الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجل وكلب

رجل وكلب
30 مارس 2016 21:47
قصة - لويس فياض * ترجمة : المهدي أخريف كان ليونسيو يسير في شارع صَاخبٍ جدّاً في المدينة، حاملاً في يده جريدة ومحفظة، والمعطف المُدَلَّى من ذراعه الأيمن كان يَدُلّ على أن المساء بارد، إذ أنَّ ليونسيو لا يتحمّل البرد مهما كان خفيفاً. كان قد غادر المكتب منذ دقيقة، لأنّ الساعة تشير الآن إلى السادسة ودقيقة واحدة، وهو في طريقه إلى الباص، مُهرولاً كسائر الناس في محاولة دائمة للظَّفَر بِمَقْعد جلوس. كان ثمّة كَلْبٌ يسير بجانبه. شيئاً فشيئاً انتبه إلى أنّ الكلب كان يتبعه بينما هو يُحاول إبعاده عنه بمعطفه. أحْنى الكلب رأسه كإشارة إذعان، ولم يُخَفّف ليونسيو إيقاع خطواته ولا تذكّر، وهو يصل إلى موقف الباص، وُجُودَ كلبٍ بجانبه، عندما انتظم داخل الصّف أحس بوجود شيء يخْدش بنطلونه. إنه الكلب يحدّق فيه كما لو كان يتفحصه. بدَوره حدّق ليونسيو متفحصا: كلبٌ صغير، هزيل، أصفر، قد تساقط الشعر كلُّه منه أو كاد، وجسمه مغطَّى بكامله بالجراح. فكّر ليُونسيو بأن الكلب سَيَخْتفي بمجرد ركوبه الباص، وتناول الجريدة ليقرأ. بيد أن الهدوء لم يدم لديه أكثر من ثوان. كان الأشخاص المنتظرون في الصفّ ينظرون إليه بنفس الاحتقار الذي نَظَر به هو إلى الكلب، وما كان ليُعير اهتماماً لاعتقادهم بأنّ الكلب تابع له، لو أنّ الكلب ظل ثابتاً فيما هو يحاول قراءة الجريدة من جديد، لكنَّ الكلب عاود خَدْش بنطلونه وبدا كما لو أنه يَهُمُّ بالتبوّل على قدمه. ربّما لو قام بجولة سريعة وغاض في ذلك الجمع الغفير من الناس لَنَجَح في تضليل الكلب، بيد أنه سيُضيّع الكثير من الوقت، ولسوف يفوته الباص وعليه أن ينتظر بعد ذلك دقائق أخرى قد تطول نصف ساعة. رغم ذلك فضّل أن يمشي، بخطوات سريعة، والكلب دائماً بمحاذاته، محاولاً أن يندسّ حيث يوجد أكبر تجمع بشري حتى لا يستطيع الكلب تحديد المكان الذي يوجد فيه، بعد مئتي متر تبسّم بارتياح: أدار رأسه إلى الخلف، ما من أثر للكلب، أنهى مشواره بخطوات أقلّ سرعة، وانضم من جديد إلى الصف في الموقف ذاته. لم يَر الوجوه المألوفة، فَاتَهُ الباص إذن، وعليه أن ينتظر قدوم باص آخر. فتح الجريدة، وما إن فكّر في وجبة الأكل التي تنتظره في البيت، حتى أحسَّ ببنطلونه يتعرّض للخدش للمرة الثالثة قبل أن يجثم على قدمه ثقل جسم بكامله. تبسّم ظَانّاً أنه مجرّد توهّم، لكن عندما فتح عينيه جيّداً متأكّداً من حقيقة ما يراه عَصَر الجريدة في يَدِه مُحْدثاً جلبةً لم تُثِرْ أدْنَى فزع لدى الكلب. تنهّد تنهيدةَ اغتياظ عميقة بِصَوْتٍ عالٍ محاولاً تهدئة نفْسه، ولو أنّ تنفُّسه بدا مصطنعاً تماماً. وصل الباص بعد دقائق قليلة. صعد ليونسيو. ها هو يبحث عبثاً عن مقعد فارغ، حتى لو لم يتوصّل إلى إيجاد تَبْرير