الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البلدوزر

29 يوليو 2007 00:54
ليته انهال عليهم بعصاه، وطاردهم بحجارته العمياء وشتائمه البذيئة حتى آخر الكون··· غاب ''البلدوزر'' عن القرية قرابة جيلين أو ربما أكثر، إذ لم ينتبه أحد إلى غيابه، وعندما عاد لم يهتم أحد بعودته· لكن شيئا واحدا جعل من يلتقيه صدفة ينظر إليه باستغراب، هو حجمه· فعندما غادر زهران القرية كان نحيلا ضئيل الحجم، وعندما عاد بدا وكأنه احتوى في جسده بضعة رجال أشداء بلا عقول··· لأن دماغه بقي على حاله· دماغ مسطح يبرر لأهالي القرية التسميات التي يطلقونها على صاحبه: المعتوه، أو المجنون، أو الأهبل· وكلما كانت تلك التسميات تتناهى إلى مسامع المعني بها كانت استجابته المستفزة لها تؤكدها، خصوصا عندما يتراكض الأطفال خلفه يهزأون به، فيرد عليهم بما يطاوعه لسانه من شتائم، ثم ينكفئ إلى حيث لا يراهم ولا يرونه· لم يغير أهالي القرية تسمياتهم لزهران إلا عندما استفاقوا ذات صباح ليجدوه وقد بدأ بتنفيذ المشروع الذي سعوا وراءه عشرات السنين وعجزت البلدية وكل أجهزة السلطة المحلية عن تنفيذه· كان في أعلى التل الصخري المطل على القرية مسجد قديم· لا يجزم أي من عواجيز القرية من بناه أو في أي عهد· يحتل ذلك المسجد قلوب المؤمنين، مثل احتلاله لقمة التل، ويتكبد الكثيرون عناء الوصول إليه خلال طرق وعرة ملتفة لأداء الصلوات الخمس أو بعضها، وبطبيعة الحال صلوات الأعياد· جهد الأهالي عبر السنين لتوسيع الدرب ''القادومية'' الموصلة إلى المسجد، واستعانوا بمن استطاعوا لكي يرسموا خرائط لطريق تسلكها السيارات، ومارسوا ضغوطا على الجهات الرسمية لكي تساعدهم على تنفيذ تلك الخرائط··· وفي كل مرة كان الفشل حليفهم· في ذلك الصباح حوقل الرجال كثيرا، وتبادلت النساء عبارات ساخرة، عندما وجدوا زهران يحفر في الدرب الوعرة ابتداء من أسفلها· كانت أدوات زهران هو ما يستخدمه فلاح بسيط: ''معول'' و''رفش'' و''مهدة'' حديدية· بدا هذا الرجل المجنون للجميع وكأنه يحفر جبلا بإبرة خياطة، ومع ذلك لم يحاول أحد أن يثنيه عن عمله، وهو لم ''يفهم'' كثيرا التعليقات التي يطلقونها عندما يمرون به· بعد أسابيع انتبه بعض الرجال إلى أن زهران قد أنجز فعلا توسيع بضعة أمتار من الطريق وفق المواصفات التي كانوا يخططون لها· لم يعترف أحد جهارا بهذا الإنجاز، لكنهم أخذوا يرقبونه شبرا شبرا، ثم تجرأ الواحد تلو الآخر على مد يد العون· تبرع الحاج ابراهيم بعربة يد صغير لنقل الأتربة، وجاء أبو محمود بـ ''مخل'' حديدي طويل لتقويض الصخور بعد أن تكون مطرقة زهران قد زعزعتها· تقبل زهران كل الأدوات التي جاءه بها الأهالي بصمت وبدون كلمة شكر، لكنه أبى أن يشاركه أحد حتى بإزاحة صخرة كبيرة· لكنه فجأة ثار وحمل ''معوله'' وهاجم كل من كان بقربه عندما سمع أحد الشبان يقول: إنه مثل ''البلدوزر''· بدت هذه العبارة وكأنها أكبر من أن يحتملها الرجل الذي يقوم بعمل ''البلدوزر'' فعلا· احترم البعض هذه الثورة، لكن كثيرين من الشبان وخصوصا الأطفال صاروا يستثيرون زهران بمناداته بعبارة ''البلدوزر''· لشهور ظل زهران يتقدم في شق الطريق شبرا شبرا، ومع كل خطوة إلى الأمام راح الأشقياء والأطفال يستحلون ردود أفعاله عندما يطلقون عليه اسم ''البلدوزر'' فيثور، ويطاردهم بعصاه وبحجارته العمياء وشتائمه البذيئة حتى يغيبوا عن ناظريه، فيعود إلى طريقه يشقها كما يفعل ''البلدوزر'' ولكن ببطء·· عند المنعطف الأخير قبل أمتار من وصول الطريق إلى المسجد، كشف ''زهران'' رأس