السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في تكريم إحسان عبد القدوس - 2

في تكريم إحسان عبد القدوس - 2
11 يوليو 2007 02:40
إذا كنا في هذه السنوات نتحدث عن التمييز ضد المرأة، وعن المعاناة التي تعانيها المرأة، ففي رواية ''أنا حرة''، نجد إحسان عبد القدوس قد انتصر كل الانتصار للمرأة، وحاول أن يرسم لها صورة امرأة جديدة واعدة متحررة من التقاليد الجامدة ومن قيود الأسرة المتخلفة، متطلعة إلى الأمام، باحثة عن أفق واعد لمستقبلها، على المستوى الشخصي وعلى المستوى الوطني كله· وكان دفاع إحسان عبد القدوس - بهذا المعنى - عن المرأة دفاعاً عن قيم المساواة في المجتمع، وقيم الحرية التي ظل يدعو إلى أن تتخلل كل جزء من أجزاء المجتمع· وأعتقد أن نصير المرأة والمُبشِّر بامرأة جديدة لم يكن غريباً عليه أن يكتب ما كتب، خصوصاً أنه مؤمن كل الإيمان بالحرية بمعناها الليبرالي، الحرية التي تبدأ من أخص الخصوصيات وتنتهي إلى أكثر القضايا عمومية· أتذكر أنه كتب في إحدى مقالاته عن سجن ابنه محمد، وكيف أن السادات الذي قام وأصدر أوامره بهذا السجن حاول أن يخفف عنه وقع السجن باعتباره والداً لابن مسجون، وقد يعاني في السجن ما يمكن أن يعانيه أي سجين، فيقول له إحسان عبد القدوس: ''يا سيدي لقد كنا مثله صغاراً واخترنا طريقاً مخالفاً لطريق آبائنا، فهل يمكن لي أن أمنعه من الاختلاف معي، وأن يسير في طريق يختلف عن طريقي طالما أنني سمحت لنفسي وأنا صغير أن أسير في طريق مخالف للطريق الذي سارت عليه أسرتي، فلابد أن أمنحه حرية الفعل وحق الاختلاف''· لا تزال هذه الكلمات ترن في أذني، دون أن أنجح كثيراً في تطبيقها على تعاملي مع أولادي، لكنني لم أصل قط إلى هذا البراح والتسامح العقلي الذي يسمح للابن بالاختلاف الجذري مع الأب في عدد من النقاط تتضمّن حتى رؤية الحياة· ولحسن الحظ أن إيمان إحسان عبد القدوس بالحرية قد تغلغل في داخل أعماق ابنه محمد، ولذلك كانت ثورة محمد عبد القدوس ثورة حقيقية وصادقة عندما اعترض على المحاولة الكئيبة التي قامت بها مكتبة مصر عندما فرضت رقابتها على الطبعات الجديدة من روايات إحسان عبد القدوس، وقامت بهذا الفعل الذي يندى له الجبين، وهو شطب وحذف بعض الجمل من الروايات على سبيل ادِّعاء التقوى والصلاح، أو على الأقل مجاملة التيارات التي كانت تصعد في ذلك الوقت· وكم احترمت محمد عبد القدوس عندما ثار على ذلك كل الثورة، وعندما هدد باللجوء إلى القضاء، وقلت فعلاً: ''إن البذرة لا يمكن أن تنبت نقيضها، وأنها لابد أن تثمر ما يسير في الاتجاه نفسه ولو في مجال مختلف''· ولم يكن إحسان عبد القدوس نصيراً للحرية الليبرالية بهذا المعنى، بادئاً من بيته ومن نفسه منتهياً بالحياة العامة التي كان لابد أن يُفضي به إيمانه بالحرية إلى الاصطدام مع المردة الذين عادوا الحرية، ومن هنا اصطدم بالسلطة السياسية في أعقاب أزمة مارس 1954 وقبلها، شأنه في ذلك شأن من اصطدم بوصول عبد الناصر وتشجيعه على الديكتاتورية· وفي هذا السياق، أذكر قصيدة صلاح عبد الصبور ''عودة ذي الوجه الكئيب'' وما كانت تعنيه في ذلك الوقت من دفاع عن الديمقراطية، ومن استنكار لانتصار الحكم أو الدعوى الاستبدادية في مجلس قيادة الثورة· ولم يكن ما كتبه إحسان عبد القدوس بالطبع في أزمة مارس 1954 هو البداية، وإنما كان حلقة من الحلقات التي بدأت قبل ذلك من الأربعينيات، وظلت متواصلة