السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألق السينما.. وأرقها

ألق السينما.. وأرقها
20 ديسمبر 2012
ماذا ترى؟.... سؤال طالما انعكست ألوانه وتشكيلاته الغامضة والزاهية على الشاشة الفضية الكبيرة قبل تدشين العروض الرئيسية، ليكون هذا السؤال المحرّض هو ثيمة ومناخ وروح الدورة التاسعة من مهرجان دبي السينمائي الدولي الذي انطلق في التاسع من شهر ديسمبر الجاري واستمر لثمانية أيام كانت حافلة بالبريق والألق والشرارات الأليفة لقصص وحكايات تبوح أكثر مما تضمر، وتكشف أكثر مما تواري، وتصرخ أكثر مما تكتم، لتعبر هذه الحكايات في النهاية عن نسيج إنساني متداخل ومشترك رغم تباين مرجعياتها المستقلة والقادمة من قارات العالم الخمس، أتت هذه الأفلام بزخمها الجمالي وثقلها الفني كي تفرش سجادة ملونة ومزدانة بالرؤية والرؤيا والفتنة البصرية أمام جمهور نوعي ومتعطش لمرويات مبهجة وأخرى صادمة، ولمشهديات تستعيد التاريخ وتحاكم الحاضر وتنظر للمستقبل بعينين مفتوحتين على الدهشة والنشوة والخيال المستفيض. هكذا أيضا يقدم مهرجان دبي السينمائي ومنذ انطلاقته قبل تسع سنوات رسالته المفتوحة دوما على الحوار والحرية والتسامح، لتكون لغة السينما هي اللغة المهيمنة ـ ومن دون تعسّف ـ على كل وجهات النظر المتباينة والحادة التي تعمل ضد تواصل الثقافات والتقاء الإبداعات. ويحسب للمهرجان أنه وفي كل دورة جديدة يقدم لمتابعيه مفاجآت ومبادرات سينمائية ترفد الحراك المتنامي لفن السينما في المكان، وتؤكد على مدى العلاقة الوثيقة التي أسسها (دبي السينمائي) منذ البداية مع السينمائيين ومنتجي وصانعي الأفلام حول العالم، والأكثر من ذلك أن المهرجان استطاع أن يحظى بصيت شعبي وفني ونقدي استقطب القريب والبعيد، ودفع بقطاع واسع من الجمهور المحلي والزائر إلى التفاعل والاندماج والاستفادة القصوى من برامجه وفعالياته التي تلبي مختلف الأذواق وتخاطب جميع الشرائح العمرية. الدورة الحالية من المهرجان احتضنت (158) فيلما من (61) دولة منها (50) فيلما في عرضها العالمي الأول، و(14) فيلما في عرض دولي أول، وشارك في المهرجان (78) فيلما عربيا، أي أن الحضور العربي فيه بات يوازي نصف ما هو معروض من أفلام على خارطة الحدث، ما يؤكد على الوجهة أو الصبغة العربية التي اختارها المهرجان منذ بدايته كرهان ومسار واختيار مقصود من أجل دعم ورعاية وتطوير السينما العربية وتشجيع صناعها في بلدانهم ألأصلية، وكذلك في بلدان المهجر الذي جعل بعضهم يعتمل بالحنين كما بالوجع، وبالانفتاح الفكري كما بالنكوص الداخلي نحو الذاكرة ومتاهاتها العصية. ويتوضح هذا الاهتمام بالسينما العربية من خلال تخصيص ثلاث مسابقات للنتاجات الفيلمية العربية الحديثة، وهذه المسابقات الثلاث هي: المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة، والمهر العربي للأفلام الوثائقية، والمهر العربي للأفلام العربية القصيرة، بالإضافة إلى تخصيص برنامج مستقل بعنوان (ليال عربية) يسلط الضوء على التنوع التاريخي والبشري والجغرافي في هذه البلدان، وفي خيال وذاكرة المهاجرين العرب في أصقاع الدنيا المختلفة، وكيف أن هذه الهجرات استطاعت أن تخلق قصصا مشوقة حول عناصر الكفاح والنجاح والصراع والصعود والخيبة والأحلام المرهقة التي رافقت رحلة هؤلاء المخرجين وأسرهم وأصدقائهم وسط فراديس مؤقتة، ووسط جحيم متأجج بالاغتراب