لما يريده الكلب الذي يراقبه من أسفل الرصيف، فلن يشغل نفسه بعد. أمسك بالقضيب العلويّ للباص بيده وركّز بَصره على الجريدة. الشارع المحتقن يجبر الباص على التقدم ببطء لا يقلق البتّة ليونسيو لأنه رجل أعْزب وتحرّكاته محدودة. رفع رأسه لِيَرَى إن كان ثمة مقعد قد شغر. بالعكس، فقد ازداد الباص اكتظاظاً، بدون أن ينتبه هو. عاد إلى قراءة الجريدة وقد علا وجْهَه ذهول رَافَقَتْهُ صيحةُ خفيفة: بتوافق مع تقدّم الباص، كان الكلب يعدو، ناظراً من حين إلى آخر للتأكُّد من أنَّ ليونسيو لا يزال في مكانه. لم ينجح ليونسيو في محاولة تهدئة الموقف بينه وبين نفسه سوى لدقيقة واحدة بعد ذلك. حينئذ فكّر بألَّا أهمية للأمر بتاتاً، عندما ينزل من الباص سيدخل بسرعة إلى شقّته وينتهي هذا التَّنغيص. لم يفارقه الكلب، تَبِعه إلى الشقّة بدون أن يَغفل عنه دقيقة واحدة، وما لم يتمكّن ليونسيو من إيجاد تفسير له هو أن الكلب نجح في التَسلّل إلى مبنى العمارة قبل أن يُغلِق الباب الذي عاود ليونسيو فتحه مرة أخرى مُحاولاً دفع الكلب إلى الخارج بالمعطف. في تلك اللحظة نزلت سيّدة من طابق آخر تسأله عمّا يحدث، لجأ حينئذ إلى إغلاق الباب بدون أن يقدم جواباً، وعاد للانشغال بالكلب من جديد. قد بلغ السَّيْلُ الزُّبى. ها هو راقدٌ – تَصوَّروا – على السَّجاد ينظر إليه بوقاحة. ساخطاً رمى الجريدة والمحفظة والمعطف فوق أحد الكراسي، من المطبخ جاء بِمكنسةٍ ووقف في مواجهة الكلب. ظل الكلبُ ينظر إليه بعينين لَا مباليتين وهو يَتَفادى الضربات بمهارة عجيبة. مُنْهَكاً تخلّى ليونسيو عن المكنسة وانْهَار على الكُرسي فكَّر للحظة معيَّنة في استدعاء الشرطة، غير أنّه وجَد في عدم قُدْرته على التخلّص من الخصم بمفرده شيئاً غير معقول. عزم على فتح الباب ثم الإمساك بالكلب والقَذْف به إلى الخارج بيَدَيْه، لكن بلا جدوى، ما إن حاول الإمساك به حتى أحسّ بتقزّز لا حدود له. أخذ يتجوَّل في الصالة بينما الكلب لا يكفُّ عن النظر إليه باستمتاع، وأخيراً قرّر أن يَتْرُك الكَلْب حيث هو. على أن يَسْعى إلى التخلص منه في الغد، إذ ستكون لديه عزيمة أقوى. بهدوء يتَّجه صوب خزانة الطعام، يخرج بَيْضتين، خبزاً، شكولاتة، ومن الثلّاجة يُخْرج قطعة لَحْم، ويضرب المائدة بقوّة: مستحيل أن أتَنَاول الأكل في حضور هذا المسخ. اعتقد للحظةٍ أنه وَجَد الحلَّ حالما وضع قطعة اللحم في يده، سَيدعُو الكلب ليأخذ اللحم، وما إن يخرج حتى يغلق الباب في لمح البصر. غير أنّ غريمه شَديدُ الاحتراس ويرفض التقدّم إلى ما هو أبعَد من مدخل الباب. لا يهم، بالإمكان مُعالَجته بِركلة تدفعه بعيداً فيكون الخلاص. لدى المحاولة تنحَّى الكلب بسرعة بينما اصطدمت قَدَمُ لِيُونِسْيو بالجدار. بقوّة صفّق الباب وبوجه كلُّه عنف صمّم على الانقضاض على خصمه لِيَقضي عليه مرّة