الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

وداعاً ·· أبو السينما الأفريقية المستقلة

وداعاً ·· أبو السينما الأفريقية المستقلة
8 يوليو 2007 03:36
لا شك أن في جلل الخطب والقامة الباسقة والعالية للراحل الكبير يقتضيان ما هو أكثر وأعمق من هذه المادة التعريفية فحسب، لكن اللجوء إلى ''أضعف الإيمان'' والحد الأدنى حيث لا حول ولا قوة أمام الموت وعدم مواتاة الظرف الشخصي هوالمتاح للمرء راهناً، خاصة في ظل تجاهل الخبر الحزين في الغالب الأعم من صحافة بقعة كبيرة من الأرض كان الراحل، وهو بالمناسبة أحد الموقعين على بيان قرطاج السينمائي، قد زار بعضاً منها وأودع فيها كلّها الكثير من أحلامه وطموحاته ومراهناته على مستقبل إنساني أفضل، أعني الصحافة العربية السادر جُلُّها في تغطية وتبهير وتتبيل أخبار راقصات وفنانات الـ ''هشّك بشّك'' من فوق ومن تحت وما بينهما· إذاً فقد توفي عثمان سمبين، المخرج السينمائي الأفريقي الأشهر باستحقاق شديد، بل وأول المخرجين الأفارقة الذين تمكنوا ضمن تحديات كانت تبدو مستحيلة لفرط صعوبتها من وضع صورة الأفريقي على الشاشة باعتبارها ذاتاً خلاقة فاعلة وليس موضوعاً غَيْرِيَّاً و''إكزوتيكيَّاً''· توفي سمبين في منزله الصغير والمتواضع في دكَّار، عاصمة بلاده السنغال، بسبب تعقيدات صحية ناجمة عن إصابته الطويلة بمرض السرطان عن عمر بلغ أربعة وثمانين عاماً (وهذا عمرٌ، على الرغم من مديده الظاهري، قصير للغاية بالنظر إلى ما كان سمبين مؤهلاً وناضجاً للقيام به لو أمهله العمر وتوافرت له الإمكانات الإنتاجية أكثر)· توفي عثمان سمبين، إذاً، في وقت متأخر من يوم السبت 9 يونيو ·2007 وقد جاء خبر الوفاة (ربما بناء على رغبة سمبين نفسه المعروف بنأيه المتطرف بذاته عن كل ما هو سُلطوي ورسمي) عبر نعي شخصي قصير صادر من عائلة الفقيد وليس من الحكومة السنغالية التي احترمته وأعجبت به دوماً (لكن من دون أن تستطيع مجرد احتوائه نسبيَّاً على الأقل، هذا ناهيك عن شراء ذمتِّه وتدجين نزعته النقدية أو تجييرها لصالحها) وغضبت عليه واستاءت منه (لكن من دون أن تتمكن من أن تنكر أهميته أو تحدَّ من شعبيته والتقدير الذي ناله في بلاده بل وفي بلاد الأرض قاطبة، بل إنها كانت تزهو وتفاخر به العالم حتى في بعض اجتماعات منظمة الأمم المتحدة)· بهذا المعنى يقف عثمان سمبين بقامته المُتَرَفِعَّة الرفيعة مثالاً فريداً على شروط الكبرياء والأنفة والنزاهة والمواقف السياسية والفكرية المبدئية والأخلاقية العالية في تعامل المثقف مع السُّلطة خاصة في بلدان العالم الثالث التي لا يحتفظ فيها كثير من المثقفين بسجل شريف نظيف في علاقتهم بالمؤسسة للأسف الشديد، بل إنهم يساهمون بسخاء مقبوض الثَّمن نهاراً جهاراً في ستر عوراتها وتجميلها ومأسستها الديكورية الحداثيَّة الكاذبة أمام الرأي العام محليَّاً وخارجيَّاً· وقد دفن سمبين صباح