الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خورفكان.. أيَرَوْنَها حقاً؟!

خورفكان.. أيَرَوْنَها حقاً؟!
30 مارس 2016 21:44
آمنة باروت لكن ما المغزى من وجودي هنا؟ من همسات الهلوسات التي كانت ولا زالت تتغير في استمرار. لن أنكر أنِّي فكرت بهذا النص قبل خروجي من المدينة بفترة طويلة، تخيلتُ نفسي في هيئة أخرى غير التي عهدتها من صغري، غير التي خلقتها لنفسي، تقمصتُ حقاً دور المسافر دون رجعة، وضبتُ حقائبي على عجل، وضعتُ كل ما خطر في بالي، وكتبت الباقي على ورقة صفراء مرمية عند زاوية السرير المتهالك حنيناً حتى قبل الفراق. لا زالت نظرات والدتي تحدق بي، وأسئلتها تسارعني للإجهاز عليّْ وكأنها تتفرس اللحظة وتوقن أنه ضرب من السنين، أو من الضعف الذي شلَّ قلوبنا حينها. عجيب أمرنا، ما الداعي للتفكير بالكتابة طالما نحن نعلم بشقاء عملنا هذا، بقدرة الحرف على استدراج مشاعرنا نحو الهاوية السحيقة التي تقتادنا على مر السنين بالتهاون والتخاذل، وفي اللحظات ذاتها يستحيل كثير من الأشياء التي كانت حقيقة، إلى سراب يقترب منك فتهرب منه مسرعاً، يتقدم نحوك فيصطدم بخوفك وهواجسك. نعم، أعترف أني الآن في منزل جميل جداً على طرف المدينة الجديدة، حيث كل شيء بات مختلفاً، وتيرة الحياة المتسارعة، الشوارع التي لا تختلي بنفسها أبداً، المباني التي تتعارف بمحض المصادفة بعد كل ثانية، الحياة التي تعلو، وتعلو، فلا تستطيع أن تخفض رأسك أو تلتفت حولك. كل شيء هنا مختلف.. وجوه الناس، ملامحهم، تصرفاتهم، أفكارهم، حتى نظراتهم التي تخترق بساطة جهلك. وسألتُ النفس بلحظة صلاة عن قدرتنا على التعايش بأكثر من حياة، فمنذ أسبوع مثلاً كنت أقول هذا الحديث لصديقة، وأننا مصنوعون من فولاذ، فكيف باستطاعتنا أن نُحَوِّلَ هذه الحياة البسيطة إلى حيوات تتوالد وتتكاثر باستمرار، كأن أعيش طوال أيام الأسبوع في هذه المدينة المختلفة عني، وبشهقةٍ أجد نفسي في حياتي الأخرى منغمسة بزرقة مدينتي التي تنعكس حتماً على تصرفاتي، وحياة أخرى تجبرنا على التقمص لنكون غير ما نحن عليه أمام الآخر، وحياة تدفع بنا نحو العمل الجاد لجني ثمار ما نفعل فنرتقي لنكون ضمن الأفضل، ونصل لمراتب ترضي غرورنا على حساب ترهل داخلنا المسكين!! كنت موقنة بأنَّ كل هذه الأفكار المعطوبة لن تجدي نفعاً سوى تجريحي واستثارة جروحي الأخرى، لم كل هذا الحزن، والوجع والسخط، لمَ هذه النظرة الساهبة نحو إطار الصورة الفارغ، لمَ يكبر عمرنا دون شعور، فنفتقد شقاوة الطفولة وحلاوتها، ولمَ تتكرر صورتي الطفلة أمام عيني باستمرار، وأتعمد النظر إليها مطولاً لأرى الغريبة الواقفة هنا الآن.. (لِمَ) كثيرة تبحث، وتحفر، وتؤجج، وتعانق لتنخذل في نهاية المطاف. في كل مرة أتحدث فيها عن خورفكان، أراني أسهب في الحديث لأنني أخسر أمام هذه الذاكرة الطفلة، البسيطة، تلك التي تركض فوق الرمل لتثير أحاديث كثيرة، وتَلُف ملاءات الحب داخل صدرك، نعم، هي الوجد ذاته دفعة واحدة، الصباح النهم، الذي يلامس جسدك فلا تستعين إلا بانصرافك وتمسكك في آن، تغمض عيناك، وتهرب دون توقف، تجد أن ذاتك تتلاشى باستمرار، تحاول أن تُمسكَ بروحك فتعجز، تتساقط أصابعك، ابتسامتك، أنفك، وتنتشر الفوضى فيك، ترى آخر نفسك، تهمس الأغاني القديمة في أذنك، تتذكر قصائد جدتك في طرق سفرك براً نحو المدينة المنورة، تغادرك ابتسامتك، تعيش منتشياَ هذه اللحظة فقط، فهي أول قدوم نحو الحياة. لا تفهم إلى أين أنت ذاهب، وتستغرب هذه اللحظات التي تراها