السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كشف بين النص التوراتي وجغرافيته

كشف بين النص التوراتي وجغرافيته
16 مارس 2008 04:11
تلك كانت قراءة خارج صناعة التاريخ وإعادة تشكيل الجغرافيا في المخططات الاستراتيجية الغربية، التي أصّلت لما أسمته بحق العودة لليهود مدعوماً بوعد إلهي، وبذلك شوهت التاريخ والجغرافيا، وهو ما كشفه الباحث العراقي الدكتور نوري المرادي في كتابه الجديد ''شنعار أرض اللاهوت ومدفن الأسرار''· قبل الولوج في قراءة الكتاب علينا المرور عبر المقدمة التي وضعها الناشر، صاحب ''دار الحصاد'' لأنها تحضرنا على المستوى المعرفي لإدراك كنه الموضوع الذي بين أيدينا، ذلك لأن هذا الكتاب كما يقول مؤلفه في المقدمة: ''·· مضغوط المحتوى جدا، لذا قد يتعب المطالع، وقد يدفعه أحيانا لإعادة قراءة النص الواحد مرتين، وعلى هذا اعتذر مقدماً'' فالكاتب يعرف ما سيعتري القارئ مسبقاً من حيرة نتيجة للحقائق المطروحة هنا مصحوبة بأدلة الجغرافيا والتاريخ، بما في ذلك الاعتماد على نصوص التوراة، حيث ستغير الحقائق الجديدة كثيرا من خلفية قراءاته السابقة، بل إنها تعصف بما رسخ لديه من قناعات منذ عقود· يذهب الناشر إلى القول: ''مع ظهور النهضة الأوروبية ونشوء الرأسماليات، التي راحت تتبارى للسيطرة على العالم، أخت هذه الرأسماليات تتبارى فيما بينها في تقديم الحلول للمسألة اليهودية، التي استعصى حلها وسببت جرحا في الجسد الأوروبي، لكن المنافسة بين هذه الرأسماليات في تقديم الحلول لم تكن جراء الشعور بعقدة الذنب، بل من أجل الاستفادة من رأسمال اليهود وخبرتهم في الاقتصاد، ومعرفتهم بطرق التجارة التي كانوا تعلمونها من عملهم مع العرب أيام ازدهارهم، أضف إلى ذلك حاجتهم إلى العنصر البشري اليهودي''· زعماء أوروبا·· والضحية البداية إذن كانت مع تحويل المشكلة اليهودية المطروحة في الغرب إلى حل في جغرافية الآخرين وفي حياتهم، ومن هنا يمكن فهم الدور الذي قام به الأوروبيون غير اليهود من أجل خلق الكيان اليهودي، فبسمارك ألمانيا -كما يذكر الناشر- طرح إسكان اليهود على طول خط حديد برلين-بغداد كي يستثمرهم لمصالح ألمانيا، أما نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا، وجه نداءه لليهود عام 1799 للمجيء إلى فلسطين وتشكيل دولتهم تحت الرعاية الفرنسية، وزعماء الأوساط الحاكمة في الإمبراطورية الاستعمارية بريطانيا فقد كانوا على رأس الصهاينة الأُول، الذين تابعوا بلا انقطاع تنفيذ مشروع الدولة اليهودي، وقد ألحوا بلا كلل على حق الصهيونية اليهودية· لا أدري إن كان يحق لنا اعتبار اليهود أيضا ضحية مثلنا من طرف الغرب، سواء في مرحلة هجرتهم حين اعتقدوا بضرورة هجرة الدول الغربية للإقامة في فلسطين باعتبار أرض دولتهم التاريخية أو في المرحلة الراهنة، حيث لا يتمتعون بالأمان، والجدار العازل بينهم وبين الفلسطينيين خير دليل أو في المستقبل حين يطردون من فلسطين؟ صليبية جديدة الدولة العبرية قائمة اليوم على تشويه التاريخ وعلى الإرث الاستعماري الغربي، وعلى القوة، وبانتفاء العناصر الثلاث تنتهي الدولة العبرية من الوجود، والتعجيل بسقوط تلك الدولة غير الشرعية، على الأقل من الناحية التاريخية، يبدأ من تصحيح حقائق التاريخ، ليس من أجل مخاطبة الآخرين، لأنهم يدركون ذلك وأقاموا دولة العدو على أرضنا بوعي، من أجل مصالحهم الخاصة وليس بهدف تقديم خدمة· يمكن القول: إن الغرب المسيحي يقوم الآن بحرب صليبية جديدة ترتكز على استمرارية الحرب بين المسلمين واليهود، منذ أن رأى التقارب التعايش المثمر بينهما في الأندلس، ولهذا عمل على إذلالها منذ احتلال الإسبان للأندلس، وهذا يدفعنا إلى تأمل المشهد الحاصل اليوم في العالم الإسلامي وفي الدولة العربية، حيث يسوق الغرب لهما حالاً من الذعر والخوف والفتنة من أجل إطالة أمد الحرب بين خطرين هما اليهود والمسلمين، بل إن الدعم الغربي للسلام بينهما ضرب من الوهم، أيعقل أن ينشئ دولة ويقسم أمة واحدة إلى دول متناثرة ويعجز عن إجبارهما على اتفاق مشترك، أو صيغة مقبولة هي صيغة للتعايش، بالرغم من أنها ليست لصالح العرب والمسلمين؟ تشرشل·· والأردن ما يؤكد التحليل السابق قول ونستون شرشل: ''إذا أتيح في حياتنا -وهو ما سيقع حتما- أن نشهد دولة يهودية لا في فلسطين وحدها بل على ضفتي نهر الأردن تقوم تحت حماية التاج البريطاني، تضم نحوا من ثلاثة ملايين إلى أربعة ملايين من اليهود، فإننا سنشهد بذلك وقوع حادث يتفق تمام الاتفاق مع المصالح البريطانية''· لقد كان في مقدور تشرشل وقادة أوروبا جميعهم دعم اليهود لإقامة دولة لهم في أي مكان من العالم، لكن اختيرت فلسطين لحسابات كثيرة، وبذلك تم تشويه تاريخ المنطقة، واعتمد هذا باعتباره رديفاً للقوة في مساعدة الصهاينة الأوروبيين والصهاينة اليهود، وأخيراً المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، على تثبيت المفاهيم الجديدة وإقناع الآخرين بها، وهو ما سعى الدكتور نوري المرادي الى كشفه وتصحيحه في كتاب ''شنعار أرض اللاهوت''· المنطقة التي يتحدث عنها الكاتب -معتبرا إياها أرض اللاهوت ومدفن الأسرار- يوصفها على النحو التالي: ''هنا توجد كل مدن التوراة الضائعة وكل خفاياها·· هنا جوفير وأرواد وجيحون وتل أبيب وأورشليم وبيت لحم وناصرا وقدس·· هنا قبر موسى، هنا قبر المسيح''· للوهلة الأولى تبدو لنا هذه فلسطين، التي يزعم الإسرائيليون أن دولتهم في الماضي قد أقيمت فيها، لكنها ليست فلسطين، إنما هي شنعار، ولمعرفة تفاصيل هذا الموضوع على الباحث أن يقرأ الكتاب حتى نهايته· مساءلة الموروث يوضح الدكتور المرادي بالأدلة الدامغة وبالخرائط التشويه المعرفي الذي قامت عليه دراسات الأكاديميات الغربية لتحويل الباطل إلى حقائق، حيث يقول: ''نتيجة لعدة عوامل كإفرازات الحروب الصليبية والنهضة، كان مستشرقو الغرب المسيحي أول من عالج المأثور التوراتي علمياً، وأول من بدأ الدراسات الأحفورية (الأرخيولوجية) في المناطق التي يفترض أن قصص التوراة غطتها، وفي الساحل الشرقي للمتوسط، ومن النتائج التي حصلوا عليها لابد أن هؤلاء المستشرقين قد صاروا ولو لمرة واحدة وجهاً لوجه مع الحقيقة التي تشير إلى الخلل ما بين النص التوراتي وجغرافيته، الأمر الذي لابد انه قد وضعهم أمام الخيارين الوحيدين المتاحين للمؤمن (أن يعود إلى النص المقدس الأصلي ليقبله كما هو ويغلق قناعته عليه، أو يهجر النص جملة ليبحث عن مقدس آخر يستجيب لما تولد من حقائق) فهل يرفضون الموروث ويتساوقون مع الوقائع؟ أم يمنعون بالترقيع تساوقاً مع المتغير الجديد القديم-السياسة، الذي صار يجير اللاهوت''· في هذا الكتاب يجمع المؤلف في دراسته الشيقة والجريئة علوم المادة (فيزيائيا وكيمائيا) والعلوم الاجتماعية، ويوائم بين تطور المادة وتطور الوعي الإنساني وتحديداً (العرفاني) وعلاقته بالجغرافيا، مستفيدا من الأركيولوجيا والمدونات التاريخية ليصل بعد ذلك إلى نتائج جديدة تماما تثبت أن ثمة جغرافيا حقيقية غير الجغرافيا التي بدت عليها الدراسات (التوراتومسيحية)، وأن الجغرافيا المعنية هي الأصل حتى في أسمائها· لا يمكن للقارئ التعويل على ما جاء في هذه القراءة، لأن الكتاب يعد مرجعا هاما بالنسبة لكل المهتمين بالتاريخ والمعرفة، وهو أهم للذين يريدون أن يدحضوا الأباطيل لاسترجاع الحقوق، ولتأكيد المعنى الديني والقيمي في رحلة الصراع الأبدي بين القلة المؤمنة والأكثرية الضالة التي ترفض الحقائق حتى لو أدركتها، وهذا ليس جديدا، لأن البشر حجدوا، ولا يزالون، بآيات الله، فكيف لنا أن ننتظر منهم اعترافا بحقوق المستضعفين في الوقت الذي يحكم العالم جماعة الاستكبار وأتباعهم
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©