يوم الإثنين 11 يونيو بحضور عدد كبير من رجالات السياسة والفكر والثقافة التاريخيين السنغاليين وغيرهم من أقرانهم الأفارقة الذين توافدوا إلى دكَّار في مدة قصيرة من مختلف بقاع القارة السمراء للمشاركة في تشييع سمبين الذي اكتسب احترامهم العميق وتقديرهم وإعجابهم بجدارة عالية طوال مسيرته الإنسانية والسياسية والإبداعية الاستثنائية والمذهلة· وفي مراسم الدفن صرَّح عبدو ضيوف، الرئيس السنغالي السابق قائلاً: ''لقد خسرت أفريقيا واحداً من أعظم مخرجيها السينمائيين''، وأضاف ما يعرفه الجميع تقريباً وهو أن القارة الأفريقية '' فقدت مُدَافِعاً متوهجاً عن الحرية والعدالة الاجتماعية''· أما شيخ عمر سيسوكو، المخرج السينمائي الأفريقي المعروف ووزير الثقافة في جمهورية مالي وصديق سمبين القديم الذي أصر على حضور الجنازة، فقد قال ببساطة: ''لقد فقدت السينما الأفريقية واحداً من فناراتها''، وأضاف مُلَخِّصَاً المشروع التاريخي والجمالي للراحل الكبير: ''لقد قاد سمبين أفريقيا نحو فهم هويَّتها وبناء أفقها الثقافي''· أما بابا هاما، الأمين العام لمهرجان أوغادوغو السينمائي في جمهورية بوركينا فاسو والذي أصرَّ بدوره على السفر إلى دكَّار بسرعة وإلقاء النظرة الأخيرة على صديقه القديم سمبين والمشاركة في تشييعه إلى مثواه الأخير، فقد أوجز مسيرة الراحل الكبير في كلمات قليلة وعميقة: ''لقد كان سمبين نموذجاً للنضال، والحب، والتواضع''· سؤال الميلاد·· قلق الهوية لقد كان سمبين يبحث بكَدّ ودأب وعناد جليل عن ''أفريقيا الأولى'' التي هي، من وجهة نظر الكثيرين بمن فيهم شخصي المتواضع، ضَرْبٌ من الحنين النبيل الموجع والمستحيل، وصورة مرآويَّة مثاليَّة (وإن كانت ''المثاليَّة'' ليست كلمة سيئة بالضرورة)· والحقيقة أن سمبين تراجع إلى حدود كبيرة عن فكرة ''النقاء'' في أواخر حياته، حيث صرَّح في ،2005 مثلاً، أن ''مقولات النقاء قد أصبحت شيئاً ماضويَّاً''· لكن الحقيقة أيضاً هي أن سمبين، ومنذ فيلمه الروائي الطويل الأول ''بنت سوداء'' (1966) أخذ يلجأ إلى استعمال وتجذير الأيقونات والرموز الدينية المحلية والثقافية الشعبية الأفريقية في مرحلة ما قبل وصول الديانات التوحيدية الكبرى (الإسلام والمسيحية واليهودية) إلى القارة السوداء وذلك في عودة واستدعاء أسطوريين للذات الأفريقية القديمة عبر منابعها الثقافية والروحية الأولى التي من المفروغ منه أنها شكّلت الكثير من اللَّبِنَات الأولى للحضارة البشرية كما نعرفها اليوم· فلنتذكر، مثلاً، كتاب مارتن بيرنال الانقلابي القيِّم ''أثينا السوداء: الجذور الأفرو-آسيويَّة للحضارة الكلاسيكية''· يتذكر المرء في هذا السياق على سبيل المثال ذلك الإنشاد الترتيلي الجماعي الأفريقي الجليل بينما الشاشة مغمورة بالسواد في مفتتح فيلمه ''بوروم ساريه'' (1963)· لقد كان ذلك الإنشاد المهيب يتدفق عبر ما يمكن وصفه بأنه مُرَافَقَة