الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فتش عن العقل العالة.. لتعرف تشخيص الحالة!

3 فبراير 2015 22:59
لعله زهير بن أبي سلمى شاعر المعلقات الشهير الذي قال: ما نرانا نقول إلا معادا من شعرنا مكرورا.. ولعله الشاعر القديم دعبل الذي قال: إني لأفتح عيني حين افتحها .... على كثير ولكن لا أرى أحداً هذان القولان يمكن تطبيقهما بالنص على ما يجري في الساحة العربية، فنحن نقول معاداً ومكروراً في السياسة والدين والثقافة وفي مقالاتنا وتحليلاتنا. وأنت حين تفتح عينيك ترى ملايين الأقوال بلا أفعال، وملايين الناس بلا فائدة ولا جدوى وملايين المقالات والتحليلات بلا مردود. تسمع كثيراً من الجعجعة والجلبة والضوضاء ولا ترى طحناً. وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: حين تسمع قول طرفة بن العبد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم.. وبقيت في خلف كجلد الأجرب: ماذا لو أدرك طرفة زماننا هذا؟ وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: ماذا لو أدركت أم المؤمنين زماننا هذا؟ وجاء من يقول: ماذا لو أدرك الحسن زماننا هذا؟ وسنظل نقول ذلك إلى يوم القيامة؟ نفس الكلام والخطاب المكرور والمعاد الذي كان جيداً وحكيماً حين قيل لأول مرة، لكنه صار سقيماً حين أعيد مئات المرات. وصار أيضاً عقيماً، معنى ذلك أن العقل الجمعي العربي أصابه العقم، ولم يعد يلد أفكاراً ولا مفاهيم ولا قيماً، العقل الجمعي العربي لم يعد منتجاً ولكنه صار مستهلكاً. صار عقلاً عالة ومقلباً ومكباً للنفايات الفكرية سواء من الماضي أو من حاضر الآخرين في الغرب والشرق. والمأساة ليست الاستهلاك المادي، بل إنها الاستهلاك الفكري، فنحن كما نستهلك سلع السلف وسلع الغرب والشرق بصرف النظر عن فسادها وانتهاء فترة صلاحيتها، فإننا أيضاً نستهلك أفكار السلف وأفكار الغرب والشرق غير المطابقة للمواصفات وغير الصالحة للاستهلاك العقلي. والعربي ينقل بلا عقل، وليته ينقل بعقل أو حتى يعقل بلا نقل. ولن أتنازل عن رأيي، بأن أزمة الخطاب العربي هي أزمة المخاطب وليست أزمة المتكلم، أزمة المتلقي وليست أزمة الملقي. وكل سلعة تروج وتنتشر حتى إذا كانت فاسدة مسؤولية المستهلك وليست مسؤولية المنتج. وكذلك كل فكرة فاسدة تروج لأن العيب في المتلقي وليس في الملقي. ونحن في حاجة إلى إصلاح المخاطب لا إصلاح الخطاب. نحن في حاجة إلى إصلاح التربة لا إصلاح البذرة التي تلقى فيها. والعقل الجمعي العربي تربة غير صالحة إلا لنمو النباتات الشيطانية والأشواك والحشائش والصبار. ولقد جربت مراراً وتكراراً أن أسبح ضد تيار العقل الجمعي العربي ونجحت التجربة في كل مرة. فالفيلم الذي يفشل جماهيرياً ويتم رفعه من دور العرض بعد أسبوع من عرضه أبحث عنه في كل مكان لأشاهده على شريط فيديو وأكتشف أنه فيلم رائع.. والفيلم الذي (يكسر الدنيا) على رأي أهل الفن ويستمر عرضه كل خميس أسبوعياً لا أشاهده أبداً لأنه بالتأكيد فيلم تافه وسطحي.. والكتب الأكثر مبيعاً في الأمة العربية هي كتب الدجل والخرافات والهلاوس والضلالات