والشتات والاستقرار غير المكتمل والمتشظي بين اختلاط الهويات وتصادمها. ومن المبادرات الجديدة التي أضافها المهرجان إلى أجندته السنوية لدعم السينما العربية، ما أطلق عليه مبادرة (ملتقى دبي السينمائي) الذي يفتح أفقا مشجعا للإنتاج السينمائي المشترك الذي ساهم في إنجاز 31 فيلما عربيا منها فيلم “وجدة” للمخرجة هيفاء المنصور الذي يعد أول فيلم روائي سعودي يتم تصويره في الرياض، بالإضافة إلى أفلام أخرى مهمة مثل: “لما شفتك” للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، وفيلم: “فدائي” للمخرج دامين نوري، وغيرها من الأفلام والمشاريع الجديدة التي تمنح الطاقة والحماس والنفس الطويل للسينما العربية كي تعبر عن ذاتها بحرفية والتزام واشتباك حقيقي مع مقاييس وشروط ومتطلبات صناعة السينما. حياة وأسرار ورغم تركيزه على السينما العربية ومن ضمنها السينما الإماراتية والخليجية، لم يغفل المهرجان أيضا عن تقديم وجبة بصرية دسمة لجمهوره والمتمثلة في الأفلام المنتجة حديثا والقادمة من السينما العالمية وبمختلف اللغات والمواضيع الإنسانية والمعالجات الإخراجية التي تنتمي لمدارس ومناهج سينمائية عريقة كما هو الحال مع الأفلام القادمة من روسيا وفرنسا وألمانيا وإيران الصين والولايات المتحدة وكوريا، وأفلام أخرى تناور في أفق التجريب والبحث عن تلمسات بصرية توازن بين الإرث والحداثة كما هو الحال مع السينما الهندية والأرجنتينية والإسكندنافية. وكان فيلم الافتتاح “حياة باي” المقتبس من رواية بذات العنوان للمؤلف الكندي يان مارتل هو أحد الخيارات الموفقة لتدشين عروض المهرجان، لأنه فيلم يبحث في إيجاد صيغة تصالحية بين الأفكار والمعتقدات والأديان المختلفة والتي طالما تسببت في تقديس العنف وإثارة الحروب والكراهية بين الأعراق والإثنيات المختلفة والمتجاورة في ذات الوقت، ويروي الفيلم الذي أخرجه المخرج العبقري الصيني آنج لي بتقنية الأبعاد الثلاثية قصة الصبي الهندي (باي) الذي يحاول اكتشاف الأبعاد الروحية والطقوسية في المعتقدات والديانات المحيطة به والمتمثلة في الإسلام والمسيحية والبوذية، ويقوده بحثه للدخول في مغامرة جسدية وحقيقية عندما تغرق السفينة التي تستقلها عائلتها المهاجرة إلى كندا، فيضطر لإرتياد قارب النجاة الصغير الذي يشاركه فيها ثلاثة حيوانات كان يقتنيها والده ويهيئها لإفتتاح سيرك صغير في المهجر الكندي، وعندما تنفق الحيوانات تباعا يبقى الفتي (باي) في مواجهة خطرة ونهائية مع نمر شرس يشاركه في القارب ويضطره للتعامل مع واقع جديد لا يقبل بأنصاف الحلول، ويسترسل المخرج آنج لي في إبتكار مشاهد استثنائية في تاريخ السينما المعاصرة من أجل ضخ القصة بما تستحقه من إثارة بصرية وحوارات داخلية واستدعاء لمعنى الإيمان والصبر والمقاومة، من خلال ملحمة مشهدية تفتح تاريخا جديدا للسينما في عصر زاخر بالتقنيات التي تحتاج لمن يستثمرها لصالح الحكاية أولا، ولصالح البحث عن لغة بصرية مغايرة ومشحونة بالوعي والإبداع ثانيا. ومن أفلام السينما العالمية التي تركت أثرا خاصا لدى جمهور المهرجان يأتي فيلم “هيتشكوك” للمخرج الأميركي ساشا جيرفاسي كي يتناول تفاصيل الحب والغيرة والتوجّس والإرتياب التي رافقت العلاقة بين المعلّم الكبير لتيار أفلام الرعب والإثارة ألفريد هيتشكوك مع زوجته ألما، أثناء دخوله في مغامرة إنتاجية صعبة بعد إصراره تنفيذ على