للتكوين ومُلازَمَة له· ويتذكر المرء أيضاً صورة ايقونيَّة ميثولوجيَّة أفريقية تَرِدُ بصريَّاً بصورة يبدو للمشاهد العابر أنها عابرة، لكنها في الحقيقة في غاية الحذق على الرغم من سرعتها، في فيلمه البديع ''خالا'' (1974)· وتبرز كذلك أسئلة الدين والتباساتها وانعكاساتها العاتية على كافة شؤون الحياة في واحد من أفلام سمبين المتأخرة هو ''غويلوار: أسطورة أفريقية للقرن الواحد والعشرين'' (1992)· و''غويلوار'' هو اسم شخصية لقسٍّ كاثوليكي راديكالي سياسياً يبدأ الفيلم بموتها ودفنها بطريق الخطأ في مقبرة إسلامية، لتتابع بعد ذلك أحداث الفيلم معرِّية التوترات الدينية والتاريخية بين المسلمين والمسيحيين وإعاقتها لبناء الدولة ما بعد الكولونيالية الحديثة في السنغال، وكذلك معرِّية التوترات بين المسلمين والمسيحيين من جهة، ومنظمات الإغاثة الدولية العاملة في أفريقيا ما بعد الكولونيالية من جهة أخرى· لقد هاجم سمبين في عدة مناسبات منظمات الإغاثة الدولية تلك قائلاً: إنه لا يستطيع أن يفهم كيف أن أفريقيا، وهي سلَّة غذاء العالم، تتقبل معونات غذائية من الشرق والغرب في استكمال مرير للتعهير الذاتي في الحقبة ما بعد الكولونيالية (''أفريقيا عاهرة لكني أحبها'' كما قال في محاضرة له في معهد الفيلم البريطاني ألقاها وهو مرتدياً زيَّاً أفريقيَّاً شعبيَّاً بسيطاً)· خريج ''جامعة الحياة'' لم يكن سمبين عضواً في نادي ''النخبة المتعلمة'' في أفريقيا الذي تنتمي إليه رموز وطنية كبيرة ومهمة في العمل السياسي والثقافة الأفريقيين كالكاتب وأول رئيس سنغالي في فترة الاستقلال ليوبولد سنجور (الذي استقال من منصبه الرئاسي المُنْتَخَب لأجله كي يتفرغ لاهتماماته الأدبية في خطوة ''عالمثاليَّة'' غير مسبوقة خاصة بالنسبة لبعض الحكَّام العرب الذين فاجأونا مؤخراً، ضمن مفاجآتهم التي لا تنتهي، بإصدار مجموعات قصصية وروايات) والكاتب والسياسي المارتينيكي أيمي سيزير (الذي بالطبع لا يمكن الحديث عن أفريقيا الحديثة من دون الحديث عنه)، إذ ان سمبين لم ينل إلا قسطاً ضئيلاً من التعليم الابتدائي الذي غادره مفصولاً فصلاً نهائياً بعد أن قام بضرب ناظر المدرسة الفرنسي في ''علقة ساخنة'' أمام التلاميذ لأن هذا كان يتعمد إهانته (كانت المصارعة أحد اهتمامات سمبين المبكرة)· وفي أي حال لم تكن ظروف سمبين المعيشية القاسية لتسمح له بمواصلة التعليم الابتدائي حتى ولو لم يحصل ذلك الشجار· ومن هنا فقد أكمل سمبين تعليم وتثقيف نفسه بنفسه بالطريقة العصاميَّة، متنقلاً خلال ذلك من العمل كصياد أسماك، وعامل بناء، ونجَّار، وسبَّاك، وميكانيكي، وعتَّال· وفي هذا الصدد يقول سمبين الشغوف بالقراءة النهمة منذ صغره انه تلقى تعليمه ''في جامعة الحياة''· لقد كان سمبين شغوفاً دوماً في سباق مع الزمن بإيصال رؤاه وأفكاره إلى الناس البسطاء والعاديين من بني قومه، مهموماً بالأسئلة الجوهرية