعتباره «إيماءة» هو ما يمكن أن يبرر لنا مشروعية هذه الرمزية. فما الإيماءة؟ إن الإيماءة تعبير رمزي متجسد يحوي معناه في باطنه، فالإيماءة لا تكشف عن معنى وراء تعبيرها المرئي، وهي دائماً ما تكشف عنه بشكل خفي مضمر، فهي تبدو كما لو كانت تخفي سراً بقدر ما تكشف وتُظهِر، على نحو ما نوهنا من قبل. وهذا ينطبق على الإيماءة في فن التصوير، مثلما ينطبق على الإيماءة اللغوية في الشعر: فالكلمة الشعرية- كما يبين لنا جادامر Gadamer- تبقى غير قابلة للاستبدال، فما تستحضره الكلمة يكون مضمراً في الكلام نفسه، ويستوي الأمر عندئذ، سواء كنا مشغولين بموضوعات معينة يتم التعبير عنها في عصرنا أو في أي عصر آخر. النثر.. الصعب لا شك أن ناثر القصيد يواجه صعوبة كبرى حينما يضحي بالموسيقى الظاهرة للغة؛ لأنه يضحي بشيء من حسيتها وحضورها المرئي والسمعي، ولكن هذا نفسه هو ما يجعله يبحث عن تجليات أخرى للإيقاع الباطني للسياق اللغوي، وعن تكثيف مناحي أخرى من الحضور الحسي للغة، وهذا أمر عسير لا يقوى عليه إلا قلة من ناثري القصيد. ترميز وتجريد أصبح فن التصوير يميل إلى إخفاء المعنى أو المضمون التمثيلي في عناصر السطح الخاصة بالخطوط والألوان وتكوين الأشكال التجريدية منهما. وهذا أيضاً هو التطور الذي حدث في مجال الشعر الخالص؛ حيث إن الشعر هنا تخلى عن ارتباطه بالملحمة والدراما، وأصبح يميل إلى ترميز عالمنا من خلال لغة تجريدية تميل إلى خلق حالة مزاجية وجدانية من خلال التلاعب باللغة الشعرية ذاتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©