بعد الخمسينيات وعبرت إلى الستينيات والسبعينيات، وظلت متقدة كالشعلة التي لا يمكن أن تتوقف أبداً· هذا هو إحسان عبد القدوس الوطني، الجسور، نصير المرأة، الأديب الذي لا يخشى شيئاً، والذي يخترق المناطق التي تحظر الثقافة التقليدية على الأدباء أن يقتربوا منها· فهو لم يكن من هؤلاء الذين يخافون أي حاجز تقليدي أو أي عقل تقليدي، بل كان يجاوز ذلك كله مؤمناً أن قدرة الأديب على التحدي والمبادأة والمغامرة واقتحام المناطق التي لا تزال في حاجة إلى كشف هو علامة الموهبة الإبداعية ومصدر قيمتها الأول· ولذلك لم يكن من الغريب أن يكتب إحسان عبد القدوس رواياته وقصصه بلغة مختلفة كل الاختلاف، أفادته الصحافة بالتأكيد في تبسيط اللغة، وفي سلاستها المتدفقة، وفي نعومتها التي لا يمكن أن تعوق في تدفقها أي قارئ· ومن يقرأ أي رواية من رواياته لن يجد فيها حرصاً على المجاز بمعناه المعقد، أو حرصاً على المحسنات اللغوية، أو حرصاً على البلاغة بمعناها الذي يقتصر على الخاصة، وإنما لغته تكاد تشبه بالضبط لغة الصحافة في سلاستها، فضلاً عن كونها - إلى جانب سلاستها - لغة بصرية إلى أبعد حد· والذي يقرأ قصصه ورواياته يَرى بواسطة الكتابة مشاهد القص كأنها تتدافع أمام عينيه، بما يحيل الكتابة إلى فعل بصري· وأعتقد أن هذا السبب هو ما جعل من روايات إحسان وقصصه منبعاً لا ينضب للسينما، ومصدراً من المصادر التي جعلت السينما تُحيل العديد من رواياته وقصصه إلى أفلام· ولا أظن أن هناك أديباً من جيل إحسان عبد القدوس أقبلت عليه السينما مثلما أقبلت على إحسان، وحولت رواياته وقصصه العديدة إلى أفلام تكاد تند عن الحصر· هذا الرجل الذي جمع كل هذه الميزات التي تجعله يستحق بحق أن يعلو إلى ذروة من ذرى المجد الصحفي العربي لا المصري فحسب، لا يزال إلى الآن مظلوماً من المؤسسة النقدية المصرية والعربية· فما كُتب عن إحسان عبد القدوس على سبيل المثال لا يمكن أن يصل إلى واحد على مائة مما كتب عن نجيب محفوظ أو عن غير نجيب محفوظ· لكن يبدو أننا مجتمعات تعشق الفرد سواء كان زعيماً أو مغنياً أو مغنية، فلا تعرف سوى النجم الأوحد في الغناء مثلاً، والنجمة التي لا مثيل لها، والحاكم الواحد الأحد الذي ليس كمثله أحد· إنها العقلية الفرعونية نفسها التي جعلت الفرعون مصدر كل شيء ونهاية كل شيء· أعتقد أن هذه النزعة لا تزال سائدة في الثقافة العربية والمصرية، نزعة لا ترى التنوع، ولا تدرك التعدد، ولا تقدِّره حق قدره· فكانت، ولا تزال، مسؤولة عن ظلم كثير من المبدعين، ليس إحسان عبد القدوس فحسب، بل هناك فتحي غانم وغيره من الأدباء الذين ظلموا نقدياً بسبب تركيز النقد على نجم واحد لا نجم سواه· لقد ظلت قيمة إحسان تتنامى معي كلما كبرت في السن، ولم تُنسني السنوات والخبرات والقراءات الأثر الذي لا يزال مستمراً لكتاباته، والقيمة التي تستحق الاحتفاء بها، والتقدير له في كل زمان ومكان، خصوصاً أننا قد وصلنا إلى زمن يتناقض مع القيم الجميلة التي دافع عنها إحسان عبد القدوس وناضل من أجلها وتحمَّل الاضطهاد في سبيلها، لكن ماذا نقول؟ هذا زمن ليس فيه ما يُفرح كثيراً، والخطوة الأولي في القضاء علي آثاره المقبضة أن نستعيد ذكرى النجوم الساطعة في ماضينا كي نتأسى بهم ونهتدي بهداهم كالنجوم الوضَّاءة بالحرية والعدل في حياتنا التي تعاني ظلاما كثيراً ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©