واحدة، لكنّه رَجُلٌ متبصّر، إذ ما إن تصوَّر الأمراض التي يمكن أن تَنْتقل إليه من جرَّاء الاحتكاك بالكلب حتى عَدَل عن الفكرة. الكلب يُحدّق فيه، محتقراً، هادئاً، ساخراً. وليونسيو يتحرّك هنا وهناك باحثاً عن حلّ، وبعد أن أشبع الجدران ضرباً بحذائه، تناول المحفظة وأخرج منها بعض الأوراق تذكّر أن عليه أن يَشْتغل في المكتب على مسألة لا نهاية لها، لكنه ما إن حَاول تسجيل بعض الأرقام حتى رَمَى بها جانباً، ثم دَنَا من الكلب يَشْتم ويلعن، محمِّلاً إياه مسؤولية عدم قُدْرَته على إتمام عمله، وبدون أن يفوه بكلمة مضى إلى غرفة النوم حاملاً شرشف سرير. وقف على بعد ثلاث خطوات من الكلب، بِكِلتا يديه لَمَّ المُلاءة من طرفيها ثم بسط ذِرَاعيه وهو يقوم بحركات صغيرة، مستجمعا قُوّته، زاعقاً أعلى فأعلى ليرتمي ارتماءة بديعة سُمع، لسوء الحظ، صوت ارتطامها القويُّ في الطابق بأكمله. وها هو ينهض صارخاً وقطرات الدم تسيل من شَفَتيه يمرِّر لسانه على أسنانه، ثمة ألمٌ غريب وفظّ. يُهرْول صوب الحمَّام وقبالة المرآة يَفْحَصُ فَمَه من الداخل والخارج ليَكْتَشف أنَّ سِنَّيْه العُلويَّتين البارزتين، تهشَّمتا. أحسّ برغبة في البكاء ولم يستطع أن يبكي. نَزَع ربطة العنق بصعوبة وتركها تسقط على الأرض. اقتلع زِرَّين من أَزْرار قميصه ومضى مترنّحاً إلى الصالة ثم تهاوى على الكرسي. هناك يمكنه المكوث حتى طلوع الصّباح، والنوم بهدوء بدون منغّصات وبأحلام سارّة، لكنَّ ذلك سيكون معناه أن يخسر المعركة، أن يستسلم لِعَدُوٍّ حقير كلَّ هذه الحقارة. بقفزة واحدة استوى على قدميه، جامداً متصلّباً، بعينين بارقتين وبِوجه عدواني يشمّر عن القميص ويصرخ في وجه الكلب، سَأدْحَرُك أيها المسكين. في تلك اللحظة بالذات أحسَّ بالندم لكونه لم يُجرِّب استعمال ذلك المسدّس الذي أهداه إيّاه ابن عمه. بقبضَة يدهِ هدّد الكلب مجاهداً في محاولة تهدئة نفسه، وبينما هو جادّ في البحث عن السلاح المناسب لمعتْ في ذهنه فكرة استخدام السكين، لكن سرعان ما بَدَتْ له عديمة الجدوى، ما دام الكلب سريعاً جدّاً ويجيد المراوغة، لقد اختبره بهجمات المكنسة التي لم تُؤَدِّ إلى شيء. بدأ صبره يَنْفدُ من جديد. بعد مرور ساعة كاملة لم يحدث فيها أي جديد، فجأة تذكّر السُّمّ الخاص بالفئران. ها هو يبحث بقلق عنه وإذ يعثُر عليه ينظر إليه كما لو أنه عَثَر على كنز. خرج وعاد بالَّلحم، نَثَره، مختبئاً في غرفته، بتكتّم شديد، إذ يمكن لِلعينِ أن يفطن لما بُيّت له. وَضَع اللحم في الصّحن وعاد إلى الصالة. لم يجد الكلب هناك بحث تحت الكراسي، رفعها وأعادها مراراً، لكن الكلب غير موجود. تحت مائدة الأكل، ما من فائدة، داخل الخزانة، الخزانة فارغة. في الحمام، الحمام خال. في الغرفة، تحت السرير والمكتب، عبثاً. في المطبخ. ما من أثَر للكلب، أوصلته حُمَّى التفتيش إلى