فيلمه “سايكو” رغم اعتراض المنتجين على فكرة الفيلم، وهو الأمر الذي يدفع بهيتشكوك لبيع ممتلكاته ورهن منزله، كي يتحول الفيلم بعد خروجه إلى الصالات إلى تحفة وأمثولة سينمائية قدمها هذا العبقري الصامت والهادئ كي يثير صخبا ممتدا حتى اليوم حول الأساليب المبتكرة والمذهلة التي حولته إلى أيقونة متفردة وشامخة لأفلام الرعب في كل مكان، تصدى لدور هيتشكوك في الفيلم الممثل الفذّ أنتوني هوبكنز، وحجز لنفسه مكانا متقدما في الترشيحات القادمة لجوائز الأوسكار، والأمر ذاته ينطبق على الممثلة العتيدة هيلين ميرين التي جسّدت دور الزوجة بإنحياز كامل للرهافة والقلق الفني والروح المتوثبة التي دفعت وساندت هيتشكوك كي يتصدى لكل الظروف المعاكسة وكي ينتج أفلامه الخاصة التي لا يمكن نسخها وتكرارها. تكريم واحتفاء ولم يغفل المهرجان رغم نشاطاته وعروضه المزدحمة أن يلتفت لقامات سينمائية ملهمة ومؤثرة في السينما العالمية والعربية، فكرّم في حفل الإفتتاح كل من المخرج البريطاني المخضرم مايكل أبتيد، والممثل المصري محمود عبدالعزيز الذي حمل ألقابا عدة مثل “الجنتل” و”القبطان” و”الساحر”. ومايكل أبتيد الذي بدأ مغامرته السينمائية في الستينات من القرن الماضي بالتصدي للأفلام الوثائقية والأعمال التلفزيونية سرعان ما قفز إلى الواجهة العالمية من خلال تحقيقه لأفلام روائية متعددة الأنماط والمواضيع، ونذكر منها فيلمه الشهير “غوريللا في الضباب” مع الممثلة سيجورني ويفر، ثم فيلم “العالم ليس كافيا” لمحاولة تنويع المعالجات الإخراجية لأفلام جيمس بوند، ثم قدم بعدها فيلم “نارنيا” الذي يفتح عالم الخيال إلى أقصاه وجذب الفيلم اهتمام الصغار والكبار، كي يكمل سلسلة أفلام أحرى شبيهة تتناول الخرافة والحكايات العجائبية من جانبها الأخلاقي والجمالي والسحري، مثل سلسلة “سيد الخواتم” وسلسلة “هاري بوتر”. أما محمود عبدالعزيز الذي قدم للسينما المصرية والعربية 48 فيلما فتحول إلى علامة فارقة لهذه السينما عندما تصدى لأدوار لصيقة بالشخصية الشعبية المصرية الطامحة للتغيير رغم كل الإحباطات والإنكسارات المحيطة بها، ونذكر هنا دور الشيخ حسني الكفيف الذي جسده في فيلم “الكيت كات” للمخرج داوود عبدالسلام والمستوحى من رواية “مالك الحزين” للكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان، ومن الأفلام العالقة في الذاكرة والتي قدمها عبدالعزيز بإتقان وإخلاص وتقمص مذهل للشخصية، نستدعي أدواره المؤثرة في أفلام مثل: “الكيف”، و”نهر الخوف”، و”المعتوه”، و”الطوفان” وغيرها، حيث ترجم في هذه الأفلام قدرته الخاصة في الانتقال السلس من ذروة الحزن إلى ذروة الفكاهة، ومن قاع الانكسار إلى قمة النشوة، ومن التحطم الداخلي إلى القفز نحو الفرح، حتى وإن كان هذا الفرح مؤجلا وافتراضيا. الاحتفاء الآخر والكبير الذي خصصه المهرجان في دورته الحالية جاء من نصيب السينما الهندية بمناسبة مرور مائة عام على انطلاقتها وتشكل ملامحها الأولى، قبل أن تتحول (بوليوود) إلى عاصمة السينما في آسيا والشرق، وإلى منبع ذهبي لصناعة النجوم وصناعة الأحلام الوردية للرومانسيين ولفقراء الهند والعالم الذين عوضتهم هذه الأفلام عن البؤس المحيط بهم ونقلتهم إلى يوتوبيا الوهم والسعادة وإن كانت هذه النقلة لحظية ومتبخرة، وأشارت مدونة التكريم إلى أنه ورغم مرور هذه السنوات الطويلة على ولادة السينما الهندية فإنها