الملحَّة على أفريقيا وعموم العالم الثالث، وذلك خاصة لجهة نزعاته السياسية الثورية الأصيلة والعميقة، وانتمائه لخلفية طبقية وحياتية كادحة، وازدرائه لأي توجهات نخبويَّة في الثقافة والسياسة، لكنه رأى أن نسبة الأميَّة العالية في أفريقيا تحول من دون أن يوصل ما يريد قوله للناس عبر الأدب، ومن هنا فقد اقتنع أن السينما هي الأداة الأكثر ملاءمة لواقع أفريقيا الثقافي والاجتماعي· والحقيقة انه يصعب تصور أي مخرج سينمائي آخر في أي مكان من العالم تتألف شريحة واسعة من جمهوره السينمائي في بلاده من الضريرين الأميين (وهؤلاء يحضرون بكثرة باعتبارهم شخصيات في أعماله السينمائية) الذين يحرصون على مشاهدة أفلامه من أجل أن ''يتعلموا'' و''يستمتعوا''!· لقد كان سمبين مُحِقَّاً بالتأكيد عندما صرَّح في 2005: ''أستطيع أن أذهب إلى قرية وأعرض فيلمي هناك لأن كل شيء يمكن التعبير عنه سينمائياً ونقله إلى القرية الأفريقية الأكثر نأياً''· تحضرني مقولة لبودلير يذهب فيها إلى أن ''الحداثة هي تغيير الماضي''، أي أن الحداثة ليست القطيعة البتريَّة السِّكِّينيَّة مع الماضي كما يزعم أولئك الذين يحاولون استزراع النباتات الشيطانيَّة، بل الذهاب إليه واستنطاقه· ويبدو من الواضح لي أن سمبين يوافق على رأي بودلير إذ انه، من الناحية الفنيَّة يؤثِر، على الرغم من حساسيته البصرية العالية، الاستناد إلى تقاليد السرد الشفاهي السحري في الثقافة الأفريقية التقليدية (ما هو معروف بـ''الغْرَيُو'' griot )وتحويلها وتثويرها سينمائياً في سرديات أفلامه من خلال استعمال تقنيات كالصمت والمزج الصوتي والبصري (كنت قد ذكرت سابقاً أن شريحة من جمهور سمبين السينمائي في السنغال تتكون من العميان الأميين)· كما يذهب سمبين إلى تكريس اللقطات الكبيرة والطويلة (الصامتة في الغالب) واللقطات الأفقيَّة (pan) البانورامية البطيئة التي تبوح بالحضور الجليل للأرض والحضور الغامر للمكان (في البال مثلاً استخداماته الاستثنائية لهذه اللقطات في فيلمه ''تشيدو'')، والاقتصاد البالغ في التقطيع المونتاجي، والابتعاد عن ''الفلاشباك''، والاحتفاء باللقطات ذات مستوى العين (eye level shots)، وادِّخار الأسلبة (stylization) لما هو ضروري جداً وجوهري في الفيلم، وذلك في ما يبدو أنه ردة فعل سياسية وجمالية واعية ضد رسوخ سينما هوليوود والسينما الأوروبية في نقيض هذه التقنيات· يا عثمان سمبين: يزداد العالم تقلصاً، وجحوداً، وتنكراً، ونكوصاً، وتراجعاً عن الأحلام والأفلام القديمة· يزداد العالم وحشة ووحشية، ولا إنسانية برحيلك عن هذه الأرض التي كافحتَ طويلاً ومريراً وبطرق شتى من أجل أن تكون أكثر عدلاً، وحقَّاً، وخيراً، وجمالاً، وحرية· لكننا يا سمبين سنظل نراهن على طائر العنقاء· سنفتقدك كثيراً جداً وطويلاً جداً· وداعاً لك ألف ألف وداع·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©