جوارير وأدوات المطبخ. لم يترك شيئاً ولا مكانا لَمْ يفحصه بتدقيق حتى آخر رُكْنٍ وهو يصرخ، لا تَهْربْ يا كلب لا تهرب. مصاباً بالإحباط من ذاته هو. إنَّه ينتحب الآن قليلاً، يعود إلى الاستلقاء على الكرسي، واضعاً وجهه بين يديه، خَجِلاً من فشله، قبْلَ أنْ يتنّبه إلى أنّه ترك الباب مفتوحاً. أخذ يُؤَنّب نفسه مُغتاظاً، مرّات ومرّات، ثم تناول اللحم من جديد. وبقطعة اللحم في يديه، حينئذ، خرج إلى الشارع لِيَبْحَث عن الكلب في كُلِّ مكان. ...................................... * ولد لويس فياض في بوغوتا عام 1945، نشر روايتي: «أقْرِباء إستير» (1978) و«رفقاء السفر» (1982). يقيم منذ عقدين من الزمن ما بين برشلونة وباريس وبرلين. لديه مجموعات قصصية منشورة عديدة. دريك كان اسمه جينوبيبو بالومو فرناندو كروث كرونفلى* كان دريك يَمْشِي بِرَأْسٍ مُنْحرف طَوال الوقت مثل إوزّة، وكان يضع بُرنيطة سوداء مشبّعة باليود وبطبقات من الملح بإمكانها أن تُتَبِّلَ إنَاء طاقم ملّاحي بأكمله. كان لديه جُرح رَتَّقُوهُ له بخياطة غليظة في القفا تَسبَّبَتْ في تَغْضِين الجهة اليمنى من الذَّقن، وكل من كان يعرفه اعتقدَ أنَّ استخدامه المعوَّج للرأس إنما سبَبَهُ الخياطة تلك. كان بحاجة دائماً إلى اتّساع مترين لكي يتمكّن مِنَ المشي. عندما عاد من مغامرته البعيدة في السفينة العتيقة الراسية على الرصيف، كان يمشي وكأنَّه يحمل درابزينات وأسلاكاً بحريَّة متخيلة في شوارع الميناء، نافثاً من منخريه الدُّخانَ ومن فمه، لأنَّه اختار حينئذ أن يدلِّي من أسنانه غُلْيُوناً شَمالياً، ما لبث دُخانُه الأول أن أحْرَق لسانَه، وهو ما نَفَعَهُ في التخلِّي عن التدخين فيما بعد. لذلك ظَلَّ مُحتفظاً، في حالات الضحك أو نوبات الغضب، بما يشبه الجُذُور الصفراء المرسومة بتبغ مَبْروم والموشومة بعلامات زمنٍ قديم. عندما تسلَّق دريك، قبل سنوات عديدة، أول مركب في حياته، كان اسمه جينوبيبو بالومو (Genovevo Palomo)، حينئذ لم يكن يسير برأس منحرف جهة اليمين، كان يَضَع قُبّعة بريَّة وليس برنيطةَ رجل بحري، ولم يكن يُبَلِّل صمته أو كلامه بدخان الغليون ساحباً إياه صوب الداخل أو الخارج، كَمَا لَمْ يَكُن يحمل ذَلِك الجرح في ثنيّة عنقه. لقد كان باختصار، الشابَّ جينوبيبو الجَبَان، لَكن، المتلهِّف، كذلك إلى رجال البحر ومغامراتهم. ذات يوم من أيام شهر أكتوبر رأى جينوبيبو بالومو الشَّيخَ الشَّهير القَبطان هُوبْر يوسطاك (Hoover Yostak) للمرة الأولى. وهو الرجل الذي وصل – حسب الأقوال – إلى أَصْقاع شاسعة نائيةٍ وكان على أهبة الإبحار باتجاه شَسَاعاتٍ عديدة أخرى، حينئذ عقد جينوبيبو العزم على نَفْض غُبار جزمته بِطَرف خرقة تنظيفٍ طيلة الاثني عشر يوماً والاثنتي عشرة ليلة، المُدَّة التي أمضَاها الجسر العوَّام مربوطاً إلى رصيف