الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هوى.. من اتبع الهوى!

28 فبراير 2017 23:46
عجبت للناقص في ذاته ويبحث عن الكمال في غيره.. وعجبت لناصح غيره كيف لا ينصح نفسه. وعجبت لضال يود هداية غيره. عجبت لأنف تشم روائح الجميع إلا رائحة نفسها وصاحبها. وعجبت لظالم يثور على ظلم غيره. وعجبت لفاسد ويفسد وينادي بالإصلاح - ويحاول الإصلاح بأدوات الفساد. وعجبت لمن يفتح دكاكين لحقوق الإنسان ولا يؤدي واجبه. وعجبت لمن يقول إن الإسلام سبق جميع المواثيق الدولية والحضارات العالمية في الدعوة إلى حقوق الإنسان. عجبت للائم وهو ملوم. وعجبت لمفسدين ولا يشعرون ويصرون على أنهم مصلحون. عجبت لمن يرى القذى في عين الآخر ولا يرى قطعة ضخمة من الخشب في عينه. عجبت لجعل الدين تابعاً للهوى وليس الهوى تابعاً للدين. عجبت لتفصيل الإسلام والقرآن على مقاس الاكتشافات العلمية والمواثيق الدولية. عجبت للتنطع فيما يسمى التفسير العلمي للقرآن الكريم والقول إن القرآن قال ذلك قبل أربعة عشر قرناً. لم يحدث في أي موضع من القرآن والسُنة أن دعا الإسلام إلى حقوق الإنسان – لأن الإسلام ليس ديناً تحريضياً على الفوضى. وكذبة حقوق الإنسان هذه إنما اخترعها الفوضويون والماسون وأجهزة الاستخبارات العالمية لتأجيج الصراعات والتدخل في شؤون الدول والشعوب بذريعة حماية حقوق الإنسان. الإسلام قدم حلاً عظيماً للمعضلة – فلم يقل أبداً خذ حقك – ولكنه قال: أد واجبك. الإسلام بين فعلين وتكليفين – افعل ولا تفعل – واجبك ومسؤوليتك أن تفعل. وواجبك ومسؤوليتك ألا تفعل (أد الأمانة إلى من ائتمنك – أي افعل – ولا تخن من خانك – أي لا تفعل). لم يقل الإسلام خذ حقك، ولكنه قال: أد واجبك يأخذ غيرك حقه – فواجبك حق غيرك وواجب غيرك حقك. فإذا لم تؤد واجبك، فلن يأخذ غيرك حقه، وإذا لم يؤد غيرك واجبه، فلن تأخذ حقك، ودعوات حقوق الإنسان تحريض على الفوضى والفتنة. وإذا ترك لكل امرئ تحديد حقوقه، فإنه سيأخذ حق غيره – وهي دعوات إلى العنف والإرهاب وما يسمى في مصر (البلطجة – وما يسمى في الشام (التشبيح) – وعندما انتشرت دعوات حقوق الإنسان وتكونت لها جمعيات ومنظمات تحولت الحكاية إلى مهنة تدر ربحاً مقابل نشر الفوضى والتمرد والخروج على الدول الوطنية – وأصبح الحل في الشارع والميدان ولم يعد في المؤسسة والبرلمان، وفي دول الخريف العربي سقطت الدول ولم تسقط الأنظمة لأن الهدف كان إسقاط الدول لا إسقاط الأنظمة – وإسقاط الدول يعني انهيار هيبتها وتحول حكامها إلى جيف حولها النسور بعد أن كانوا نسوراً حولها الجيف – ويقال: «خير للرعية أن يكون السلطان نسراً حوله الجيف لا أن يكون جيفة حولها النسور» – وقد أدى «الخريف العربي» إلى تسلط وديكتاتورية الشارع بدلاً من تسلط وديكتاتورية النظام. وصارت الدول تنافق الشعوب بعد أن كان فريق من الشعب ينافق الدول. وأصبح كل امرئ في دول الخريف دولة داخل دولة – وسادت الأيدي المرتعشة لدى مؤسسات الدول الخريفية. والمطلوب عرفاً وشرعاً أن تكون الشعوب قوية وذات بأس، لكن الأمر للسلطان أو الحاكم – وهذه تقسيمة