لعنات، لأنها تتمسك بك فترجعك أكثر إلى الماضي، قدماك، وهي تركض باستمرار لتلامس الهواء وأنتَ على التراب، عيناك المعلقة في السماء وكأنك استحلتَ طيراً، يرفض الوقوف، يداك التي تحركك، وتسبح ضد التيار، صباحك الذي يتطاير أمامك، ويفتح عيناه باستيقاظ الشمس حينها. جيئة وذهاباً، تتورط في تلك اللحظات التي تظنها عادية، بالية، وغير قيّمة، لكنها تداهمك في الحياة الأخرى حين تكون سماءً، أو فراشة، أو حتى أشياء تكلفكَ غالباً الكثير. كثيراً ما أتساءل، حين أعود الآن إليها وألامس ضوءها، هواءها، وجوه أبنائها، أرصفتها، صخورها، أسفلها الفوضوي، معاولها، قواربها، فندقها الوحيد، ومقابرها التي تتآكل باستمرار، حين تبهر بتفاصيلها في كل مرة تجيء إليها محملاً بالحنين ذاته، تراها بعين المحب الذي لا ينفك من التحديق خوف الفقد الموجع.. تسائل نفسك: «أيرونها حقاً؟». تكتب عنها الكثير، تحدث نفسك وغيرك، تطلق أساريرك بالهمس والغناء والرقص أحياناً عن سر هذا المكان، وعن السؤال الذي تخلفه فيك دائماً، أيرونها حقاً حين يجيئون؟ بالصور التي تنشرها؟ أم يرون البحر الذي يسيل بين عينيك، والليل في شعرك المنسدل، والأرض في وجهك؟ حين يحطون رحالهم فيها، أيجدون أنفسهم في أهلها؟ أم يمرون كالغرباء منتظرين أمراً آخر غير الذي تتوقعه؟ هل يشتبكون في عناقات الشجر؟ هل يضعفون في ظلِّ العيش فيها؟ هل ينبتُ طينها في أوصالهم فلا يحركون أصابعهم ولا تزيغ أعينهم كما تفعل دائماً أبداً! مذ غادرت قدماي وكل أسئلة العالم تدق في رأسي، تشعل فيَّ ناراً لا تنطفئ، لا لشيء.. فقط لأدرك لذة الموت في أرضها، لتصعد روحي حولها. أنا لا أبتدع الحكايات ولا الأقاويل، فنحن أبسط من كل هذا النفاق، تعابيرنا الغامضة، وهدوؤنا المستكين يقاوم رغبات الإنسان في المضي، في القفز بعيداً عنها، فتكتظ باستمرار ويصلك صوت المدينة متأخراً على الدوام ولكن بلذة أول وآخر الأغنية، وكأنها تمارس فيك ذلك النوع من الموسيقا التي تجرفك بأخضرها القادم الدائم. هل يرونها حقاً كما أراها؟ صبحاً، وظهراً، ومساءً، وليلاً؟ هل يرون فيها ذلك الطيش الذي لا تلحظه العين في النظرة الأولى واللقاء المبتدئ؟ لقاءاتها مع الجميع دون استثناء بلمعتها واشتعال لياليها الضاحكة؟ نشوتها التي لا تقل إشكالاً، أحاديثها بين العابرين، واهتمام الغريب بها، خيالاتها، أحلامها، خورفكان بانبثاق عبثها، وانبعاث هامشيتها، نعم جميعنا يتذكر جيداً ويعلم سر هذا الميلاد الذي نراه فيها عند كل زيارة، ونشوة تلاقي الأعين حتى وإن كانت بكل تلك الغرابة. يقولون إنها جاذبة، وأقول أنهم لم يعرفوها. يقولون إنها بسيطة، وأقول إنهم لم يعيشوا فيها. يقولون إنها نائية، وأقول إنهم أخطأوا التأويل عنها. لستُ أدري لم صدري يخاف كثيراً من هذا التعلق الذي ورثته كما أظن من أمي، التي كانت منذ صغري تردد، أعيش على صخرة فيها، ولا قصر خارجها، إحساسٌ مثقل، يربكك ويجثم فوقك لعجزك عن الاستفاضة أكثر، تظن أنك ستتحدث أكثر حين توقن فداحة تردد اسمها على مسامعك، إلا أن اكتشافك بالهرب يهز هذه العلاقة التي تأصلت فيك وجمعتك بهلوسات لا تعدو كونها حياة لا زالت تتردد فيك ولم تتغير أبداً، بصخبها، وتشابه أسمائها، واستفهامات تقاسيمها، حتى ذكرياتك الجميلة التي ستبقى تتحدث عنها بتكرار وإن ملَّ القارئ منها، وإن لم تكبر في نظرك، وإن لم تستطع الفكاك، وتدفقت مشقة النهايات، ووقفت وأخيراً أمام صمتها الذي تناهى إلى مسمعك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©