النزول؛ لقد دُهشَ لِكميَّات الرُّزِّ الملتهَمة وحَسَكات السمك المتروكة على شرشف مائدة الزاوية، خلال اثنتي عشر وجبة، أوضاع الصحون تلو الصُّحون التي كانت أمُّه ميناندرا تُرسِلُها من داخل المطبخ، بينما هو يوسطاك يُضاعف الضوضاءَ بأصوات احتسائه الشوربةَ وَمَصِّ الأصابع تلمُّظاً، متجشّئاً الخَمْرَ أو الجعّة، حسب المزاج؛ كما لَوْ كان يبغي رواية حكاية مُرَّة كانت تنفلت من العمق المعتم لأحشائه أو للياليه المضيَّعة أو المغنومة؛ لقد أُعجبَ الفتى بذلك الرجل، بتينك العينين الساحرتين، والوشم المرسوم على منطقة الذراع بمداد مُلوّن، بَلْ وأَحَسّ حَتَّى بما يشبه الغيرةَ من عدم ظهور علامات المسافات السحيقة على وجهه، تلك التي عادةً ما يمنحها الإبحار المتواصل في أعالي البحار والتي أخْمَدَتْ عيني القبطان هوبر. وهكذا، جاء جينوبيبو، ذات يوم، واقعاً يَدَيْهِ على خاصرته، بعدما قرَّر بصفة نهائية أن يُجرِّب حَظَّه (مع سمك القرش!) وقال: - قبطان! كيف تراني كمقدِّم لوجبات الطعام في السفينة؟ ثم فتح عينيه وأضاف: - بإمكاني أن أغسل الثياب، وأن أسَلِّم وأَسْتَلِم الطرود البريدية وأن أقوم بكل ما يُعرض عَلَيَّ من خدمات. عَلَّق هُوبر يوسطاك مركّزاً نظره على جينوبيبو: - أفضّل أُمَّك ميناندرا أكثر منك، لم أطلب منها بَعْد أنْ ترحل معي. كان هوبر يوسطاك سكراناً، إذ ما لبث أن أَلْقَى برَأْسه على حافَّة المائدة، ثم أطلق صفيراً رتيباً كما لو أنَّ سراطين البحر التي انتهى من التهامها عشيّةً لم تَكُفَّ عن الزَّعيق داخل بطنه. جينوبيبو أمضى الليلة تلك بتمامها واقفاً أمام مرآة متعدّدة الأوجه، متخيِّلاً، وقد ضاق ذرعاً بالقبطان هوبر، بُرنيطة سوداء مثبتة على رأسه، وبين شفتيه يرتعش غليون غير مَبْروم التبغ كذاك الذي يستعمله هوبر، حتى أنَّه رَسَم على ذراعه بالرِّيق وبفحم الموقد خَطّاً بطرف مِكْنسةٍ ليؤكد بأنَّ الأمر يتعلَّق، وإنْ بالتفكير المحض، بنخلةٍ على شاطئ كشيف. ولو أنَّ أطراف الرسم قد آلَمَتْهُ كثيراً، بحيث ظَلَّ يتكلَّم بأصواتٍ شَتَّى حَتَّى الساعات الأخيرة من الليل. عندما عاد هوبر يوسطاك ليأخذ جلسته على مقعده وهو يجول بعينيه المستيقظتين يَمْنةً ويُسرةً، كان جينوبيبو مَذْهول اللُّبِّ، منهمكاً في كَنْسِ بقايا الأطعمة التي فَضَلت من ليلة أمس، مغنيّاً ومتلفِّظاً، علاوة على ذلك، بكلمات الغَزَل للفَضَلات متَّخذاً كُلَّ حيطته خِشْيةَ ألَّا يُولي الاحترامَ اللَّازم لكراسي الخَشَب وللطاولات العتيقة ذات الألواح الفاقدةِ البريقَ، وأثناء ذلك الصَّخب التلقائيِّ، قال القبطان العجوز مُقَطّباً حَاجبيه حتى يستعيد الروح المشتّتة ما بين الأثاث والصور الفوتوغرافية على الجدران، قال مستخدماً هذه المرة صوتاً خَفِيّاً لم يسمعه أحد سواه: - هذا الفتى يَمْلِك مَوْهبة أن يَعِيشَ الأَشْياء