ما زالت مشبعة بالحيوية والانطلاق وضخامة الإنتاج، وضمت احتفالية السينما الهندية في المهرجان عرض أهم الأفلام الحديثة والقديمة التي تتميز بمقارباتها المبتكرة لرواية القصص، وتصديها لأساليب جديدة تعالج التغييرات الاجتماعية السريعة التي تشهدها الهند والتي باتت تخلق صراعا وتحديا قويا بين أطياف الماضي بنكهته وحضوره المتجذّر، وبين الأنماط الحياتية الحديثة المقاومة لتبعات الإرث الثقيل. سعودي وكردي وفي سياق آخر وضمن أفلام البرنامج العربي قدم المهرجان لمتابعيه فيلمين حظيا بمناسبة مشاهدة كبيرة وغير مسبوقة، ولأسباب تضع كلا الفيلمين في خانة ما يمكن أن نطلق عليه (كسر المستحيل) نظرا للصعوبات والعقبات التي رافقت إنتاجهما، ونقصد بهذين الفيلمين “وجدة” القادم من السعودية ومن الحواري والبيوت المحافظة في مدينة الرياض، وفيلم”بيكاس” أو (المتخلى عنهم) القادم من البيئة القاسية والجبال الوعرة لكردستان العراق، والفيلمان هما أول تجربة إخراجية طويلة للسعودية هيفاء المنصور، وأول فيلم روائي طويل للمخرج الكردي/ العراقي كرزان قادر المقيم في المهجر السويدي. اجتمع الفيلمان أيضا على تناول عالم الطفولة من جانبه المعتم شكلا والمتوهج حلما، ومن حيثياته الخارجية المحاصرة بالإقصاء والنبذ، ومساراته الداخلية المضاءة بالتمرد البرئ والمشفوعة بالرغبة في التغيير واكتشاف الحياة. يروي فيلم هيفاء المنصور قصة فتاة في العاشرة من عمرها تعيش روتين الواقع المكرر وتسعى لكسر هذا الطوق الاجتماعي من خلال شراء دراجة هوائية لتنافس صديقها عبدالله الذين يمتلك حرية أكبر في اللهو والمغامرة والشغب، تعيش وجدة وسط جو متوتر بين والدها وأمها، بسبب عدم قدرة الأم على الإنجاب بعد الولادة المتعسرة التي أثمرت عن طفلة وحيدة، يريد الأب أن ينميها بزواج جديد يرضي به والدته والمحيطين به، وبإزاء الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه الأسرة تضطر وجدة للبحث عن بدائل وحلول لجمع المال الكافي لشراء الدراجة، رغم التحذيرات الأخلاقية التي تسمعها في البيت وفي المدرسة، ويستمر الفيلم في إيراد هذه التجاذبات والتصادمات المحيطة بوجدة، إلى أن ينتصر حلمها في النهاية، وفي لقطة معبرة يختتم بها الفيلم، نرى وجدة وهي تتغلب في سباق الدراجات على صديقها عبدالله حتى تصل إلى مفترق الطريق السريع الذي يقع خارج الحي، وخارج المنظومة المحافظة برمتها، وكأنها تستشرف القادم بحلم جديد وأكثر إيغالا في الحرية والمغامرة. أما فيلم “بيكاس” فيتناول قصة طفلين يتيمين فقدا والديهما في الحرب، وعندما تخلى عنهما الجميع استمسكا بحلمهما الوحيد الذي بات أشبه بخلاص نهائي لعذاباتهما، ويتمثل الحلم في الذهاب إلى أميركا ومقابلة (سوبرمان)، الشخصية السينمائية التي تأثرا بها كي يعيد لهما والديهما وكي يمنحهما القوة والأمل خارج الإملاءات المرهقة لليتم والفقر والتشرد في بيئة متصحرة اقتصاديا ومحاصرة بعويل الحرب وجنون الجغرافيا، ووسط مفارقات مضحكة ومبكية يحملنا الفيلم في رحلة بصرية جامحة مع الطفلين، نحو الدروب والمتاهات والمغامرات الشيقة والشائكة التي تتنفس الخوف والعزلة والتسكع، وتعتاش في ذات الوقت على طاقة الحياة ذاتها والمشحونة بالمقاومة والنهم المتواصل لدحر اليأس وهزيمته رغم كل الهبّات العنيفة لشراسة الواقع ووحشيته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©