عبقرية وردت في سورة النمل عندما قال الملأ من أهل سبأ للملكة بلقيس: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ).. وقبل هذه الآية العظيمة قالت بلقيس للملأ: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى? تَشْهَدُونِ) ولم تقل حتى تأمرون.. بل حتى تشهدون – أي أن الرأي لكم والأمر لي. وبالفعل كان اتجاه الملأ أو الشعب إلى الحرب وقتال سيدنا سليمان، بينما كان أمر الملكة بلقيس هو اللجوء إلى الطرق الدبلوماسية، وكان لها ما أراد الله وما أرادت. وتلك هي الديمقراطية التي وردت في القرآن الكريم بإيجاز شديد يحتاج إلى مجلدات بشرية (الرأي للشعب من خلال الملأ – والملأ هم النخبة أو هم المؤسسات التي تدير البلاد – والأمر في النهاية للحاكم)، أما أكذوبة (الشعب يريد إسقاط النظام) التي وردت في فتنة «الخريف العربي»، فهي هتاف البلطجية والشبيحة وعصابات حقوق الإنسان التي عملت على إسقاط الدول لا إسقاط الأنظمة – وما زالت تداعيات هذه الفتنة ومظاهرها قائمة في دول الخريف حتى اليوم. وفي دول الخريف العربي كنا وما زلنا نشهد وقفة احتجاجية أو مظاهرة يشارك فيها أقل من مئة بلطجي تحت مبنى أي مؤسسة أو وزارة ويهتفون: الشعب يريد رحيل أو إسقاط الوزير أو رئيس المؤسسة.. مئة شخص أو أقل يهتفون: الشعب يريد.. الشعب كله يتم اختزاله في مئة بلطجي أو شبيح – والأدهى أن الوزير يرحل ورئيس المؤسسة أو رئيس الجامعة يسقط فعلاً. ويأتي البديل وتتكرر معه المهزلة، حتى صارت الأيدي مشلولة لا مرتعشة فقط – وأصبح هم الدول الخريفية هو البحث العبثي المستحيل عن حل يرضي جميع الأطراف – وصارت المواقع والمناصب رخيصة ويعزف عنها المحترمون والأكفاء. وتوقف تماماً دولاب العمل وعجلة الإنتاج لأنه لا يوجد في الكون، وفي هذه الدنيا حل يرضي جميع الأطراف، ولا قرار يعجب الكل، وفقد المسؤولون في الدول الخريفية القدرة على اتخاذ القرار وطبقوا شعار (يبقى الوضع على ما هو عليه ولا نريد وجع الراس) – رغم أن المبدأ السائد والراسخ هو أن أي قرار في الدنيا مهما بلغت دقته ومصداقيته وعدله لا بد أن يرضي فريقاً ويغضب فريقاً آخر – فريق يراه قراراً عادلاً ومنصفاً ومنطقياً، والآخر يراه ظالماً ومجحفاً وغير منطقي – لماذا؟ لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرى الشيء أو الأمر كما يريده هو لا كما الشيء عليه فعلاً – وتقول العرب في حكمها ومواعظها العظيمة: من شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة (أي الحكام)، وتحجر العذر عليهم (أي تضييق الأعذار وعدم التماسها لهم) وإلزام اللائمة لهم (أي المعارضة والرفض دائماً) ورب ملوم لا ذنب له - ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة (وأقلامهم ومواقعهم أيضاً) لأن رضا جملتها واتفاق وموافقة جماعتها من المعجز الذي لا يُدرك، والممتنع الذي لا يملك، ولكل حصته من العدل ومنزلته من الحكم. فإلى متى نتبع الهوى، وتتفرق بنا السبل؟ وإلى أي هاوية يهوي بالناس الهوى؟ وقد هوى من اتبع الهوى! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©