بِحُبٍّ. مَسَحَ رَغْوةَ البيرة عن فمه وأنهى قوله: - سوف تَذْهبَ معي. منذ ذلك الزمن الذي سبق الرحيل الكبير بقليل، أصَرَّ هُوبر يوسطاك على أن جينوبيبو بالومو مُؤَهَّل تأهيلاً روحياً لغسل الثياب الوسخة بالصابون في أعالي البحر، ولتنظيف الأرضية الخشبيّة بالفرشة... وهكذا قُيِّض لابْنِ صَاحبة حَانِ ومطعم «جولة حول العالم» أنْ يُهَيِّئ جفنيه لطريقة النَّظر البَعِيد للقَباطنة، وَضَعَ برنيطةَ وَرقٍ مقوَّى على رأسه، رَبَط أطراف القميص عن مستوى السُّرَّة، ثُمَّ رَحَلَ في النهاية مع هوبر يوسطاك، تَارِكَيْن ميناندرا ممسكةً بقاعدة درابزين الرصيف، كما لو أنَّها هِيَ الَّتي كَانَتْ تمضي ممتطيةً صِقَالات بُخارٍ أَرْضيٍّ، وَهْيَ تَرَى ابنها يَرْحَل. أَسْرَعَتْ إلى نفض الغبار عن مخزون ذاكرتها البعيد، تذكَّرتْ وليدَها وهو يلعب بزوارق من وَرَقٍ في البِرَك السوداء في شارع «طرافابال»، خلال المهرجانات المطريّة صُحْبة رفيقه شيُومورون (Cheo Moron). لَمَحَتْهُ أيضاً، وهو صغير جداً، يلعب لُعبَة الأبواق مُتَسَلِّقاً الكراسي أو سارحاً بين طاولات المتجر. بعد ذلك تذكَّرته مُستنداً إلى دَرابزينات الرَّصيف، كَما لَوْ كان يَحْلُم بِمَناطق نائيةٍ، وفكَّرتْ أنَّ تِلْك كَانتْ من نَزَواتِ المُرَاهقة التي انْتَهى إليها. أخيراً تخيَّلَتْ حقيقةَ كَوْنِ الزَّمن غالباً ما يجيء مُبقَّعاً بالأسفار فَوْقَ جُثث الهالكين، مثل طَلاء بأَلْفِ شكل ولون، حينئذٍ ظلت متشبِّثة بالدرابزينات، مستشعرةً، في العينين رفرفةَ البرنيطةِ التي كان القبطان هوبر يوسطاك يحرِّكها من أعماق الخليج، بينما يَدُه الأخرى على كتف جينوبيبو الذي يُكن لم يُحرِّك أيَّ قبّعة مِن أيِّ شكل، لَكْنْ يَدَاهُ مرفوعتان إلى أعلى مع نظْرةٍ تستبصر مالا تَرَاه. ولَمَّا لم تَعُد السفينة المُطقْطِقة تَظْهر للعين، أحَسَّتْ مِينَانْدْرا بِأنَّ مشاعرها صارت تكتسي مرارةً لا تُقَاوم، لأنها كانت تَعْلَم بيقين تامٍّ أن البحر يُجوِّف قلوب الرِّجال ويَحجِّرُ أرْوَاحهم؛ مع كُلِّ إبحار بعيد، إلى غير رجعة. وَمَا إن غاب جينوبيبو مَرَّةً واحدة، متابعاً طرق البحر المتجعِّدة مَحشُوراً في ذلك الصُّندوق الخشبي الذي يقوده القبطان هُوبر حَتَّى حَسَمت الموقف بالقول: لقد مَضَى ليُنْجب مثله تماماً، أَبْناءَ من البحر، مَعاً وُلدا من بحَّار مجهول.. ثم عادت لِتُزاول مهامها وهي تَمْسَحُ دمعتَها الأخيرة. ........................... * ولد فرنادو كروث كرونفلى في بوجا (Buga) عام 1943. نشر الروايات التالية: «حجرة مشتعلة» (1979)، وفازت بجائزة مدينة بلباو، «مؤلف الحلم» (1984)، رَمَادُ المحرِّر«(1987)،«طقس العزلة»(1992)، كما نشر مجموعة قصصية عام 1989 تحت عنوان:«المدائح والمكائد».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©