المسماة دينية وكتب الجنس والإباحية. والطبيب الأشهر هو الأقل كفاءة والإعلامي والإعلامية الأشهر هما المتخصصان في برامج العفاريت والجنس والإثارة السياسية التي صارت تماماً مثل الإثارة الجنسية والإباحية الدينية التي صارت مثل الإباحية الجنسية. في مصر يقول المثل العامي (اللي تكسب به العب به).. والحصان الرابح عند العقل الجمعي العربي هو الخطاب المعاد المكرور التافه، لأن العقل الجمعي سقيم عقيم.. وقبل أن تعيب انتشار الخطاب السطحي السقيم اسأل أولاً: من السبب في رواجه وذيوعه؟ هي المسلمات التي يتبناها القطيع وأزمة البديهيات التي اختلقها هذا القطيع وأزمة الخطأ الشائع الذي عندما شاع تم التسليم به واعتماده ورفض تصويبه.. فالمبرر عند من تقول له إن هذا خطأ هو أن يقول لك إنه خطأ شائع ولا بأس من استخدامه. فالشيوع هو مبررنا للإصرار على الخطأ ولو كان فادحاً، والشيوع هو الذي يجعل الخطأ صواباً، والصواب يكون هو الخطأ لأنه غير شائع. ومن مساوئ العقل الجمعي العربي أنه يهتم بمن قال ومن كتب ولا يعنيه ما قيل وما كتب.. المهم عند القطيع هو من قال ولو أخطأ ومن كتب ولو كذب، أي هي رذيلة الشخصنة، أو رذيلة إعلاء الذات على الموضوع. آفة العقل الجمعي العربي أنه يعرف الحق بالرجال، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: يعرف الرجال بالحق. لكن القطيع أو ثقافة القطيع تعطى الخطاب لكن القطيع أو ثقافة القطيع تعطي الخطاب أهميته من خلال الشخص الذي قال أو ألقى الخطاب، فإذا أحببنا الشخص فهو على حق ولو قال باطلاً، وإذا كرهناه أو احتقرناه فهو على باطل وإنْ قال حقاً. القطيع يحب ويريد من يفكر له ولا يريد من يفكر معه، لذلك بنيت كل مذاهبنا وثوراتنا وجماعاتنا وتنظيماتنا وأحزابنا على أشخاص لا على مبادئ وقيم وثوابت وموضوعات فإذا زال الأشخاص انهارت المنظمات والجماعات والأحزاب التي أقاموها. ولذلك أيضاً لا تعيش فينا ولا بيننا ثوابت ولا قيم ولا مبادئ، لأن عمرها مرتبط بأعمار الأشخاص. نحن نعرف الحق بالرجال، ولا نعرف الرجال بالحق. فالحق ما قاله الذي نثق به، أو يعجبنا صوته أو ملامحه ولو كان باطلاً. والباطل هو ما يقوله ذلك الذي لا يعجبنا ولو كان حقاً. أزمة الخطاب العربي هي سهولة خداع المتلقي والضحك على الجماهير بشعارات براقة مثل «الإسلام هو الحل» أو غير ذلك، لكن لا أحد يسأل أبداً.. كيف يكون ذلك؟ والتركيز على إصلاح الخطاب لا جدوى منه لأن المشكلة في الجمهور. زمان سأل المطرب المصري الراحل محمد قنديل الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب: لماذا يا أستاذ انتشر الغناء الهابط والتافه وتدهورت الأغاني الجادة والألحان والكلمات الراقية؟ فقال عبدالوهاب: لأن الجمهور مات! وهذا ينطبق على كل شيء هابط وتافه ينتشر. السياسة الهابطة والإعلام الهابط والفن الهابط والثقافة الهابطة والتدين الهابط، فتش عن الجمهور الذي مات، فتش عن المتلقي ولا تفتش عن المرسل، فتش عن العقل العالة لتعرف تشخيص الحالة! محمد أبو كريشة * * كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©