عامود يشبه تلك الأعمدة التي كانت ترتفع فوقها هياكل البيوت القديمة· احتار الأهالي في تأويل هذا الإكتشاف· بعضهم قال إنها آثارات فينيقية، وآخرين نسبوها إلى الرومان، فيما جزم الشيخ عثمان بأنها عثمانية، وبأن هذا المكان هو بيت الناسك الذي بنى المسجد· قبل العيد بأسابيع أكمل زهران مهمته، فاحتفل الأهالي وصعدوا على الطريق المريح إما بالسيارات أو مشيا على الأقدام· كلهم كانوا هناك ما عدا ''البلدوزر''، الذي غاب عن الاحتفال· أصبح اسم ''البلدوزر'' محطة مشتركة على ألسنة الناس· يلهجون به إما إعجابا أو استغرابا، لكن ''البلدوزر'' نفسه كان يعتبر التسمية إهانة لا تحتمل، فينفجر غضبا في كل مرة يسمع بها هذا الاسم· وأصبح أي تجمع لعدد من أطفال القرية مدعاة لثورة زهران مفترضا أنهم يشتمونه باسمه الجديد··· وبدورهم أخذ الأطفال يعرفون كيف يستثيرونه بتضاحكهم حتى ولو لم يتلفظوا باسم ''البلدوزر''· مثلما كانت الطريق قبل شقها تصنع من أحلام أهل القرية حكايات، فإنها بعد شقها أصبحت حكايات الطريق و''البلدوزر'' تصنع لحياة القرية رتابتها الممتدة· وحده أحمد ابن الإثني عشر عاما وشلته المكونة من سعيد وهشام ورابح قرروا الخروج من رتابة القرية بالعودة إلى الطريق عند المنعطف الأخير حيث العامود القديم الذي تناساه الجميع· قاد أحمد شلته إلى هناك يحملون فأسا ومعولا للحفر حول أساس العامود· كان أحمد يعتقد أن كنزا يختبئ هناك· وبدأ مع أقرانه الحفر، وما هي إلا ضربات حتى عثروا فعلا على الكنز أو ما يشبه الكنز: سكين معكوف ينفتح على عدة مراحل أكله الصدأ· ثم ضربات أخرى لتظهر سبحة انفرطت حباتها وانبرى خيطها، لكن عدد الحبات كان مكتملا· تحمس الأولاد وأوغلوا أكثر في الحفر فلمعت قطع معدنية لونها أصفر حائل· كانت فرحتهم غامرة عندما اكتشفوا أربعة ''براغيث'' ذهبية عثمانية، وهي عملة ذلك الزمن· قال أحمد لزملائه: إذا حفرنا أكثر سوف نجد أكثر· وانكب الجميع يحفرون بنشاط حول رأس العامود، ولم يمر وقت حتى ظهرت لهم كتلة معدنية بدت وكأنها حجر أصم· تناولها أحمد وبدأ يكشط التراب العالق بها، فأخذ شكلها يظهر كبرتقالة حديدية ذات أضلاع· وما أن أزال آخر ما تبقى من تراب، حتى صاح الجميع بصوت واحد تقريبا: إنها قنبلة· قنبلة يدوية كانت بانتظارهم هناك· جلس الرفاق الأربعة يتداولون في أمر ما اكتشفوه: نرميها، نأخذها، نسلمها للمختار، نعطيها للمخفر··· لا، نحن الذين وجدناها ونحن نفعل بها ما نشاء· فهي كانت بانتظارنا··· هل جاء الاقتراح من واحد منهم؟ من؟ احمد؟ سعيد؟ هشام؟ رابح؟ أو ربما خرج على ألسنتهم جميعا كسيمفونية جنائزية؟ فلنشعل نارا ونلقها فيها، ولتكن للقرية حكاية تخلصها من رتابة أكلت أيامها ولياليها بالصدأ· جمع الأولاد من المكان كل ما وجدوه من قش وحطب، صنعوا منه تلا صغيرا فوق التل الصخري الذي قهر دروبه الوعرة ''البلدوزر''· حشوا قنبلتهم داخل ذلك الهشيم الوحشي، وأشعلوا عود كبريت··· وقبل أن يلقموه لتلّهم الجاف، أطل ''البلدوزر''· أطفأوا عود الكبريت· انتظروا مروره، تهامسوا، تضاحكوا، دلوا بأيديهم عليه، أداروا ظهورهم مستعدين للفرار عند أول شتيمة تبدر منه· لكنه عبر بهم كدفقة هواء، كهبة ريح ندية، كرؤية لم تكتمل، كوجع استكان أو أصبح ممكن الإحتمال·· عبر بهم هادئا في لحظة اشتعال، وسار هابطا على الطريق التي شقها بذراعيه، لم ينهل عليهم بعصاه، ولم يطاردهم بحجارته العمياء وشتائمه البذيئة حتى آخر الكون··· وليته فعل···
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©